المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثامن العالم قبل بزوغ الإسلام - محمد في التوراة والإنجيل والقرآن

[إبراهيم خليل أحمد]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم للمؤلف

- ‌تقريظ للمغفور له الأستاذ علي حسب الله

- ‌تقريظ للمغفور له الشيخ عبد الحليم محمود علي شيخ الجامع الأزهر السابق:

- ‌تقريظ لفضيلة الشيخ محمد الغزالي السقا

- ‌رؤية مستنيرة لأسرار إسلامي

- ‌استحقاق نسل إسماعيل لحقوق البكورية:

- ‌نص شريعة حق البكورية

- ‌الباب الأول التوراة والإنجيل يتنبآن ببعث الرسول الكريم

- ‌بشارات من التوراة والإنجيل

- ‌ثانياً - من الأنبياء:

- ‌ثالثا - نبوءات من الإنجيل:

- ‌الباب الثاني ما الذي اختلفت عليه أهل الكتاب

- ‌ما حديث الأناجيل عن شخصية المسيح

- ‌المشكلة التي واجهها المسيح في إنجيله:

- ‌موقف الأحبار والكهنة من المسيح:

- ‌الباب الثالث المسيحية وتطويرها

- ‌أسلوب المسيح في بشارته بملكوت الله:

- ‌نظرية بولس في التفكير

- ‌الباب الرابع المسيحيون والتعاليم الكتابية

- ‌اكتشاف مخطوطات قديمة:

- ‌إنجيل برنابا:

- ‌الباب الخامس القرآن الكريم يهدي أهل الكتاب إلى الصراط المستقيم

- ‌جاء المسيح عيسى ابن مريم فماذا وجد

- ‌7 - المسيح والدينونة:

- ‌والآن لنتتبع المنهاج المرسوم:

- ‌هذه هي الحقائق الإلهية الثمنية:

- ‌الباب السادس الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وإيمانه بشخص المسيح عليه السلام

- ‌شهادة الإنجيل

- ‌2 - المسيح عيسى ابن مريم يخضع لناموس الراحة والتعب:

- ‌3 - المسيح عيسى بن مريم يخضع لناموس المؤثران العاطفية:

- ‌4 - المسيح عيسى ابن مريم يلتزم مكانته فلا يتعداها:

- ‌5 - المسيح عيسى ابن مريم جاء غريباً وعاد غريباً:

- ‌6 - المسيح عيسى ابن مريم رسول الله:

- ‌7 - المسيح عيسى ابن مريم نبي الله:

- ‌8 - المسيح عيسى بن مريم رفيع الدرجة عند الله والناس:

- ‌مقارنة بين تعاليم المسيح وتعاليم بولس

- ‌الباب السابع الكتاب المقدس والعقيدة المسيحية

- ‌(ب) تطور اللغة العبرية:

- ‌2 - اللغة العبرية

- ‌(هـ) قواعد اللغة العبرية:

- ‌(ز) السامريون:

- ‌2 - الكتاب المقدس والعهد الجديد

- ‌(ب) إنجيل متى:

- ‌(جـ) إنجيل لوقا:

- ‌(د) إنجيل يوحنا:

- ‌خلاصة القول:

- ‌3 - الكتاب المقدس والأبوكريفا

- ‌اكتشاف الإنجيل:

- ‌موقف الكنيسة من إنجيل برنابا:

- ‌البراهين القاطعة على انتشار إنجيل برنابا قبل الإسلام:

- ‌مخالفة إنجيل برنابا للأناجيل الأربعة:

- ‌التعليق:

- ‌5 - الكتاب المقدس والخط اللاتيني

- ‌6 - الكتاب المقدس والنسخ الخطية

- ‌(ب) العقيدة المسيحية

- ‌2 - الآباء وتطوير المسيحية

- ‌المشكلة التي تعرضت لها الكنيسة

- ‌4 - الفلاسفة وتطوير العقيدة

- ‌5 - الصليب

- ‌(ب) التاريخ السياسي للصليب:

- ‌1 - الشعب اليهودي يمجد مسيح الله:

- ‌2 - الحواريون ينظرون إلى المسيح كابن لله فكيف يتخلى عنه الله

- ‌3 - التباس الحوادث مما ينفي حادث الصلب عن المسيح:

