الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة خامسة
[استخدام الدابة بجزء من الثمرة]
بسم الله الرحمن الرحيم
من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر -حفظه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: الخط وصل -أوصلك الله إلى رضوانه- وكذلك السؤال وصورته.
ما قول العلماء فيمن دفع دابته إلى آخر يسقي عليها زرعا بجزء من الثمرة، سواء كان الدفع قبل وجود الزرع أو بعد ما اخضر الزرع، وسواء كان مدة السقي معلومة أو مجهولة، مثل إلى أن تهزل أو تعجف، هل هذا جائز يشبه دفع الدابة إلى من يعمل عليها ببعض مغلها؟ أم هذا ليس بصحيح لعدم معرفة الأجرة والجهل بالمدة إذ لم توقت؟
فنقول: هذه المسألة لم أقف عليها منصوصة في كلام العلماء، ولكنهم نصوا على ما يؤخذ منه حكم هذه المسألة؛ فمن ذلك أنهم ذكروا أن من شرط صحة الإجارة معرفة قدر الأجرة، ومعرفة قدر المدة. قال في "المغني": يشترط في عوض الإجارة كونه معلوما لا نعلم فيه خلافا، انتهى.
ولكن هذه المسألة هل تلحق بمسائل الإجارة وتعطى أحكامها، أم تلحق بمسائل الشركة وتعطى أحكامها، مثل المساقاة والمزارعة والمضاربة، وغير ذلك من مسائل المشاركات؟
فإن قلنا: إنها بمسائل الإجارة أشبه، فالإجارة لا تصح إلا بأجرة معلومة على مدة معلومة؛ ولهذا اختلف العلماء في جواز إجارة الأرض ببعض ما يخرج منها كثلث أو ربع، فمنعه أبو حنيفة والشافعي وغيرهما، وعللوه بأن العوض مجهول، فلا تصح الإجارة بعوض مجهول، وأجازه الإمام أحمد، فمن أصحابه من
قال: هو إجارة. ومنهم من قال: بل هو مزارعة بلفظ الإجارة. قال في "الإنصاف": والصحيح من المذهب أن هذه إجارة؛ لأن الإجارة تصح بجزء مشاع معلوم مما يخرج من الأرض المأجورة، وهو من مفردات المذهب. انتهى.
قال في "المغني": "إجارة الأرض بجزء مشاع مما يخرج منها، كنصف وثلث وربع، المنصوص عن أحمد جوازه، وهو قول أكثر الأصحاب. واختار أبو الخطاب أنها لا تصح، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وهو الصحيح -إن شاء الله-، لما تقدم من الأحاديث في النهي من غير معارض لها، ولأنها إجارة بعوض مجهول، فلم تصح كإجارتها بثلث ما يخرج من أرض أخرى، ولأنه لا نص في جوازها، ولا يمكن قياسها على المنصوص؛ فإن النصوص إنما وردت بالنهي عن إجارتها بذلك، ولا نعلم في تجويزها نصا.
والمنصوص جواز إجارة ذلك بذهب أو فضة أو شيء معلوم، فأما نص أحمد فيتعين حمله على المزارعة بلفظ الإجارة. انتهى.
وقال في "المغني" أيضا: قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الرجل يدفع البقرة إلى رجل على أن يعلفها ويحفظها، وما ولدت من ولد (فهو) بينهما؟ قال:"أكره ذلك". وبه قال أبو حنيفة وأبو خيثمة، ولا أعلم فيه مخالفا؛ وذلك لأن العوض معدوم مجهول أيوجد أم لا، والأصل عدمه. انتهى.
وأما إن ألحقنا هذه المسألة المسؤول عنها بمسائل الشركة، وقلنا: هي بمسائل الشركة أشبه جرى فيها من اختلاف العلماء ما جرى في نظائرها.
وأنا أذكر لك بعض ما ذكر العلماء في هذا الباب: قال في "المغني": وإن دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها، وما رزق الله بينهما نصفين أو ثلاثا أو كيفما شرط صح، نص عليه في رواية الأثرم ومحمد بن سعيد، ونقل عن الأوزاعي ما يدل على هذا، وكره ذلك الحسن والنخعي. وقال الشافعي وأبو ثور وابن
المنذر وأصحاب الرأي: لا يصح، والربح كله لرب المال، وللعامل أجرة مثله.
