الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب التاسع (أ) العالم في فجر الإسلام
علمنا فيما سبق أن دولتي الفرس والروم كانتا في شغل شاغل بالنزاع والحروب المستمرة فيما بينهما، مما صرفهما عن الاهتمام بما يجري في شبه الجزيرة العربية من مولد الرسول الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سنة 570 م تقريبا، والحدث التاريخي للهجرة النبوية الشريفة سنة 622 م تقريباً، ثم ما تبع ذلك من إنهاء حالة الفوضى والتفكك السياسي والنزاع القبلي التي عاش فيها العرب قرونا طويلة، فقد أدى انتصار الإسلام إلى جعل العرب أمة، واحدة متساندة متماسكة، تخضع لحكومة واحدة تدين بدين واحد، شعاره:"لا إله إلا الله محمد رسول الله".
على أن رسالة الإسلام لم يقصد بها العرب وحدهم، بل العالم أجمع. ومن ثم أصبحت مهمة الرسول بعد أن تم له توطيد دعائم الإسلام في بلاد العرب أن يدعو الأمم المجاورة لاعتناق الإسلام قال تعالى:
وقال تعالى:
{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} .
وفي الحديث الشريف: "وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة. وبهذا يتضح الفارق بينه وبين الأنبياء قبله".
وقد كتب الرسول كتباً إلى الأباطرة والملوك حوله، يدعوهم إلى الإسلام دين الوحدانية. ومن كتبه كتاب رفعه إلى المقوقس حاكم مصر هذا نصه:
"من محمد بن عبد الله، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم القبط".
وقرأ المقوقس الكتاب، ثم طواه في عناية وتوقير، ووضعه في حق من عاج، ودفعه إلى واحدة من جواريه. والتفت بعد ذلك إلى حاطب ابن أبي بلعته يسأله أن يحدثه عن النبي، ويصفه له. فلما فعل فكر المقوقس مليا، ثم قال لحاطب:"قد كنت أعلم أن نبيا قد بقى أظن أنه يخرج من أرض العرب، ولكن القبط لا تطاوعني، وأنا أضن بملكي أن أفارقه".
وقد كان من حب الرسول لمصر ولأقباط مصر ما دفعه أن يوصي بهم خيرا بقوله: "استوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمة ورحما". صدق رسول الله الكريم.
ويبدو أن بعض الرسل الذين أوفدهم النبي إلى ملوك الدول المجاورة وحكامها قد صادفوا إعراضاً بل امتهاناً، مما جعل النبي الكريم يعد العدة، ويأتمر بأمره تعالى:
وجاهد الصحابة في سبيل الله جهاد حق وصدق، ونظمت الجيوش العربية دفاعا عن كيانها وكرامة دينها ومبادئها، وشعارها في كل هذا:
"لا إله إلا الله محمد رسول الله"، {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} ، {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .
وزحفت الجيوش العربية عقب سنة 632 م تنقض على الإمبراطورية الرومانية البيزنطية، في عهد الإمبراطور هرقل وعلى الدولة الفارسية الساسانية في عهد ملوكها الذين يتعاقبون واحداً تلو الآخر، فتسحق الدولتين، وتتحقق نبوءة الملك نبوخذ نصر في الحلم الذي رآه وفسره له النبي دانيال، وهذا هو تفسير الحلم:"كنت تنظر وإذا بحجر يقطع من جبل بلا يدين هذا الحجر يسحق التمثال كعصافة تذروها الرياح". هذا الحجر هو الأمة العربية في شخص الرسول الكريم، سحق حضارات الأمم السابقة، ومنها الإمبراطورية الرومانية والدولة الفارسية الساسانية وأصبح الإسلام كالجبل وعلمه "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
وليس العجيب في أمر الغزوات العربية الدفاعية ضد اعتداء الدول المعادية - أن العرب اجترءوا على مهاجمة الفرس والروم وهما أكبر إمبراطوريتين عرفهما العالم بل التاريخ منذ فجر المسيحية حتى القرن السابع المسيحي - ليس العجيب هذا، بل العجيب في الأمر أن العرب غزوا فارس في نفس الوقت الذي غزوا فيه إمبراطورية الروم، وأحرزوا انتصاراتهم الضخمة الرائعة على الدولتين في وقت واحد، إذ تحركت الجيوش الإسلامية في صحراء فلسطين سنة 629 م على أثر انتهاء المعارك المريرة بين الإمبراطوريتين: الرومانية والفارسية، وكأن الله قد أراد للأرض خيرا بانتصار المسلمين إذ خذل به الباطل والبطش والغرور بعد أن مهد لذلك بما كانت تعانيه الإمبراطورية الرومانية من غزوات البرابرة المهاجمين لأراضيها في البلقان، وحركات انفصالية أخذت تقوى عند أقباط مصر، الآراميين في سوريا، والأرمن عند أطراف آسيا الصغرى، مما هدد كيانها ووحدتها تهديدا خطيرا.
