الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر إنما يدعى له، لا يمدح، لا سيما بما ليس فيه. وهؤلاء الذين يُمدحون في الخطب هم الذين أماتوا الدين، فمادحهم مخطئ، وليس في الولاة اليوم من يستحق المدح، لا يثنى عليه، وإنما يُدعى لهم بالتوفيق، والهداية، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
من جمعان بن ناصر إلى جناب الشيخ المكرم عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)
سلمه الله تعالى.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(وبعد): أمتعنا الله بحياتك، المرجو من إحسانك الإفادة عن القدَرية ومذهبهم، وعن المعتزلة ومذهبهم، وعن الخوارج ومذهبهم، أثابك الله الجنة بمَنِّه وكرمه.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
(وبعد): فالجواب -وبالله التوفيق-:
[الإيمان بالقدر ومعناه]
قد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبريل بالاعتقاد الباطن فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"1.
والأحاديث في إثبات القدر كثيرة جدا. والقدر الذي يجب الإيمان به على درجتين:
الدرجة الأولى: الإيمان بأن الله سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشر، وطاعة ومعصية، قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو من أهل النار؛ وأعد لهم الثواب، والعقاب جزاء لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم؛ وأنه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه، وكتابه.
والدرجة الثانية: الإيمان بأن الله خلق أفعال العباد كلها: من الكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، وشاءها منهم؛ فهذه الدرجة يثبتها أهل السنة والجماعة،
1 مسلم: الإيمان (8)، والترمذي: الإيمان (2610)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990)، وأبو داود: السنة (4695)، وابن ماجه: المقدمة (63) ، وأحمد (1/ 28).
وينكرها جميع القدرية، يقولون: إن الله لم يخلق أفعال العباد، ولا شاءها منهم، بل هم الذين يخلقون أفعال أنفسهم من خير وشر، وطاعة ومعصية.
والدرجة الأولى نفاها غلاة القدرية: كمعبد الجهني، وعمرو بن عبيد؛ ونص أحمد والشافعي على كفر هؤلاء.
[القول بأن الله لم يخلق أعمال العباد ولم يشأها]
وأما من قال: إن الله لم يخلق أعمال العباد ولم يشأها منهم، مع إقرارهم بالعلم، ففي تكفيرهم نزاع مشهور بين أهل العلم. فحقيقة القدر الذي فرض علينا الإيمان به أن نعتقد أن الله سبحانه وتعالى علم ما العباد عاملون قبل أن يوجدهم، وأنه كتب ذلك عنده، وأن أعمال العباد خيرها وشرها مخلوقة لله، واقعة بمشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، قال الله -تعالى-:{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1، وقال:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} 2، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} 3، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} 4.
فهذه الآيات ونحوها صريحة في أن أعمال العباد خيرها وشرها، وضلالهم واهتداءهم، كل ذلك صادر عن مشيئته، وقال -تعالى-:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} 5 وقال: {إِنَّ الأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} 6، فدل ذلك على أن الله -سبحانه- هو الذي جعلها فاجرة، أو تقية، وأنه خلق الإنسان هلوعا، خلقه متصفا بالهلع. وقال:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} 7، ففي هذه الآية بيان أن الله خلق المؤمن وإيمانه، والكافر وكفره. وقد صنف البخاري -رحمه الله تعالى- كتاب خلق أفعال العباد، واستدل بهذه الآيات، أو بعضها على ذلك، وفي الحديث:"إن الله خلق كل صانع وصنعته".
[الأدلة على تقدم علم الله سبحانه بجميع الكائنات قبل إيجادها]
أما الأدلة على تقدم علم الله -سبحانه- بجميع الكائنات قبل إيجادها، وكتابته ذلك، ومنها السعادة والشقاوة، وبيان أهل الجنة وأهل النار قبل
1 سورة المدثر آية: 31.
2 سورة الأنعام آية: 137.
3 سورة البقرة آية: 253.
4 سورة الأنعام آية: 107.
5 سورة الشمس آية: 7.
6 سورة المعارج آية: 19.
7 سورة التغابن آية: 2.
أن يوجدهم، فكثيرة جدًّا، كقوله -تعالى-:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 1.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء"2، وفي حديث آخر:"إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة"3.
