الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ب) التوسع الإسلامي وأثره
كان للفتوحات الإسلامية الأثر البعيد في البلاد التي دخلت تحت لواء الإسلام، وظهر هذا الأثر بوضوح في شمال إفريقيا، إذ تحول شمال إفريقيا ومصر بأكملها من الحضارة اللاتينية إلى الحضارة العربية، ومن الديانة النصرانية إلى الديانة الإسلامية.
ولا عجب أن يسارع البرابرة - الذين طالما كانوا أشد عناداً في حروبهم - إلى الاندماج في تيار الحضارة، ويصبحوا مسلمين، ولم يكن هناك أي تدخل من جانبي السلطات الإسلامية الحاكمة في عقائد المسيحيين المصريين أو كنيستهم، ولم يحدث قط أن شكا أحد من المسيحيين من تعرض المسلمين له في مجال نشاط الديني، وفي هذا مكنتهى ما تصل إليه حرية العقيدة: أن تجد على اختلاف منازعها - حماية كاملة من الدولة.
وقد ينسى الغرب الحروب المذهبية الدامية منذ عهد لوثيروس إلى القرن الثامن عشر، ويأخذ على المسلمين في عهد الدولة الأموية حركة التذمر التي سادت أقباط مصر، والتي لم يكن من زرائها أي لون من ألوان الاضطهاد الديني، فهلا أخذ على الإمبراطور دقلديانوس أنه أذل المسيحيين، وحاول إبادتهم، حتى إن أقباط مصر ربطوا تقويمهم القبطي بهذا الاضطهاد الديني الذي حل بهم.
وهل ينسى الغرب الاضطهاد الديني السافر للعقيدة الذي جعل أقباط مصر يؤدون شعائرهم الدينية تحت الأرض أو في أقبية بعيدين عن أنظار الرومان؟ هل ينسى الغرب هذا كله وينسى ما حدث منذ 1688 سنة، شهداء، الموافق نهاية القرن الثالث الميلادي في عصر الإمبراطور دقلديانوس.
الواقع يا غرب أن هذا التذمر الذي وقع من أقباط مصر في عهد الدولة الأموية لم يكن اضطهاد ديني، بل كانت أسبابه ترجع إلى ظروف اقتصادية بحتة اكتنفت الدولة الأموية في فترة من فترات توسعها السياسي والعمراني، وأرادت أن تعتمد في نفقاتها على دخلها القومي، مما استلزم فرض ضرائب على الولايات الإسلامية التي كانت مصر واحدة منها، ولم تفرض هذه الضرائب على أقباط مصر فحسب، بل عليهم وعلى المسلمين أيضاً، وهذه هي العدالة المطلقة في الواجبات التي تفرضها الدولة على المواطنين.
بل أكثر من هذا يا غرب، لقد استطاعت الأمة الإسلامية بعد توسعها السياسي شرقاً وغرباً - أن تقصم ظهر الأباطرة والملوك، وأن تغسل سبعمائة سنة عاشها الغرب في ظل الإمبرطورية الرومانية، والشرق في ظل الدولة الفارسية، استطاع الإسلام أن يغسل عقول سكان تلكم الأقاليم مما علق بها من عقائد فاسدة وتعاليم باطلة، وتقاليد سقيمة، استطاع الإسلام أن يضئ عليهم كضياء الشمس في وضح النهار، وكفى هذه الشعوب في هذه الأقاليم أن تتمتع بالنور الرباني الذي يشعه عليها القرآن الكريم وسنة الرسول الكريم.
وقد ازداد التوسع حتى بلغ سردينيا سنة 711م، واسبانيا سنة 710 - 714م.
وإن أثر العرب والإسلام في تاريخ العصور الوسطى لا يقف عند حد التغييرات السياسية التر أحدثوها في أوضاع العالم المعروف، بل يبدو الأثر أشد ما يكون وضوحاً في الميدان الحضاري.
والحضارة العربية الإسلامية تقوم على دعامتين أساسيتين: هما اللغة العربية، والديانة الإسلامية، ومازالت السرعة التي انتشرت بها العربية اللغة العربية والديانة الإسلامية لغزاً يثير حيرة المفكرين.
فاللغة العربية ليست باللغة السهلة القليلة التعقيد حتى يقال إن سهولتنا أدت إلى سرعة انتشارها من المحيط الأطلسي حتى الخليج العربي، ومع هذا نجحت في أن تبسط سيادتها على جميع البلاد التي فتحها العرب، وحكموها زمناً طويلاً باستثناء فارس.
ولم يستطع الباحثون تفسير هذه الظاهرة: ظاهرة انتشار اللغة العربية إلا في ضوء انتشار العقيدة الإسلامية نفسها، وما تتطلبه هذه العقيدة من معرفة بأصول اللغة العربية لأداء فروض الدين.