- ‌4 - موقف القرآن الكريم من الصلب:

- ‌6 - براءة الإسلام من الشبهات

- ‌3 - وفي قولهم إن المسيح عيسى ابن مريم أقنوم من الأقانيم الثلاثة:

- ‌الباب الثامن العالم قبل بزوغ الإسلام

- ‌الباب التاسع (أ) العالم في فجر الإسلام

- ‌(ب) التوسع الإسلامي وأثره

- ‌نظرة إلى التاريخ:

- ‌الباب العاشر 1 - لمحة من حياة محمد

- ‌(1) الرجل الكامل في القرآن

- ‌(ب) القرآن وأدب النفس:

- ‌(جـ) عظمة النبوة:

- ‌2 - الزواج والطلاق في الإسلام

- ‌لا رهبانية في الإسلام:

- ‌(ب) الطلاق في الإسلام:

- ‌المراجع

الفصل: ‌الباب الثامن العالم قبل بزوغ الإسلام

‌الباب الثامن العالم قبل بزوغ الإسلام

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}

سارت الكنيسة - منذ أن أصبحت هيئة رسمية - على نهج النظام الإداري الإمبراطوري، وتطلب هذا النهج قيام شخصية عظيمة على رأسها، تعادل في الزعامة والقوة ما للإمبراطور على الإمبراطورية الرومانية بأسرها. ولعلنا نلاحظ فارقا واضحا بين الشرق والغرب، ففي الشرق تزعم الأباطرة الكنيسة منذ عهد الإمبراطور قسطنطين حتى غدوا يمثلون القيصرية البابوية.

ومن الواضح أن الإمبراطور قسطنطين وضع أساس هذه السياسة عندما شد من أزر المسيحية، واعترف بها ديناً رسمياً للدولة، وشيد القسطنطينية قاعدة الإمبراطورية "قيصرية بابوية".

وكان للإمبراطور الحق في دعوة المجامع الدينية لبحث مختلف المشاكل المتعلقة بالكنيسة والعقيدة المسيحية.

أما في الغرب فإن الوضع يختلف عن ذلك كثيرا، لأن الإمبراطورية الغربية أصبحت - بعد تقسيم العالم الروماني شرقي أو بيزنطي، ورماني غربي - ضعيف، لا تستطيع أن تفرض سيطرتها على الكنيسة والدولة جميعا كما حدث في الشرق.

ولكنها سرعان ما وجدت ضالتها المنشودة في شخص أسقف روما الذي تحول كرسيه إلى بابوية لها السيادة العليا على الكنيسة في مختلف أنحاء العالم الغربي. وترجع أسباب

ص: 177

ازدهار روما إلى أهمية المدينة ذاتها، فاستغل أساقفة روما هذه الأهمية والمكانة، لتحقيق نوع من السمو والزعامة على باقي أسقفيات الغرب.

وكان التنافس على أشدة بين القسطنطينية وروما، فاستندت القسطنطينية على أنها قاعدة الإمبراطورية السياسية، ومقر إقامة الأباطرة. واعتمدت روما على تشريف خليفة المسيح عيسى بن مريم، وهو بطرس الحواري، ومكانة بطرس في الكنيسة مكانة الصخرة التي بها يدعم الإيمان المسيحي، لهذا قال عنه المسيح:"أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابن كنيستي"، وبالإضافة إلى هذا خول له المسيح حق الحل والربط، إذ أعطاه مفاتيح ملكوت السموات. وفي إنجيل متى:"وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أنت كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السموات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السماء".

وإذا كان هذا التشريف لبطرس زعيم الحواريين ومقدم الرطل - فإن خلفاءه أساقفة روما أحق الناس بأن يرثوا عنه زعامة العالم.

والواقع أننا لم نعرف من أساقفة روما في القرن الرابع وبعد عصر قسطنطين إلا نفرا ارتبطت أسماؤهم بحوادث جسام، ومن هؤلاء البابا داماسوس 336 - 384 م الذي كتب مؤلفا استعرض فيه مكانة كرسي روما الأسقفي، وأكد سيادة البابوية وسموها، كما أنه عهد إلى القديس جيروم بترجمة الإنجيل إلى اللاتينية.