والأحاديث في هذا كثيرة جدا، فهؤلاء الذين وصفنا قولهم بأن الله لم يخلق أفعال العباد، ولا شاءها منهم، هم القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة. وقابلتهم طائفة أخرى غلوا في إثبات القدر، وهم يسمون الجبرية، فقالوا: إن العبد مجبور مقهور على ما يصدر منه، لا قدرة له فيه، ولا اختيار؛ بل هو كغصن الشجرة الذي تحركه الريح. والذي عليه أهل السنة، والجماعة: الإيمان بأن أفعال العباد مخلوقة لله، صادرة عن مشيئته، وهي أفعال لهم، وكسب لهم باختيارهم؛ فلذا ترتب عليها الثواب والعقاب. والسلف يسمون الجبرية قدرية؛ لخوضهم في القدر.
ولهذا ترجم الخلال في كتاب السنة، فقال: الرد على القدرية، وقولهم: إن الله جبر العباد على المعاصي، ثم روى عن بقية، قال: سألت الزبيدي، والأوزاعي عن الجبر، فقال الزبيدي: أمر الله أعظم، وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي، ويقدر، ويخلق، ويَجبُل عبده على ما أحب.
وقال الأوزاعي: ما أعرف للجبر أصلا من القرآن ولا السنة، فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والجبل والخلق، فهذا يعرف من القرآن، والحديث.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-*: فهذان الجوابان اللذان
1 سورة الحديد آية: 22.
2 مسلم: القدر (2653)، والترمذي: القدر (2156) ، وأحمد (2/ 169).
3 الترمذي: تفسير القرآن (3319) ، وأحمد (5/ 317).
* انظر "درء تعارض العقل والنقل" 1/ 67، و"مجموع الفتاوى" 3/ 323. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
ذكرهما هذان الإمامان في عصر تابعي التابعين من أحسن الأجوبة.
أما الزبيدي فقال ما تقدم؛ وذلك لأن الجبر في اللغة: إلزام الإنسان بغير رضاه، كما يقول الفقهاء: هل تجبر المرأة على النكاح أم لا؟ وإذا عضلها الولي ماذا تصنع؟ فقال: الله أعظم من أن يجبر، أو يعضل؛ لأن الله قادر على أن يجعل العبد مختارا راضيا لما يفعله، مبغضا تاركا لما يتركه، فلا جبر على أفعاله الاختيارية، ولا عضل عما يتركه لكراهته أو عدم إرادته. وروي عن سفيان الثوري -رحمه الله تعالى- أنه أنكر جَبَرَ، وقال: الله -سبحانه- جَبَلَ العباد. وقال الراوي عنه: أراد قوله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: "بل جبلت عليهما"1، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله. يعني الحلم والإناءة.
وقال المروزي للإمام أحمد: إن رجلا يقول: إن الله جبر العباد، فقال: لا نقول هكذا، وأنكر هذا، وقال:{يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2.
[عقيدة المعتزلة]
وأما المعتزلة: فهم الذين يقولون بالمنزلة بين المنزلتين، يعنون أن مرتكب الكبيرة يصير في منزلته بين الكفر والإسلام، فليس هو بمسلم ولا كافر. ويقولون: إنه يخلد في النار، ومن دخل النار لم يخرج منها بشفاعة، ولا غيرها. وأول من اشتهر عنه ذلك عمرو بن عبيد، وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين الجماعة، فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة؛ وهم كانوا بالبصرة بعد موت الحسن البصري. وضَم المعتزلة إلى ذلك التكذيب بالقدر، ثم ضموا إلى ذلك نفي الصفات، فيثبيتون الاسم دون الصفة، فيقولون: عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وهكذا سائر الصفات؛ فهم قدرية جهمية، وامتازوا بالمنزلة بين المنزلتين، وخلود عصاة الموحدين في النار.
1 ابن ماجه: الزهد (4187).
2 سورة المدثر آية: 31.
[عقيدة الخوارج]
وأما الخوارج: فهم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه وقبل ذلك قتلوا عثمان؛ وكفروا عثمان وعليا وطلحة والزبير ومعاوية وطائفتي علي ومعاوية، واستحلوا دماءهم. وأصل مذهبهم الغلو الذي نهى الله عنه، وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فكفَّروا من ارتكب كبيرة، وبعضهم يكفر بالصغائر، وكفروا عليا، وأصحابه بغير ذنب، فكفروهم بتحكيم الحَكمَين: عمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري، وقالوا: لا حكم إلا لله، واستدلوا على قولهم بالتكفير بالذنوب بعمومات أخطؤوا فيها، وذلك كقوله سبحانه وتعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} 1، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا} 2، وقوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} 3 الآية، وغير ذلك من الآيات.
