الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر قدومه صلى الله عليه وسلم بصرى
عن أبي موسى قال: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش. فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت. قال: فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجرة ولا حجر إلا خر ساجداً، ولا يسجدن لنبيٍ، وإني أعرفه، خاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة.
ثم رجع، فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به وكان في رعية الإبل، فقال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فقال: انظروا إليه، عليه غمامة، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوا إلى فيء الشجرة، فلما جلي مال فيء الشجرة عليه فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه. قال: فبينا هو قائم عليهم، وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه، فالتفت فإذا هو بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارجٌ في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليها ناسٌ، وإنا أخبرنا خبره، بعثنا إلى طريقك هذا فقال لهم: هل خلفتم خلفكم أحداً هو خير منكم؟ قالوا: لا إنا أخبرنا خبره بطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا، قال: فتابعوه، وأقاموا معه، قال: فأتاهم فقال: أنشدكم بالله أيكم وليه؟ قالوا:
أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى رده وبعث معه أبو بكر بلالاً وزوده الراهب من الكعك والزيت.
وشب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب يكلؤه الله ويحفظه، ويحوطه من أمور الجاهلية ومعايبها لما يريد به من كرامته، وهو على دين قومه، حتى بلغ أن كان رجلاً أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً وأمانة، وأصدقهم حديثاً، وأبعدهم من الفحش والأذى، ما رؤي ملاحياً ولا ممارياً أحداً، حتى سماه قومه الأمين لما جمع الله من الأمور الصالحة فيه، فلقد كان الغالب عليه بمكة الأمين. وكان أبو طالب يحفظه ويحوطه، ويعضده وينصره إلى أن مات.
قال ابن إسحاق: وكان أبو طالب هو الذي إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده، فكان إليه ومعه. ثم إن أبا طالب خرج في ركب إلى الشام تاجراً. فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير هب له رسول الله صلى الله عله وسلم فأخذ بومام ناقته وقال: يا عم، إلى من تكلني؟ لا أب لي ولا أم لي، فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني ولا أفارقه أبداً. أو كما قال.
قال: فخرج به معه، فلما نززلوا بظل شجرة قريباً
منه، فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة، وتهرصت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها. فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وحركم وعبدكم فقال له رجل منهم: يا بحيرى، إن لك اليوم لشأناً، ما كنت تصنع هذا فيما مضى، وقد كنا نمر بك كثيراً فما شأنك اليوم؟ فقال له بحيرى: صدقت، وقد كان ما تقول، ولكنكم ضيفٌ، وقد أحببت أن أكرمكم واصنع لكم طعاماً تأكلون منه كلكم.
فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم، لحداثة سنه، في رحال القوم تحت الشجرة. فلما نظر بحيرى في القوم لم يرى الصفة التي يعرف ويجد عنده، قال: يا معشر قريش، لا يتخلف أحدٌ منكم عن طعامي هذا، قالوا له: يا بحيرى، ما تخلف عنك أحدٌ ينبغي له أن يأتيك إلا غلام هو أحدث القوم سناً تخلف في رحالهم. قال: فلا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم، فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى إن هذا للؤم بنا، يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن الطعام من بيننا! ثم قام إليه فاحتضنه ثم أقبل به حتى أجلسه مع القوم، فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظاً شديداً، وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده في صفته، حتى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرقوا قام بحيرى فقال له: يا غلام، أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسلني باللات والعزى شيئاً، فو الله ما أبغضت بغضهما شيئاً فقال له بحيرى: فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه؟ فقال: سلني عما بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده. فلما فرغ منه أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ فقال: ابني، فقال له بحيرى؟ ما هو بابنك، ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً. قال: فما فعل
أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال: ارجع بابن أخيك إلى بلده وأحذر عليه اليهود، فو الله إن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شان، فأسرع به إلى بلاده، فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.
فزعموا فيما يتحدث الناس أن زبيراً وتماماً ودريساً وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب أشياء، فأرادوه، فردهم عنه بحيرى وذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا لم يخلصوا إليه حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال فتركوه وانصرفوا.
وذكر أبو الحسن الوارق: أنه قدم مع أبي طالب لعشر ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة من الفيل، وقدم الشام مع ميسرة لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة خمس وعشرين من الفيل، وكان الراهب الذي أخبر به في هذه القدمة اسمه نسطور الراهب.
روت نفيسة بنت منية أخت يعلى بن منية قالت: لما بلغ رسول صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة قال له أبو طالب: أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عيراتها، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك، وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له فأرسلت إليه في ذلك وقالت: أنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك. قال أبو طالب: هذا رزقٌ قد ساقه الله إليك، فخرج مع غلامها ميسرة، وجعل عمومته يوصون به أهل العير، حتى قدما بصرى من الشام فنزلا في ظل شجرة، فقال نسطور الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبيٌ ثم قال لميسرة: أفي عينيه حمرة؟ قال: نعم، لا تفارقه. قال: هو نبيٌ، وهو آخر الأنبياء.
ثم باع سلعته، فوقع بينه وبين رجل تلاحٍ فقال له: آخذه باللات والعزى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حلفت بهما قط، وإني لأمر فأعرض عنهما، فقال الرجل: القول قولك، ثم قال لميسرة: هذا والله نبيٌ، تجده أحبارنا مبعوثاً في كتبهم.
وكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس فوعى ذلك كله. وكان الله قد ألقى عليه المحبة من ميسرة فكان كأنه عبد.
وباعوا تجارتهم وربحوا ضعف ما كانوا يربحون، فلما رجعوا فكانوا بمر الظهران قال ميسرة: يا محمد، انطلق إلى خديجة وأخبرها بما صنع الله لها على وجهك، فإنها تعرف لك ذلك، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية لها فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بعيره وملكان يظلان عليه، فأرته نساءها، فعجبن لذلك، ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرها بما ربحوا في وجههم، فسرت بذلك. فلما دخل ميسرة أخبرته بما رأت فقال ميسرة: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام، وأخبرها بما قال الراهب نسطور وبما قال الآخر الذي خالفه في البيع. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجارتها فربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت له ضعف ما سمت له.