أما خليفته البابا سيركيوس 384 - 399 م فترجع إليه أولى المراسيم البابوية من عهده، التي تناولت مسائل معروضة على أسقف روما للبت فيها.

وبعد ذلك اشتهر البابا ليو الأول 440 - 461 م الذي تم في عهده الاعتراف بسيطرة البابوية على كافة الكنائس المحلية في الغرب.

وفي سنة 455 م أصدر الإمبراطور فالنشيان الثالث إمبراطور الغرب مرسوما إمبراطوريا يقضي بخضوع جميع أساقفة الغرب للكرسي البابوي.

وهكذا ازدهرت البابوية حتى وصل نفوذها السياسي والديني إلى القمة في عهد البابا جريجوري الأول 590 - 604 م.

ص: 178

من هذا نجد أن الاعتراف بالمسيحية دينا رسميا للدولة استلزم قيام تنظيم جديد للعلاقة بين الكنيسة من جهة، والدولة المجتمع من جهة أخرى، ذلك أن الامبراطورية الرومانية كان لها دين رسمي وكهنة يتمتعون بمساندة الحكومة وتأييدها. ولكن رجال الدين في العصر الوثني لم يحاولوا التدخل في شئون السلطة الزمنية مطلقا، على عكس الكنيسة التي أخذت تكتسب شيئا فشيئا جديدة منافسة للسلطة العلمانية، مما أوجد نفورا بين السلطتين الزمنية والروحية.

ونلاحظ أيضا أن تدخل الكنيسة في شئون السلطة الزمنية يمتد ويشتد بقوة تبعا لازدياد ضعف الإمبراطورية الرومانية، الذي أدى في النهاية إلى بسط سلطان الكنيسة المطلق وإحلالها محل الأباطرة في تصريف شئون الدولة.

وهكذا أصبح الأساقفة يضطلعون بعبء التنظيم الإداري في أقليم الإمبراطورية الرومانية، فضلا عن قيامهم بمهام التنظيم الكنسي.

ولقد كانت هناك مساجلات بين الأباطرة والباباوات، نذكر منها مساجلة بين فردريك والبابا أدريان الرابع، إذ قال فردريك ردا على رسالة البابا:"إننا نتسلم الإمبراطورية من الله عن طريق انتهاب الأمراء، وإن شريعة الله تقتضي أن يكون حكم العالم بواسطة سيد الإمبراطورية والبابوية، كما قضت تعاليم القديس بطرس بأنه يجب على الناس أن يخافوا الله وأن يحترموا الملك، وعلى هذا يعتبر كل من يقول بأننا تسلمنا التاج الإمبراطوري إقطاعاً من البابا ملحداً باطل العقيدة، لأنه يخالف أوامر الله وتعالم القديس بطرس".

وبهذا استطاع فردريك أن يجعل من نفسه السيد العظيم خليفة قيصر بروسيا 1152 - 1190 م.

وقال جريجوري السابع - الذي تولى منصب البابوية سنة 1073 م - بشأن الكرسي البابوي: "إن قوة الملوك مستمدة من كبرياء البشر، وقوة رجال الدين مستمدة من رحمة الله، إن البابا سيد الأباطرة، لأنه يستمد قداسته من تراث سلفه القديس بطرس".

على أن هناك مشكلة دينية كبرى ظهرت في ذلك العصر وامتد أثرها عدة قرون في تاريخ غرب أوروبا، فضلا عن شرفها، وهذه المشكلة قامت حول عبادة الصور

ص: 179

والأيقونات ومهما كان الامر فإنه يبدو أن عبادة الأيقونات انتشرت انتشاراً سريعا واسعا في القرن الثامن، مما نشأ عنه صراع مستمر بين الأباطرة والبابوية وتطلب من الإمبراطور الأيسوري ليو الثالث علاجا سريعا لهذه المشكلة، بل هناك رأي يقول: إن الإمبراطور ليو استغل هذه المشكلة للقضاء على نفوذ الأديرة اليونانية بعد أن تضخمت ثروتها، وتضاعفت ممتلكاتها المعفاة من الضرائب، وازدادت حقوقها وامتيازاتها ومسموحاتها، مما جعلها خطرا على الدولة.

