الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعلم منك، فما الذي أوجب اتباع بعضها دون بعض؟
فلو قال صاحب هذه المقالة: أنا أعلم أن التقليد ليس بعلم، وأن الواجب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن قصور أفهامنا، وضعف إدراكنا أوجب لنا التقليد، وألجأت الضرورة إليه، فلو تبين لي في بعض ما قلدت فيه أنه مخالف للسنة اتبعت السنة، وهذا هو الواجب علي، لكني قليل التمييز لقصور فهمي، وأعتقد أن الواجب اتباع السنة، ولا عذر لأحد في مخالفتها إذا ثبتت عنده؛ وقائل ذلك يرجى له السلامة، وهذا كله في غير أصول الدين.
فأما أصول الدين من التوحيد ومعرفة الرسالة وسائر الأصول، فلا يجوز فيها التقليد عند جميع العلماء.
فنسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أن يهدينا لما اخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[الرسالة الرابعة]
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى الولد المكرم محمد بن عبد الله بن سليم سلمه الله تعالى. سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته
(وبعد): موجب الخط إبلاغ السلام والخط وصل -أوصلك الله إلى الخير-. وما ذكرت من المسائل:
[القول بأن الرسول عليه السلام حي في قبره]
فالأولى في قول من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره، فالله سبحانه وتعالى أخبر بحياة الشهداء، ولا شك أن الأنبياء أعلى رتبة من
الشهداء وأحق بهذا، وأنهم أحياء في قبورهم، ونحن نرى الشهداء رميما، وربما أكلتهم السباع، ومع ذلك {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} 1، فحياتهم حياة برزخية، الله أعلم بحقيقتها.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات بنص القرآن والسنة، ومَنْ شك في موته فهو كافر. وكثير من الناس خصوصا في هذه الأزمنة يدعون أنه صلى الله عليه وسلم حي كحياته لما كان على وجه الأرض بين أصحابه، وهذا غلط عظيم؛ فإن الله سبحانه وتعالى أخبر بأنه ميت، وهل جاء أثر صحيح أنه باعثه لنا في قبره كما كان قبل موته؟
وقد قام البرهان القاطع أنه لا يبقى أحد حيا حين يقول الرب -سبحانه-: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} 2، فيكون صلى الله عليه وسلم قد مات، ثم بعث في قبره، ثم مات، فيكون له ثلاث موتات، ولغيره موتتان، وقد قال أبو بكر رضي الله عنه لما جاءه بعد موته:"أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها، ولن يجمع الله عليك موتتين".
وقال -سبحانه- عن جميع أهل الجنة: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} 3 يعني: التي كانت في الدنيا؛ أفيكون الرسول قد مات موتة ثانية بعد الموتة الأولى؟ وأيضا لو كان حيا في قبره مثل حياته على وجه الأرض، لسأله أصحابه عما أشكل عليهم، قال عمر رضي الله عنه "ثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن: الجد، والكلالة، وأبواب من الربا".
فهلا جاء إلى قبره واستسقى بالعباس، ولم يجيئ إلى قبره يستسقي به!
ومعلوم ما صار بعده صلى الله عليه وسلم من الاختلاف العظيم، ولم يجيئ أحد إلى قبره صلى الله عليه وسلم يسأله عما اختلفوا فيه. وفي
1 سورة آل عمران آية: 169.
2 سورة غافر آية: 16.
3 سورة الدخان آية: 56.
الحديث المشهور: "ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام"1؛ فهذا يدل على أن روحه صلى الله عليه وسلم ليست دائمة في قبره.
ومعرفة الميت زائره ليس مختصا به صلى الله عليه وسلم، والذين يظنون أن حياته في قبره كحياته قبل موته يقرؤون في "الشفاء" وغيره الحكاية المشهورة عندهم: أن الإمام مالكا قال للمنصور لما رفع صوته في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم: لا ترفع صوتك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن حرمته ميتا كحرمته حيا، قد عقد ابن القيم -رحمه الله تعالى- في النونية فصلا على من ادعى هذه الدعوى، وأجاد رحمه الله.
