الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر إعزازه بالهجرة إلى المدينة
عن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تبارك وتعالى أوحى إلي: أي هؤلاء البلاد الثلاث نزلت فهي دار هجرتك: المدينة أو البحرين أو قنسرين ". قال أهل العلم: ثم عزم له على المدينة، فأمر أصحابه بالهجرة إليها. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُلمّ بمكة ثم أمر بالهجرة وأنزل عليه: " وقل رب أدخلني مدخل صدقٍ وأخرجني مخرج صدقٍ واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً ". وعن ابن عباس: في قوله تعالى: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك ". قال: تشاورت قريش بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح أثبتوه بالوثاق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله نبيه عليه السلام على ذلك، فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً، يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم. فلما أصبحوا ثاروا إليه. فلما رأوا علياً ردّ الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟! قال: لا أدري، فاقتصوا أثره. فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل، فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج
العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه. فمكث فيه ثلاثاً.
وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين. ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشياً. فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنّة وهو سيد القارة. فقال له: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، أريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي عز وجل، فقال له ابن الدغنّة: فإن مثلك لا يُخرج، ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة. فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يُخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! فلم تكذب قريش جوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مُر أبا بكر فليتعبد في داره، وليصل فيها، وليقرأ فيها ما شاء، ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فقال ابن الدغنة ذلك لأبي بكر.
فلبث أبو بكر بذلك يعبد الله في داره، ولا يستعلن بصلاته ولا بقراءته في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، فيتعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا أجزنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقري لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاهدت لك عليه، فأما أن تقتصر، وإما أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب تسمع العرب أني أُخفرت في رجلٍ عقدت له. فقال أبو بكر فإني أردّ إليك جوارك، وأرضى بجوار الله تبارك وتعالى. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة قد قال للمسلمين: قد رأيت أرض هجرتكم، أُريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي. فقال أبو بكر: هل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: نعم. فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحبة، وعلف راحلتين كانتا عنده، ورق السمر وهو الخبط أربعة أشهر. قالت عائشة: فبينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منقبعاً صلى الله عليه وسلم في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداك أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذن، فأُذن له فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني قد أُذن لي في الخروج. قال أبو بكر: للصحابة، بأبي وأمي يا رسول الله؟ قال: نعم. فقال أبو بكر: فخذ بأبي أنت إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن. قالت عائشة: فجهزتهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنة أبي بكر نطاقها قطعتين، فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين. ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغارٍ في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب لقن ثقيف فيدلج من عندهما السحر، فيصبح مع قريشٍ كبائبٍ،
ولا يسمع أمراً إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولىً لأبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل: وهو لبن منحتهما، حتى ينعق عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث. فاستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الدئل وهو ابن عبد العزى بن عدي هادياً خرّيتاً والخريت: الماهر بالهداية قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ، فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، وأخذ بهم طريق الساحل. وفي حديث آخر: فحدث عن أسماء بنة أبي بكر أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقال: أين أبوك يا بنة أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة، فخرج منها قرطي. قالت: ثم انصرفوا، فمكثنا ثلاث ليالٍ، ما ندري أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يغني بأبيات من شعر غناء العرب، وإن الناس ليتبعونه فيسمعون صوته وما يرونه، حتى خرج من أعلى مكة يقول: الطويل
جزى الله ربُّ الناس خير جزائه
…
رفيقين حلاّ خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبرِّ وارتحلا به
…
وأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعبٍ مكان فتاتهم
…
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قالت: فلما سمعنا صوته عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن وجهه إلى المدينة، وكانوا أربعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وعبد الله بن أُريقط دليلهما.
وروى زيد بن أرقم بن شعبة وأنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله شجرة فخرجت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم تستره، وأن الله بعث العنكبوت فنسجت ما بينهما، فسترت وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر الله حمامتين وحشيتين فأقبلا يدفان حتى وقعا بين العنكبوت وبين الشجرة. وأقبلت فتيان من قريش، من كل بطن منهم رجل، ومعهم عصيهم وقسيهم وهراوتهم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم على قدر مئتي ذراع قال الدليل سراقة بن مالك بن جعشم المدلحجي: هذا الجحر ثم لا أدري أين وضع رجله؟ فقال الفتيان: أنت لم تخط منذ الليلة حتى أصبحنا فقال: انظروا في الغار، فاستقدم القوم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم على قدر خمسين ذراعاً فإذا الحمامتان فرجع، فقالوا: ما ردك أن تنظر في الغار؟ قال: رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد، فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فعرف أن الله تبارك وتعالى درأ عنهما بهما فسمت عليهما وأخذهما إلى الحرم، فأفرخا كما ترى.