والغريب أن إثارة الحرب على الأيقونية بدأت في الدولة الإسلامية عندما أمر الخليفة يزيد بن عبد الملك سنة 723 بإزالة جميع الأيقونات من الكنائس الواقعة داخل حدود الدولة العربية، ثم انتقلت الفكرة بعد ذلك إلى الدولة البيزنطية، بدأ ليو الثالث حملة ضد الأيقونات وعبادتها سنة 726. وهنا لا نستطيع أن نجد تفسيرا لقوة الحركة اللاأيقونية في الشرق وضعفها في الغرب إلا أثر العقيدة الإسلامية التي قاومت الأصنام وعبادتها، فضلا عن تأثير اليهود الذين حرموا عبادة الصور وتقديسها.

كان المرسوم الذي أصدره ليو الثالث سنة 726 بتحريم عبادة الأيقونات حازما وشديداً، إذ قضى بإزالة جميع التماثيل والصور الدينية من الكنائس والأديرة، وبدأ المواطنون فعلا في إزالة الصليب الكبير المقام فوق بوابة القصر الإمراطوري في القسطنطينية، ولم تلبث هذه الأعمال أن استفزت رجال الكنيسة لا سيما في الغرب حيث وقف البابا جريجوري الثاني ثم البابا جريجوري الثالث موقفا عنيدا من سياسة الإمبراطور اللا أيقونية حتى أصدر البابا جريجوري الثالث قرارا بحرمان الإمبراطور من رعوية الكنيسة سنة 731 م.

ويهمنا في هذا المقام أن النزال اللا أيقوني كان له أثره الخطير في إيطاليا والبابوية وعلاقتهما بالدولة البيزنطية، ذلك أن أواسط إيطاليا وروما ورافنا وقفت جميعا إلى جانب البابوية في المعسكر الأيقوني، على حين كانت صقلية وجنوب إيطاليا في جانب

ص: 180

الإمبراطور اللا أيقوني.

وقد رد الإمبراطور ليو الثالث على قرار البابا بالحرمان من الكنيسة بأن حرم البابوية من حقوقها وأملاكها في صقلية وجنوب إيطاليا وفصل الكراسي الأسقفية في هذه الجهات عن سلطان البابا الديني والقضائي، وجعلها تحت نفوذ وسلطان بطريق القسطنطينية.

وهكذا جاء النزاع اللا أيقوني ليزيد من حدة الشقاق بين الكنيستين الشرقية والغربية، مما كان له أثر واضح في مستقبل الحوادث التاريخية.

ولقد خلف الإمبراطور ليو الثالث ابنه قسطنطين الخامس (741 - 775 م) الذي وجد أن طريقة العنف وحدها غير كافية لتحقيق سياسته اللا أيقونية وأن كثيراً من الناس استمروا يباشرون عبادة الصور والأيقونات الدينية سرا، ولهذا لجأ إلى عقد مجمع ديني في القسطنطينية سنة 753، 754 م لتأييد سياسته العدائية للبابا وللأيقونية.

وكان أن قرر هذا المجمع تحريم تصوير المسيح بأي شكل من الأشكال لأن هذه الصور والتماثيل تعبر عن طبيعته الإنسانية والإلهية في طابع مجسد بشري، وبذلك تطمس صفته الإلهية. أما صور القديسين فقد حرم المجمع عبادتها هي الأخرى بدعوى أن هذه العبادة ضرب من الوثنية وعبادة البشر.

وهكذا اتخذ قسطنطين من قرارات مجمع القسطنطينية سلاحاً قوياً ساعده على التطرف في اضطهاد الأيقونيين والتنكيل بالديريين بوصفهم أشد أنصار الأيقونية، بل إنه عمد إلى هدم الحياة الديرية في بلاده بمختلف الطرق والوسائل وإن لم يتمكن من تحقيق هدفه.

على أن هذا المجمع لم يكن مسكونيا إلا من الناحية الاسمية فقط لأن البابوية ردت على الدعوة لحضور هذا المجمع بإنزال اللعنة على كل من يحضره. وامتنع عن حضور

ص: 181

بطاركة أنطاكية وبيت المقدس والإسكندرية - الذين كانوا في حماية المسلمين - وبذلك لم يحضر المجمع سوى ثلاثمائة وأربعين أسقفاً تقريباً برئاسة بطريرك القسطنطينية.