[منزلة علي من الرسول عليه الصلاة والسلام]
والحديث الذي يروى: "أنا مدينة العلم وعلي بابها" ليس له أصل. وأما قوله لعلي رضي الله عنه: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"2 فهو حديث صحيح، وسببه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تجهز لغزوة تبوك، لم يأذن لعلي في الغزو، واستخلفه على أهله، فقال علي: يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان. فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ "3.
قال العلماء: يشير إلى قوله: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} 4، فالمراد استخلافه صلى الله عليه وسلم عليا على أهله في سفر غزوه.
[القول بشفاعة الرسول عليه السلام للمشركين يوم القيامة]
وأما من قال أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للمشركين يوم القيامة، فهذا كذب يرده قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو هريرة رضي الله عنه:"من أحق الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله" فشفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل التوحيد
1 أبو داود: المناسك (2041) ، وأحمد (2/ 527).
2 البخاري: المناقب (3706) والمغازي (4416)، ومسلم: فضائل الصحابة (2404)، والترمذي: المناقب (3731)، وابن ماجه: المقدمة (115،121) ، وأحمد (1/ 170،1/ 173،1/ 174،1/ 175،1/ 177،1/ 179،1/ 182،1/ 184).
3 البخاري: المناقب (3706) والمغازي (4416)، ومسلم: فضائل الصحابة (2404)، والترمذي: المناقب (3731)، وابن ماجه: المقدمة (115،121) ، وأحمد (1/ 170،1/ 173،1/ 174،1/ 175،1/ 177،1/ 179،1/ 182،1/ 184،1/ 185).
4 سورة الأعراف آية: 142.
لا للمشركين. وقال صلى الله عليه وسلم: "إني اختبأت دعوتي شفاعة لأهل الكبائر من أمتي، فهي نائلة -إن شاء الله تعالى- مَنْ مات لا يشرك بالله شيئا"1.
[شبهات القبوريين في شركهم]
وأما قول القائل: إن دعاءهم الأموات، وسؤالهم قضاء الحاجات مجاز، والله هو المسؤول حقيقة؛ فهذا حقيقة قول المشركين:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3؛ فهم يسألون الوسائط زاعمين أنهم يشفعون لهم عند الله في قضاء حوائجهم.
قال شيخ الإسلام تقي الدين -رحمه الله تعالى-: فمن جعل بينه، وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا. اهـ.
وأما قول من يقول: إن الآيات التي نزلت بحكم المشركين الأولين، فلا تتناول من فعل فعلهم، فهذا كفر عظيم، مع أن هذا قول ما يقوله إلا ثور مرتكس في الجهل.
فهل يقول: إن الحدود المذكورة في القرآن والسنة لأناس كانوا وانقرضوا؟ فلا يُحد الزاني اليوم، ولا تُقطع يد السارق ونحو ذلك! مع أن هذا قول يستحيا من ذكره.
أفيقول هذا: إن المخاطبين بالصلاة والزكاة وسائر شرائع الإسلام انقرضوا، وبطل حكم القرآن؟!
وأما قول من يقول: إن النبي أو غيره ينجي من عذاب الله، أو يغني من الله شيئا، فهذا كفر صريح يحكم بكفر صاحبه بعد تعريفه إن كان جاهلا؛ بل أبلغ من ذلك لو قال: إن أحدا يشفع عند الله من غير إذن له، فهو كافر.
وأما قول بعض الناس إذا سئل عن شيء: الله ورسوله أعلم. فهذا يجري على ألسنة كثير من الناس من غير اعتقاد شيء، فالواجب تعليم مثل هذا، والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 مسلم: الإيمان (199)، وابن ماجه: الزهد (4307) ، وأحمد (2/ 426).
2 سورة يونس آية: 18.
3 سورة الزمر آية: 3.