ويقول بيكر: "إن أوروبا في العصور الوسطى نظرت إلى انتشار الإسلام من وجهة النظر الكنسية الدينية، وكأن الكنيسة قد أفزعها وآلمها ضياع البلاد بالشام ومصر وأعلي العراق، وكانت كلها ترتبط بأصول مسيحية، فراحت نفسر انتشار الإسلام في هذه البلاد بأنه لم يتم إلا بحد السيف".
وهم بهذا الادعاء يموهون على خوف ينتابهم ورهبة تسرى في أوصالهم عند سماعهم للإسلام والعرب. وقد سجل التاريخ أنهم لم يكن لهم شأن يذكر حين احتضنهم العامل الروماني الإمبراطور قسطنطين بحمليته لهم وحماية عقيدتهم، وذلك باستصدار قانون بمرسوم ميلان سنة 313م باعتبار المسيحية ديناً رسمياً للدولة، شأنها في ذلك شأن الوثنية.
أما الإسلام فهو كالعملاق الذي ولد ولم يركن إلى حماية دولة من الدول، بل استمد مجده من الله الملك القهار، فهو كالعملاق الذي يحمي ولا يهدد، يصون ولا يبدد، وهو في كل هذا يحرص كل الحرص على العزة والكرامة.
إزاء هذا لا يسعني إلا أن آتي بوجهات نظر الغرب عن الإسلام وهم فئتان: فئة يتحاملون على الإسلام، وفئة تنصف الإسلام بتحريهم التاريخ الصادق من غير تحيز.
فالفئة الأولى: غربيون يتحاملون على الإسلام:
يقول بيكر، ويقول برنارد لويس. مستدلين بقوله تعالى:
يقولان: إن انهيار سد مأرب في القرن السادس، وما أصاب البلاد من تقلب الأحوال الاقتصادية والاجتماعية - دفعهم إلى الهجرة، ولا فرق في ذلك بين الهجرات السابقة التي قام بها الآراميون والكنعانيون، والهجرات اللاحقة التي قام بها الغرب عقب ظهور الإسلام.
ويشاركهما في هذا الرأي توماس أرنولد، ويشتد تحاملاً عن سابقيه فيقول إن حركة التوسع العربي كانت هجرة جماعة نشيطة، دفعها الجوع والحرمان إلى أن تهجر صحاريها المجدبة، وتجتاح بلاداً أكثر خصباً كانت ملكاً لجيران أسعد منهم حظاً.
ومن الواضح أن هذه الآراء تتضمن كثيراً من التضليل والبعد عن الحقيقة.
ومع هذا فلنستمع إلى الفئة الثانية، إلى الغربيين الذين ينصفون الإسلام بتحقيقهم التاريخ الصادق من غير تحيز.
الفئة الثانية: غربيون يحققون التاريخ وينصفون الحق:
ليس أدل على إنصاف المسلمين وبيان حقيقة الغرض من أقول قادة الحرب المقهورين، فهذا هو الإمبراطور هرقل يسخط على الحاكم الروماني ويندد بانكساره أمام جيوش المسلمين، فيقول الحاكم مدافعاً عن نفسه:"إنهم أقل منا عدداً، ولكن عربياً واحداً يعادل مائة من رجالنا، ذلك أنهم لا يطمعون في شيء من لذات الدنيا، ويكتفون بالقليل من الكساء والغذاء في الوقت الذي يرغبون فيه في الاستشهاد، لأنه أفضل طريق يوصلهم إلى الجنة، على حين نتعلق نحن بأهداب الحياة، ونخشى الموت، يا سيدي الإمبراطور".
ويتحدث بيرون مؤكداً أن الحماسة الدينية وحدها هي التي أدت إلى نجاح العرب في حركتهم التوسعية، فيقول:"إن الفارق كبير بين الجرمان أو المغول الذين غادروا بلادهم ومعهم نساؤهم وأطفالهم وعبيدهم ومواشيهم بغية السلب والنهب والحصول على أرض جديدة تدر عليهم من خيراتها ما يكفل لهم عيشاً رغداً، والعرب الذين خرجوا في أوائل القرن السابع الميلادي ينادون بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، دون أن يصطحبوا معهم سوى سيوفهم وخيولهم".
حقيقة أن الفتح الإسلامي أعقبه حركة أخرى للتهجير والاستيطان في الولايات العربية الجديدة التي تم فتحها، ولكن هذه الحركة الأخيرة لم تبدأ إلا بعد أن انتهت الحركة الأولى بنحو قرنين من الزمان، تغيرت فيهما أوضاع البلاد المفتوحة وأصبحت جزءاً من الوطن العربي.