هذا هو الصراع بين الأباطرة والبابوية، يشتد بقوة نفوذ الأباطرة، ويضعف بضعف نفوذهم، حتى آلت القوة نهائيا إلى البابوية التي استطاعت أن تفرض سيطرتها على الشعوب في شئونهم الدينية والدنيوية.

ولعل أقوى دليل على هذا هو المجموعة التي تنسب إلى البابا جريجوري السابع 1073 - 1085 م وتعرف باسم الإدارة البابوية.

وأهم موادها:

1 -

البابا وحده هو الذي يتمتع بسلطة عالية.

2 -

البابا وحده يمتلك سلطة تعيين الأساقفة أو عزلهم.

3 -

جميع الأمراء العلمانيين يجب أن يقبلوا قدم الباب وحده.

4 -

للبابا وحده الحق في عزل الأباطرة.

5 -

لا يجوز عقد أي مجمع ديني عام إلا بأمر البابا.

6 -

ليس لأي فرد أن يلغي قرارا بابويا، ومن حق البابا وحده أن يلغي قرارات سائر الناس.

7 -

لا يسأل البابا عما يفعل، ولا يحاكم على تصرفاته.

8 -

للبابا وحده أن يجيز لرعايا أي حاكم علماني التحلل من العهود وإيمان الولاء التي أقسموها لحكامهم.

وهكذا كان الصراع بين الأباطرة والبابوية صراعاً مريراً على حساب الكنيسة وحدها.

ص: 182

وهكذا أيضا يبدو من هذه الإدارة البابوية أن البابوية آمنت إيمانا قويا بأن البابا له السلطة في حكم المجتمع المسيحي، وأنه يعزل الملوك والأباطرة بوصفه نائبا عن القديس بطرس.

ولهذا وجه جريجوري السابع مجمع روما الديني المنعقد سنة 1075 م نحو اتخاذ قرار حاسم بشأن التقليد العلماني هذا نصه:

"أي فرد من الآن فصاعدا يتقلد مهام وظيفته الدينية من أحد الحكام العلمانيين يعتبر مطروداً من هذه الوظيفة ومحروماً من الكنيسة، ومن رعاية القديس بطرس، وإذا جرؤ إمبراطور أو ملك أو دوق أو كونت أو أي شخص علماني على تقليد أحد رجال الدين مهام وظيفته الدينية فإنه يحرم من الكنيسة فوراً".

هذه هي المسيحية وتدخلها في الشئون السياسية بالإضافة إلى نفوذها البعيد المدى في الأمور الكنسية والنظم الكنسية التي تمخضت عن الأسرار السبعة التي يدين لها بالولاء والخضوع كل مسيحي. وهذه الأسرار - من قبيل العلم بالأمر - هي:

1 -

سر المعمودية (التنصير) 2 - سر الميرون (المسحة المقدسة)

3 -

سر الأفخارستيا (العشاء الرباني) .

4 -

سر التوبة (الإعتراف) 5 - سر مسحة المرضى.

6 -

سر الزيجة. 7 - سر الكهنوت.

واعتبرت الكنيسة التقليدية (الكاثوليك والارثوذكس) منذ بداءتها هذه الأسرار السبعة. ولم يستبعدها، وينكرها سوى البروتستانت الذين انشقوا على الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر، ولم يحصل بينهم اتفاق على عدد الأسرار، وارتأى أتباع الكنيسة البروتستانتية أنه لا يوجد إلا سران فقط وهما المعمودية والعشار الرباني، وحجتهم في ذلك أن الكتاب المقدس لم يذكر أن الأسرار الكنسية سبعة إطلاقا.

ولسنا في صدد تفنيده عقيدة، بل بصدد مجرد التمثيل للوقوف على شيء من التعاليم الكنسية التي تقدس كتقديس كلمة الكتاب المقدس.

وامتد النفوذ المسيحي وهيمن على أمور أخرى منها العلم، مما أدى إلى تحديد مجال الدراسات العلمية، لأن العقيدة المسيحية - كما قال المعاصرون - تقوم على أساس الإيمان، في حين يعتمد العلم على العقل والمنطق.

ص: 183

ويكفي أن يطلع المرء على كتابات مفكري العصور الوسطى مثل القديس أوغسطينوس ليدرك مدى التأخر العلمي الذي كانت عليه بلاد الغرب المسيحية.