ولنا أنها عين نمت بالعمل عليها، فصح العقد عليها ببعض نمائها كالدراهم والدنانير، وكالشجر في المساقاة، والأرض في المزارعة، وقد أشار أحمد رحمه الله تعالى- إلى ما يدل على تشبيهه لمثل هذا بالمزارعة، فقال: لا بأس بالثوب يدفع بالثلث أو الربع، لحديث جابر:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر"1.
وهذا يدل على أنه ظاهر في مثل هذا إلى الجواز، لشبهه بالمساقاة والمزارعة، لا إلى المضاربة ولا إلى الإجارة.
ونقل أبو داود عن أحمد فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة، أرجو أن لا يكون به بأس. ونقل أحمد بن سعيد فيمن دفع عبده إلى رجل يكتسب عليه، ويكون له ثلث ذلك أو ربعه فجائز، والوجه فيه ما ذكرناه في مسألة الدابة.
وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله قميصا وله نصف ربحه بعمله جاز، نص عليه في رواية حرب. وإن دفع غزلا إلى رجل ينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه جاز، نص عليه.
ولم يجز مالك وأبو حنيفة والشافعي شيئا من ذلك. وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع. وسئل: عن الرجل يعطي الثوب بالثلث ودرهم أو درهمين؟ قال: أكرهه؛ لأن هذا شيء لا يعرف الثلث إذا لم يكن معه شيء نراه جائزا؛ لحديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر"2.
قيل لأبي عبد الله: فإن كان النساج لا يرضى حتى يزاد على الثلث درهما؟ قال: فليجعل له ثلثا وعشر ثلث، أو نصف عشر وما أشبهه، انتهى ملخصا.
وقد نص أحمد أيضا على جواز دفع الثوب لمن يبيعه بثمن يقدر له، ويقول: ما زاد فهو لك. وقال في "الإنصاف": "ولو دفع عبده أو دابته إلى من يعمل بهما بجزء من الأجرة،
1 البخاري: الإجارة (2286)، والترمذي: الأحكام (1383)، وأبو داود: البيوع (3408)، وابن ماجه: الأحكام (2467) ، وأحمد (2/ 17،2/ 37).
2 البخاري: الإجارة (2286)، والترمذي: الأحكام (1383)، وأبو داود: البيوع (3408)، وابن ماجه: الأحكام (2467) ، وأحمد (2/ 17،2/ 37).
أو ثوبا يخيطه، أو غزلا ينسجه بجزء من ربحه جاز، نص عليه، وهو المذهب، جزم به ناظم "المفردات"، وهو منها.
وقال في "الحاوي الصغير": ومن استأجر من يجد نخله أو يحصد زرعه بجزء مشاع منه جاز نص عليه في رواية مهنا، وعنه لا يجوز وللعامل أجرة مثله.
ونقل مهنا في "الحصاد": "هو أحب إلي من المقاطعة، وعنه له دفع دابته أو نخله لمن يقوم به بجزء من نمائه، اختاره شيخ الإسلام والمذهب، لا لحصول نمائه من غير عمله، انتهى ملخصا.
وقال في "المغني": وإن اشترك ثلاثة من أحدهم الأرض، ومن الآخر البذر، ومن الآخر البقر، والعمل على أن ما رزق الله بينهم فعملوا، فهذا عقد فاسد نص عليه أحمد في رواية أبي داود ومهنا وأحمد بن القاسم، وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي.
فعلى هذا يكون الزرع لصاحب البذر؛ لأنه نماء ماله، ولصاحبيه عليه أجرة مثلهما، انتهى.
وقال في موضع آخر: فإن اشترك ثلاثة من أحدهم الدابة، ومن آخر راوية، ومن الآخر العمل، على أن ما رزق الله بينهم، صح في قياس قول أحمد، فإنه قد نص في الدابة يدفعها إلى آخر يعمل عليها، على أن لهم الأجرة على الصحة، وهذا مثله.
وهكذا لو اشترك أربعة، من أحدهم دكان، ومن الآخر رحى، ومن آخر بغل، ومن آخر العمل على أن يطحنوا بذلك، فما رزق الله تعالى- بينهم صح، وكان بينهم على ما شرطوه. وقال القاضي: العقد فاسد في المسألتين جميعا. وهو ظاهر قول الشافعي، انتهى.
ومن تأمل ما نقلناه تبين له حكم مسألة السؤال، والله أعلم.