وفي خلافة أبي بكر الصديق أمر بتسيير جيشين: أحدهما لغزو الروم، والثاني لغزو الفرس سنة 633 م. وهكذا أخذت الجيوش العربية - بقيادة أبي عبيدة الجراح - تعمل في الشام ضد الروم، في حين كان الجيش الثاني بقيادة خالد بن الوليد يعمل في العراق ضد الفرس.
وقد حاول الإمبراطور هرقل إرسال قوة ضاربة بقيادة أخيه تيودور لإنقاذ الموقف في فلسطين، ولكن القائد العربي المغوار خالد بن الوليد أتى مسرعا من العراق لنجدة إخوانه بالشام، وبذلك أمكن إنزال هزيمة ساحقة بالقوات البيزنطية في موقعة أجنادين سنة 634 م.
وعندما توفى الخليفة أبو بكر الصديق خلفه عمر بن الخطاب 634 - 644 م. الذي اتسعت في عهده فتوحات الإسلام، فاستولى المسلمون على دمشق سنة 635 م، ثم على حمص بعد قليل، وعندئذ سار الإمبراطور هرقل، وحشد جيشاً من ثمانين ألفاً من رجاله لقتال العرب، ولكن خالد بن الوليد أنزل بالجيوش البيزنطية عند اليرموك سنة 636 م هزيمة جديدة ساحقة.
ولما أدرك هرقل أنه من الصعب محاربة المسلمين ترك بيت المقدس تقع في أيدي المسلمين سنة 637 - 638 م.
ولم تكن انتصارات العرب على الفرس أقل سرعة من النتصاراتهم على الروم، ففي سنة 637 م كان العرب قد فتحوا العراق، وفي سنة 641 م أحرزوا انتصاراً ساحقاً في نهاوند، مما فتح الطريق أمامهم إلى قلب بلاد الفرس.
ولم تجد مقاومة الفرس العنيفة في وجه العرب الذين تم لهم القضاء على يزدجرد الثالث أخر ملوك بني ساسان سنة 652 م.
وبذلك اختفت الملكية الفارسية من الوجود وتم للعرب فتح فارس كلها.
وكان العرب من قوة الاستبسال والإيمان في الجهاد في سبيل الله في مستوى رفيع استطاعوا به فتح مصر بقيادة عمرو بن العاص سنة 641 م، أي قبل أن ينتهوا من فتح فارس، ويعتبر فتح مصر بالذات مثلا واضحا على مدى ضعف الدولة الرومانية البيزانطية وانحلالها سياسيا.
ولعل ما عرف عن المسلمين من تسامح مع الشعوب المقهورة جعل تلك الشعوب تدرك أن خلاصها من الاضطهاد العنصري والديني الذي تلاقيه على أيدي البيزنطيين لن يكون إلا على أيدي هذه القوة الجديدة التي بدأت تتوغل في الإمبراطورية الرومانية المتداعية، وأخذ شعب مصر يترقب زحفها إلى مصر، ويتمنى مجيئها.
ويؤرخ (إميل لودفيج) انهيار الدولة الرومانية في مصر بقوله: "لم يستطع جوستينيان أن يشمل النيل بعدله، ولم يأل جوستينيان جهداً في نصر النصرانية فحمل البدويين والبليمي، وزنوج جوار دنقلة أيضا على العماد وكان هذا قبل ولادة
محمد بزمن قليل، وما كان من نزاع بين المذاهب وضعف في الحكومة البيزنطية قد اجتذب الفرس مرة ثانية، فدام احتلالهم العاصمة عشر سنين، ولكن القضاء على تلك الفوضى كان يتطلب أمة جديدة لم يقدر على استعبادها الأشوريون والفرس والمصريون والبطالمة والرومان.
"وكان أولئك الناس يحملون عن شمالهم سيوفا طويلة، وكانوا يحملون عن يمينهم سيوفا قصيرة محدبة الفصل داخلة في منطق، وكانوا يحملون تروسا مدورة، وكان النبالة منهم يلبسون جوارب وأحذية مستوية، وكان الفرسان منهم يلبسون جراميق وصدرات قصيرة وثلاثة أوشحة ملونة ملفوفة حول الخصر والصدر والرأس، ويدخل العرب في سنة 640 م أي بعد وفاة محمد بسنين ثمان، حظيرة التاريخ والدلتا عن انطلاق ديني حربي، يدخلها أبناء البحر والصحراء هؤلاء، يدخلها سكان شبه الجزيرة المجاورة هؤلاء.