هذا إلى أن إصرار الكنيسة على توجيه الناس إلى الحياة الباطنية "الجوانية" أعمى أنظار المعاصرين عن العالم الطبيعي المحيط بهم، فالقديس أوغسطينوس سنة 354 - 430 م يبدي دهشته من أن الناس يذهبون بتفكيرهم بعيدا إلى التأمل في ارتفاع الجبال، أو دراسة مدارات الفلك والكواكب، ويهملون التأمل في أنفسهم، بل إن القديس أوغسطينوس نفسه يهزأ من فكرة كون الأرض كروية، تلك النظرية التي عرفها اليونان قبل ذلك بقرون، ويصرح بأن فكرة نصف الكرة الشمالي يقابله نصف الكرة الجنوبي، وأن عليهما مخلوقات خلقها القدير لتدب عليهما - إنما هي فكرة باطلة هرطقية.

وإلى جانب هذا النحطاط في التفكسر العلمي انتشرت الاعتقاد بالخرافات والمعجزات بين أهالي أوروبا الوسطى حتى قضت هذه الشعوذة والأباطيل على البقية من المعرفة العلمية.

ويقول إميل لودفيج: "انتشرت الرهبانية ووجدت بيئة خصبة في مصر، والواقع أن الألوف من أولئك المصريين كانوا من الفلاحين، وليس من المحتمل أن ينتحل الرهبانية ملايين الفلاحين مع استمرارهم على زرع حقول أجدادهم، وقد عانى الفلاحون طائفة من المكاره مدة ثلاثة آلاف سنة من عهد الفراعنة، ومدة سبعمائة سنة من السلطان الأجنبي، وللمرة الأولى يقول أناس من أقوياء الإيمان للعبيد المضطهدين على ضفاف النيل ما ليس لديهم عنه فكر منهم، يقولون لهم إن الإنسان في الحياة الآخرة يحاكم على مقياس آخر فتتوقف سلامته على طهارة قلبه، لا على أبهة ضريحه".

"وتعلن هذه البشرى السارة بلغة الفلاح لأول مرة، وكان الفلاح كارهاً لإغريقية أفلاطون (أنصار الأفلاطونية الجديدة) وللاتينية عباد جوبيتر كابيتو لينوس

"ويظهر كهنة إيزيس عزلا، ويمكن الفقراء أن يشعوا ثورة كالتي وقعت منذ ثلاثة آلاف سنة، ويتصرفون في الأمر ببراعة فيوجهون الجموع ضد الأجنبي، ويعد الأغارقة والرومان من عبدة الأصناف للمرة الأولى لا من قبل النصارى، بل من قبل أتباع الدور القديم بمصر.

ص: 184

"وظاهرة ما بعد ذلك الحين هي اختلاط الأديان، لا اختلاط الشعوب واللغات وحده، واذهب إلى جزيرة بلاق الصغيرة التي يطاف حولها في نصف ساعة، تر أنه كان يقام في وقت واحد من كل يوم بشعائر يسوع وإيزيس، وينقلب معبد الملكة حتشبسوت المأتمى إلى مصح يوناني ثم إلى دير نصراني، واذهب إلى شوطئ بحيرة مريوط تر زمرة يهودية كانت تحتفل في كل خمسين يوما بعيد مشتق من أسطورة للإسكندر حولتها البدهية (البوذية) ، واذهب إلى معبد الكرنك تر أنه استعمل كنيسة، ويجعل النصارى الجدد بأدفو القديس أبولون من خليفة هوروس....

"ويستمع الفلاح المصري إلى هؤلاء الرهبان الذين كانوا يقولون إن يسوع الإله ذا الهالة ليس غير أوزيوس المحول

"ويعترف بالنصرانية في القرن الرابع فيفوق نصارى مصر مضطهديهم عنفا، ويظهر من هؤلاء النصارى أناس بلغوا من التعصب ما يهدمون به المعابد والكتابات والتماثيل والصور الجدارية التي لم يمسها أي شعب أجنبي في ألوف السنين، ويقتل من يزعم أنهم وثنيون بالمئات، وتقطع تلميذة أفلاطون الحسناء ومعلمة علم الفلك في الجامعة، هيباته، إربا وتحرق كصنيعة للشيطان، ولما نهب معبد السرابيوم من غير أن تنزل صاعقة على الهدامين، كان ذلك خلفة لأحد وجوه العالم القديم".