وأجمع أهل السنة، والجماعة أن أصحاب النار لا يخلدون في النار، إذا ماتوا على التوحيد، وأن من دخل النار منهم بذنبه يخرج منها كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضا فلو كان الزاني، وشارب الخمر، والقاذف، والسارق، ونحوهم، كفارا مرتدين، لكان حكمهم في الدنياالقتل، الذي هو حكم الله في المرتدين، فلما حكم الله على الزاني البكربالجلد، وعلى السارق بالقطع، وعلى الشارب، والقاذف بالجلد، قلنا: حكم الله فيهم بذلك لأنهم لم يكفروا بهذه الذنوب كما تزعمه الخوارج.
فإذا عرفت مذهب الخوارج أن أصله التكفير بالذنوب، وكفَّروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحلوا قتلهم متقربين بذلك إلى الله، فإذا تبين لك ذلك تبين ضلال كثير من أهل هذه الأزمنة، في زعمهم أن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- وأتباعه خوارج، ومذهبهم مخالف
1 سورة الجن آية: 23.
2 سورة النساء آية: 14.
3 سورة النساء آية: 93.
لمذهب الخوارج، لأنهم يوالون جميع أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم ويعتقدون فضلهم على من بعدهم، ويوجبون أتباعهم، ويدعون لهم، ويضللون من قدح فيهم، أو تنقص أحدا منهم. ولا يكفرون بالذنوب، ولا يخرجون أصحابها من الإسلام، وإنما يكفرون من أشرك بالله، وحسن الشرك؛ والمشرك كافر بالكتاب والسنة والإجماع. فكيف يجعل هؤلاء مثل أولئك؟ وإنما يقول ذلك معاند يقصد التنفير للعامة، أو يقول ذلك جاهلا بمذهب الخوارج، ويقوله تقليدا.
ولو قدرنا أن إنسانا يقع منه جراءة وجسرة على إطلاق الكفر جهلا منه، فلا يجوز أن ينسب إلى جميع الطائفة، وإنما ينسب إليهم ما يقوله شيخهم وعلماؤهم بعده؛ وهذا أمر ظاهر للمنصف، وأما المعاند المتعصب فلا حيلة فيه. إذا عرفت مذاهب الفرق المسؤول عنها، فاعلم أن أكثر أهل الأمصار اليوم أشعرية، ومذهبهم في صفات الرب سبحانه وتعالى موافق لبعض ما عليه المعتزلة الجهمية؛ فهم يثبتون بعض الصفات دون بعض. فيثبتون الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، وينفون ما سوى هذه الصفات بالتأويل الباطل، مع أنهم وإن أثبتوا صفة الكلام موافقة لأهل السنة فهم في الحقيقة نافون لها لأن الكلام عندهم هو المعنى فقط، ويقولون: حروف القرآن مخلوقة؛ لم يتكلم الله بحرف ولا صوت. فقالت لهم الجهمية: هذا هو نفس قولنا: إن كلام الله مخلوق لأن المراد الحروف لا المعنى.
تقارب الأشعرية من المعتزلة والجهمية في بعض الصفات
ومذهب السلف قاطبة: أن كلام الله غير مخلوق، وأن الله -تعالى- تكلم بالقرآن، حروفه ومعانيه، وأن الله سبحانه وتعالى يتكلم بصوت يسمعه من يشاء.
والأشعرية لا يثبتون علو الرب فوق سماواته واستواءه على عرشه
ويسمون من أثبت صفة العلو والاستواء على العرش مجسما مشبها، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة؛ فإنهم يثبتون صفة العلو، والاستواء، كما أخبر الله -سبحانه- بذلك عن نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تكييف ولا تعطيل.
وصرح كثير من السلف بكفر من لم يثبت صفة العلو والاستواء. والأشاعرة وافقوا الجهمية في نفي هذه الصفة، لكن الجهمية يقولون: أنه سبحانه وتعالى في كل مكان، ويسمون الحلولية، والأشعرية يقولون: كان ولا مكان، فهو على ما كان قبل أن يخلق المكان. والأشعرية يوافقون أهل السنة في رؤية المؤمنين ربهم في الجنة، ثم يقولون: إن معنى الرؤية إنما هو زيادة علم، يخلقه الله في قلب الناظر ببصره، لا رؤية بالبصر حقيقة عيانا. فهم بذلك نافون للرؤية التي دل عليها القرآن، وتواترت بها الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومذهب الأشاعرة: أن الإيمان مجرد التصديق، ولا يدخلون فيه أعمال الجوارح. قالوا: وإن سميت الأعمال في الأحاديث إيمانا، فعلى المجاز لا الحقيقة.
ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح. وقد كفر جماعة من العلماء من أخرج العمل عن الإيمان. فإذا تحققت ما ذكرنا عن مذهب الأشاعرة من نفي صفات الله سبحانه وتعالى غير السبع التي ذكرنا، ويقولون: إن الله لم يتكلم بحرف، ولا صوت، وأن حروف القرآن مخلوقة، ويزعمون أن كلام الرب سبحانه وتعالى معنى واحد، وأن نفس القرآن هو نفس التوراة والإنجيل، لكن إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالعبرانية فهو توراة، وإن عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل، ولا يثبتون رؤية أهل الجنة ربهم بأبصارهم، إذا عرفت ذلك عرفت
خطأ من جعل الأشعرية من أهل السنة، كما ذكره السفاريني في بعض كلامه، ويمكن أنه أدخلهم في أهل السنة مدارة لهم لأنهم اليوم أكثر الناس، والأمر لهم، والله أعلم، مع أنه قد دخل بعض المتأخرين من الحنابلة في بعض ما هم عليه.
[معنى يأس الشيطان من كفر جزيرة العرب]
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد أيس من أن يعبده المصلون في جزيرة العرب"1 فقد يحتج بهذا الحديث من زعم أن هذه الأمور الشركية التي تفعل عند القبور ومع الجن، مثل سؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والاستعاذة بهم، والتقرب إليهم بالذبح لهم، والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادات، ليست عبادة لهم ولا شركا، فيقال:(أولا): إن النبي صلى الله عليه وسلم نسب الإياس إلى الشيطان، ولم يقل: إن الله آيسه، فالإياس الصائر من الشيطان لا يلزم تحقيقه واستمراره، ولكن عدو الله لما رأى ما ساءه من ظهور الإسلام في جزيرة العرب وعلوه أيس من ترك المسلمين دينهم الذي أكرمهم الله به، ورجوعهم إلى الشرك الأكبر، وهذا كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن الكفار في قوله:{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} 2، قال المفسرون: لما رأى الكفار ظهور الإسلام في أرض العرب، وتمكنه فيها، يئسوا من رجوع المسلمين عن الإسلام إلى الكفر.
قال ابن عباس وغيره من المفسرين: يئسوا أن تراجعوا دينهم، قال ابن كثير: وعلى هذا يرد الحديث الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم"3 يعني أن إياس الشيطان مثل إياس الكفار، وأن الكل يئس من ارتداد المسلمين، وتركهم دينهم، ولا يلزم من ذلك امتناع وجود الكفار في أرض العرب؛ ولهذا قال ابن رجب على الحديث: إن الشيطان يئس أن تجتمع
1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2812)، والترمذي: البر والصلة (1937) ، وأحمد (3/ 313،3/ 354،3/ 384).
2 سورة المائدة آية: 3.
3 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2812)، والترمذي: البر والصلة (1937) ، وأحمد (3/ 313،3/ 354،3/ 366،3/ 384).
الأمة على أصل الشرك الأكبر. يوضح ذلك ما حصل من ارتداد أكثر أهل الجزيرة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقتال الصديق والصحابة لهم على اختلاف تنوعهم في الردة، وقال أبو هريرة لما مات النبي صلى الله عليه وسلم: وكان أبو بكر وكفر من كفر من العرب، وردة بني حنيفة مشهورة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون"1 معناه: أنه يئس أن يطيعه المصلون في الكفر بجميع أنواعه، لأن طاعته في ذلك هي عبادته، قال الله تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 2.
ومن استدل بالحديث على امتناع وجود كفر في جزيرة العرب، فهو ضال مضل، فماذا يقول هذا الضال في الذين قاتلهم الصديق والصحابة من العرب، وسموهم مرتدين كفارا؟ فلازم دعوى هذا الضال أنه لم يكفر أحد من العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الصحابة أخطؤوا في قتالهم والحكم عليهم بالردة، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى" ومكانهما معلوم، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس عند ذي الخلصة"3 وهو صنم لدوس رهط أبي هريرة، بعث النبي صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي وهدمه. وفي الحديث الصحيح من خبر الدجال:"أنه لا يدخل المدينة بل ينزل بالسبخة؛ فترجف المدينة ثلاث رجفات فيخرج منها على كافر ومنافق"4 فأخبر أن في المدينة إذ ذاك كفارا ومنافقين.
ويقال -أيضا- لهذا المجادل: بين لنا الشرك الذي حرمه الله وعظم أمره
1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2812)، والترمذي: البر والصلة (1937) ، وأحمد (3/ 313،3/ 354،3/ 366،3/ 384).
2 سورة يس آية: 60.
3 البخاري: الفتن (7116)، ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2906) ، وأحمد (2/ 271).
4 أحمد (4/ 338).