"ويستولى عمرو بن العاص، وكان قائدا لجيش الخليفة الثاني عمر، على ميناء بيلوزة، وهليوبوليس ومدن أخرى في الدلتا. ويقوم عمرو بن العاص ويعد نشيده مجدا لمصر، بذلك العمل خلافا لأمر مولاه عمر، الذي قدر عدم كفاية أربعة آلاف فارس لذلك الفتح. ومن النادر أن تسفر مثل تلك المخالفة عن مثل تلك الفائدة، ويدوم سلطان العرب هناك تسعمائة سنة بفضل تلك اليد القوية..
"ويلقي الفاتح حيرة في قلوب البيزنطيين.. وتقوم بيزنطة بأخر محاولة لاسترداد الإسكندرية فتجد جميع مصر مكافحة لها بجانب سادتها الجدد، وتهدم أسوار الإسكندرية بعد أن ظلت عاصمة الدنيا ثلاثة قرون ثم عاصمة مصر وأهم موانئ البحر المتوسط ستة قرون، ويبدو جميع نصارى مصر أنصارا شديدى الحمية للعرب الفاتحين، الذين طردوا السادة الأجانب فتركوا للأقباط الابن الذي هو جوهر الآب، ولم يكرهوهم على عبادة إله واحد ليس ذلك الابن من جوهره.
"ويبني حصن جديد، يبني الفسطاط بالقرب من منفيس وعلى رأس الدلتا، وينقل نحو الشمال نقلا خفيفا في غضون القرون الآتية، ويغدو عاصمة مصر، ويطلق العرب عليه اسم إحدى السيارات مارس التي مرت في ساعات إنشائه الأولى من دائرة نصف نهاره فيدعونه "القاهرة".
ويقول سير أرنولد: "إن ميخائيل الأكبر اليعقوبي كان يرى في فتح العرب المسلمين لمصر وفي انتصاراتهم المتلاحقة يد لعدالة الإلهية التي بعثت لتثأر لما نال الكنيسة المصرية من تعذيب واضطهاد".
ولقد أسرع المصريون إلى اعتناق الإسلام حباً وكرامة، لتعاليمه الصافية، وإيمانا منهم بأن المبادئ السامية التي يطبقها العرب المسلمون في سلوكهم معهم جديرة بأن تكون جزءاً من حياتهم الاجتماعية.
ويسترسل إميل لودفيج فيقول: "عاش السلاطين على شواطئ النيل مسالمين للنصارى قرونا كثيرة، ويقع الصراع ذات حين، وتصعب معرفة المسئول عن ذلك، ولا عجب، مادمنا لا نعرف المسئول عن الحوادث العصرية في الغالب، ومع ذلك يلوح أن التبعة تقع على النصارى، لما كان من رغبتهم في حمل الناس على اعتناق دينهم، وهل انتهك المسلمون حرمة بيت المقدس؟ كان المسيح خامس الأنبياء مرتبة لدى المسلمين، وكان محمد قد صرح بصحة دين اليهود والنصارى الأولين وبأن كتبهم المقدسة هي التي حرفت، ولم يستول العرب وخلفاؤهم على مصر حملا لها على الإسلام وما كان من بدئهم بالهجرة إليها قبل محمد إلى تلك الأرض الخصيبة الطيبة طلبا للحب والجزية، لا حباً لها لحمل الناس على دينهم، وإذ كان العرب يجهلون لغة مصر مع عدم ثقافة فإنهم تركوا إدارة مصر للأقباط الذين كانوا أقدر منهم على الحساب، ويقوم الأقباط بفتن منعاً لزيادة الضرائب في الدلتا فيبدى العرب شدة، وتصبح اللغة العربية لغة مصر الرسمية بعد قرنين فتحل بذلك محل اللغة القبطية، ويكون الأقباط أول من يتعلم اللغة العربية.
"وكان النصارى معتدين عندما حفزهم مقصد نبيل إلى الاستيلاء على القبر المقدس، ولكن القدس لم تظل نصرانية غير 113 سنة من ثلاثة عشر قرناً ثم غدت قبضة المسلمين نهائياً".
ولقد سار المسلمون في نشر دعوتهم في ضوء المبدأ الأساسي للإيمان وهو:
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}
وليس هناك من دليل علة تقدير المسلمين للمواطنين ولو كانوا على غير دينهم وملتهم أوضح من سرعة انتشار الإسلام بين المصريين.
لقد استعادت الكنيسة القبطية في مصر في ظل الحكم الإسلامي قوتها ونفوذها، وأصبح الأقباط في مصر يؤدون طقوسهم الدينية في حرية مطلقة، بفضل المبادئ الإسلامية النقية الصافية".
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}
هذه المبادئ السامية ساعدت العرب على الاستيلاء على قبرص سنة 648 - 649م وعلى رودس سنة 653م، بل هاجموا القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية ذاتها سنة 667م ثم سنة 672 - 673م، في حين انتهوا من غزو شمال أفريقيا بأكمله سنة 709م بفضل جهود موسى بن نصير.
* * *