وحدث أبو بكر رضي الله عنه قال: جاء رجل من المركز حتى استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعورته يبول، قال: قلت: يا رسول الله، أليس الرجل يرانا؟ قال: لو رآنا لم يستقبلنا بعورته. يعني: وهما في الغار. وعن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يستخفيان في الغار مرّا بعبد يرعى غنماً، فاستسقياه من اللبن، فقال: والله ما لي شاة تحلب، غير أن ههنا عتاقاً حملت أوان الشتاء فما بقي لها لبن، وقد افتجت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بها، فدعا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم حلب عشاء، فسقي أبا بكر، ثم حلب آخر فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال العبد: بالله من أنت؟ ما رأيت مثلك قط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو تراك إن أخبرتك تكتم عليّ؟ قال: نعم. قال: إني محمد رسول الله. قال: أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ؟ قال: وإنهم ليقولون ذلك. قال: فإني أشهد أنك لرسول الله، وأن ما جئت
به حق، وأنه ليس يفعل ما فعلت إلا نبي، ثم قال: أتبعك؟ قال: لا، حتى تسمع أنا قد ظهرنا، فإذا بلغك ذلك فاخرج. فتبعه بعدما خرج من الغار. وعن جابر بن عبد الله قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مهاجرين فدخلا الغار، فإذا في الغار جحر فألقمه أبو بكر عقبه حتى أصبح، مخافة أن يخرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء. فأقاما في الغار ثلاث ليالٍ ثم خرجا حتى نزلا خيمات أم معبد، فأرسلت إليه أم معبد: إني أرى وجوهاً حساناً، وإن الحي أحرص على كرامتكم مني. فلما أمسوا عندها بعثت إليهم مع ابن لها بشفرة وشاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام، اردد الشفرة وهات لي فرقاً يعني: قدحاً فأرسلت إليه بأن لا لبن فيها ولا ولد. قال: هات لي فرقاً فجاؤوه بقدح، فضرب على ظهرها، فاجترت ودرت، وملأ القدح فنشرب وسقى أبا بكر، ثم حلب، فبعث به إلى أم معبد. وعن أنس بن مالك قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مردفٌ أبا بكر ويقول: يا أبا بكر، شيخ يعرف، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف. قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر، من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب إنما يهديه الطريق، وإنما يعني سبيل الخير. فالتفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحقهم فقال: يا نبي الله، هذا فارس قد لحق بنا. قال: فالتفت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم اصرعه، فصرعه فرسه، ثم قامت تحمحم. قال: ثم قال: يا نبي الله، مرني بما شئت. قال: قف مكانك لا تتركن أحداً يلحق بنا. قال: فكان أول النهار جاهداً على نبي الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر النهار مسلحة له. قال: فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم جانب الحرة. ثم بعث إلى الأنصار فجاؤوا نبي الله صلى الله عليه وسلم، فسلموا عليهما، وقالوا: اركبا آمنين مطاعين. قال: فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وحفوا حولها بالسلاح. قال: فقيل في المدينة: جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم، فاستسرعوا نبي الله صلى الله عليه وسلم ينظرون إليه ويقولون: جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأقبل يسير حتى نزل إلى جانب دار أبي أيوب. قال: فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخيل لأهله
يخترف لهم منه، فعجل أن يضع التي يخترف فيها، فجاء وهي معه، فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى أهله.
فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: أي بيوت أهلنا أقرب؟ قال: فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري وهذا بابي، قال: فانطلق فهيئ لنا مقيلاً. قال: فذهب فهيأ لهما مقيلاً ثم جاء فقال: يا نبي الله، قد هيأت لكما مقيلاً، قوما على بركة الله فقيلا. فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله حقاً، وأنك جئت بحق، ولقد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن عالمهم، فادعهم فسلهم، فدخلوا عليه، فقال لهم نبي الله: يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا الله إنكم لتعلمون أني رسول الله حقاً وإني جئتكم بحق، أسلموا، قالوا: ما نعلمه: ثلاثاً.