ومما زاد الامر سوءاً أن أوروبا في العصور الوسطى - وهي تعيش في ظلمات بعضها فوق بعض - تورث العالم المخطوطات القديمة، ومنها النسخ القديمة للكتاب المقدس، هذه الثروة الهائلة ورثها العالم من تلكم الأجيال التي تفشي فيها الجهل، ورداءة الخط وانحطاط اللغة. والإيمان بالخرافات والمعجزات.

فكيف للجيل الذي بلغ في مدى تفكيره الحر الطليق أن يصل إلى التفكير في الدوران حول الأرض، وإصابة العدو عي مئات الأميال من قاعدة الصواريخ دون أن تتحرك قوة للدولة المحاربة وأخيراً إلى القمر..

كيف لهذا الجيل أن يتقبل مثل هذه المخطوطات، ويستند إليها. ويعتمد على صحتها؟! إنني أرى المنطق يقول: كيف نؤمن بتراث موروث من عهد تفشي فيه الجهل، ورداءة الخط وانحطاط اللغة وهيمنة الكنيسة على الشئون الزمنية والدينية، وتفشي المعتقدات الباطلة، مثل صكوك الغفران، والمطهر، وغير ذلك مما ندد به

ص: 185

لوثيروس الراهب الألماني زعيم الإصلاح ومؤسس الكنيسة البروتستانتية في القرن السادس عشر؟

وقد كان من نتيجة هذا كله ذلك الفساد الذي استشرى، وعم ربوع الإمبراطورية الرومانية التي تعرضت بسببه للغزو الأجنبي.

ولذلك تعرضت الإمبراطورية البيزنطية في عقد هرقل لغزو الفرس، ففي سنة 614 م اجتاح الفرس بلاد الشام واستولوا على أورشليم (بيت المقدس) ، وفي سنة 616م استولوا على مصر.

ولم يشأ هرقل أن يستسلم لهذه الحروب من الجهتين: الشرقية (بلاد فارس) ، والغربية (الآفار) ، فاخذ يعد جيوشه لمحاربة الفرس، وأخذت الحملة التي أعدها بنفسه طابعا دينياً لاسترداد الصليب الأعظم، وبهذا الطابع الديني تجهزت الحملة التي مكنت هرقل من توجيه ضربه قاصمة إلى الفرس. فقدم سنة 626 م عبر سهول دجلة والفرات نحو قلب الإمبراطورية الفارسية حيث أنزل بكسرى الثاني (590 - 628 م) هزينة ساحقة في ديسمبر سنة 627 م قرب أطلال نينوى، وعندما فر كسرى الثاني من ميدان المعركة لحق به هرقل إلى المدائن عاصمة الفرس، مما أدى إلى قيام ثورة داخلية أطاحت بكسرى الثاني، وجعلت خليفته يعقد صلحاً مع الإمبراطور البيزنطي على العودة إلى الحدود التي كانا عليها من قبل سنة 614 م.

على أن أحوال الدولة الفارسية لم تستقر بعد ذلك، إذ تكاثرت الثورات والانقلابات الداخلية تعاقب على عرش فارس - في فترة تسع سنوات تالية - أربعة عشر حاكماً، مما مزق أوصال الدولة الفارسية وجعلها مسرحاً للفتن والقلاقل الداخلية.

وفي ذلك الوقت تعرضت الدولة الفارسية لغزو من نوع جديد، هو غزو لسحق الوثنية في موطنها.

عن ابن عباس رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين. فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فحسبت أن ابن المسيب قال: "فدعا عليهم رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يمزقوا كل ممزق" رواه البخاري ص6 جـ6.

ص: 186

ذلك النوع الجديد من الغزو هو انسياب الجيوش العربية مؤمنة بربها، ورسوله الكريم وبكتبه وملائكته وبرسله وباليوم الآخر، حتى أنهم الله عليها بنصر رائع في موقعة نهاوند سنة 641 م، وبذلك دالت دولة الفرس لتصبح جزءا من الوطن الإسلامي العربي الكبير.

* * *

ص: 187