وعن سراقة بن جعشم قال: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتلهما أو أسرهما، فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا فقال: يا سراقة، إني رأيت آنفاً أسودة بالساحل أراها محمداً وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم ولكن رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا آنفاً. قال: ثم ما لبثت في المجلس ساعة حتى قمت، فدخلت بيتي فأمرت جاريتي أن تُخرج لي فرسي من وراء أكمة فتحبسها عليّ وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت، فحططت برمحي الأرض، وخفضت عالية الرمح حتى أتيت فرسي، فركبتها فترفغتها تقرب بي حتى رأيت أسوديهما.
فلما دنوت منهم حيث أُسمعهم الصوت عثرت بي فرسي، فخررت عنها، فقمت وأهويت بيدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها: أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره ألا أضرهم، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، فترفغتها تقرب بي حتى إذا دنوت منهم عثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت، فأهويت بيدي إلى كنانتي، فأخرجت الأزلام فاستقسمت بها، فخرج الذي أكره ألا أضرهم، فعصيت الأزلام، وركبت فرسي فترفغتها تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يد فرسي في الأرض حتى بلغت الركبتين، فخررت عنها فزجرتها،
فنهضت، فلم تكد تُخرج يديها. فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان. قال معمر: قلت لأبي عمرو بن العلاء: ما العثان؟ فسكت ساعة ثم قال: هو الدخان من غير نار. قال الزهري في حديثه: فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره: ألا أضرهما فناديتهما بالأمان، فوقفوا، وركبت فرسي حتى جئتهم. فوقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أنه سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم من أخبار سفرهم، وما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزوني شيئاً ولم يسألوني إلا أن أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب موادعة آمن به، فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي في رقعة من أديم ثم مضى.
وعن جماعة من الصحابة دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: لما رأى المشركون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حملوا الذراري والأطفال إلى الأوس والخزرج عرفوا أنها دار منعة، وقوم أهل حلقة وبأس، فخافوا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا في دار الندوة، ولم يتخلف أحد من أهل الرأي والحجا منهم ليتشاوروا في أمره، وحضرهم إبليس في صورة شيخ كبير من أهل نجد مشتمل الصماء في بتّ، فتذكروا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار كل رجل منهم برأي. كل ذلك يردّه إبليس عليهم، ولا يرضاه لهم
إلى أن قال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غلاماً نهداً جليداً ثم نعطيه سيفاً صارماً، فيضربونه ضربة رجلٍ واحدٍ فيتفرق دمه في القبائل، فلا تدري بنو عبد مناف بعد ذلك ما تصنع. قال: يقول النجدي: لله در الفتى، هذا والله الرأي، وإلا فلا. فتفرقوا على ذلك، وأجمعوا عليه. وأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وأمره ألا ينام في مضجعه تلك الليلة. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقال: إن الله قد أذن لي في الخروج. فقال أبو بكر: للصحابة يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت وأمي إحدى راحلتي هاتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن. وكان أبو بكر اشتراهما بثمان مئة درهم من نعم بني قشير. فأخذ إحداهما وهي القصواء، وأمر علياً أن يبيت في مضجعه تلك الليلة، فبات فيه، وتغشى برداً أحمر حضرمياً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام فيه. واجتمع أولئك النفر من قريش يتطلعون من صبير الباب فيرصدونه، يريدون بياته فيأتمرون أيهم يحمل على المضطجع صاحب الفراش. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس على الباب، فأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذرها على روؤسهم ويتلو:" يس والقرآن الحكيم " حتى بلغ: " سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل منهم: ما تنظرون؟ قالوا: محمد. قال: خبتم وخسرتم، قد والله مر بكم وذر على رؤوسكم التراب. قالوا: والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، وهم أبو جهل والحكم بن أبي العاص وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وأمية بن خلف وابن العيطلة وزمعة بن الأسود وطعيمة ين عدي وأبو لهب وأبيّ بن خلف ونبيه ومنبّه ابنا الحجاج. فلما أصبحوا قام عليّ عن الفراش فسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا علم لي به. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزل أبي بكر فكان فيه إلى الليل. ثم خرج هو وأبو بكر. فمضيا إلى غار ثور فدخلاه، وضربت العنكبوت على بابه بعشاش بعضها على بعض، وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الطلب حتى انتهت إلى باب الغار. فقال بعضهم: إن عليه لعنكبوتاً قبل ميلاد محمد، فانصرفوا، وساق الحديث.
وكان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار ليلة الاثنين لأربع ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول، وقال يوم الثلاثاء بقديد، فلما راحوا منها عرض لهم سراقة بن مالك بن جعشم وهو على فرس له، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسخت قوائم فرسه. فقال: يا محمد، ادع الله أن يطلق فرسي وأرجع عنك، وأرد من ورائي ففعل، فأطلق، ورجع، فوجد الناس يلتمسون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ارجعوا فقد استبرأت لكم ما هاهنا، وقد عرفتم بصري بالأثر، فرجعوا عنه. وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخرار ثم جاز ثنية المرة، ثم سلك لقفاً ثم أجاز مدلجة لقف، ثم استبطن مدلجة مجاح ثم سلك مرجح ثم بطن مرجح مجاح، ثم بطن ذات كشر ثم علا الجداجد ثم علا الأذاخر ثم بطن ربع، فصلى به المغرب. ثم ذا سلم ثم أعد مدلجة ثم العثيانة ثم جاز بطن الفاجة ثم هبط العرج ثم سلك في الخذوات ثم في الغائر عن يمين ركوبه، ثم هبط بطن العقيق حتى انتهى إلى الجثجاثة فقال: من يدلنا على الطريق إلى بني عمرو بن عوف ولا يقرب المدينة؟ فتعلل على طريق الظُبَيّ حتى خرج على العصبة.
وكان المهاجرون قد استبطؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدوم عليهم، فكانوا يغدون مع الأنصار إلى ظهر حرّة العصبة فيتحينون قدومه في أول النهار، فإذا أحرقتهم الشمس رجعوا إلى منازلهم. فلما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول ويقال: اثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول جلسوا كما كانوا يجلسون. فلما أحرقتهم الشمس رجعوا إلى بيوتهم، فإذا رجل من يهود يصيح على أُطُم بأعلى
صوته: يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء. فخرجوا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الثلاثة، فبعث الرجّة في بني عمرو بن عوف والتكبير، وتلبس المسلمون السلاح. فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام أبو بكر يذكر الناس. وجاء المسلمون يسلمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم وهو الثبت عندنا ولكنه كان يتحدث مع أصحابه في منزل سعد بن خيثمة، وكان يسمى منزل العزّاب، فلذلك قيل نزل على سعد بن خيثمة. قالوا: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني عمرو بن عوف يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. وخرج يوم الجمعة فجمّع في بني سالم، ويقال: أقام ببني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة. فلما كان يوم الجمعة ارتفاع النهار دعا براحلته، وحشد المسلمون وتلبسوا السلاح، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته القصواء، والناس معه عن يمينه وشماله، فاعترضته الأنصار، لا يمر بدارٍ من دورهم إلا قالوا: هلمّ يا نبي الله إلى القوة والمنعة والثروة فيقول لهم خيراً، ويدعو لهم ويقول: إنها مأمورة. فلما أتى مسجد بني سالم جمّع بمن كان معه من المسلمين وهم مئة. قالوا: ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته وأخذ عن يمين الطريق حتى جاء بلحبلى ثم مضى، حتى انتهى إلى المسجد، فبركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم، وجاء أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب فحط رحله وأدخله منزله، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المرء مع رحله، وجاءه أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده. وهذا الثبت.
قال زيد بن ثابت: فأول هدية دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل أبي أيوب هدية دخلت بها أنا، قصعة مثرودة: خبز وسمن ولبن، أرسلت بهذه القصعة أمي، فقال: بارك الله فيك، ودعا أصحابه، فأكلوا فلم أرم الباب حتى دخلت قصعة سعد بن عبادة: ثريد وعراق، وما كان من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة والأربعة يحملون الطعام،
يتناوبون ذلك حتى تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل أبي أيوب. قال: وكان مقامه فيه سبعة أشهر. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل أبي أيوب زيد بن حارثة وأبا رافع وأعطاهما بعيرين وخمس مئة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة زوجته، وأسامة بن زيد، وكانت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هاجر بها زوجها عثمان بن عفان قبل ذلك، وحبس أبو العاص بن الربيع امرأته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحمل زيد بن حارثة امرأته أم أيمن مع ابنها أسامة بن زيد، وخرج عبد الله بن أبي بكر معهم بعيال أبي بكر فيهم عائشة، فقدموا المدينة، فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان.