الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن كنت تزعم أرض الله واسعة
…
فيها لغيرك مرتاد ومرتحل
فارحل فإن بلاد الله ما خلقت
…
إلا ليسكن منها السهل والجبل
الله عودني الحسنى فما برحت
…
عندي له نعم تترى وتتصل
إن ضاق بي بلد أبدلته عوضاً
…
وإن نبا منزل بي كان لي بدل
وإن تغير لي عن وده رجل
…
أصفى المودة لي من بعده رجل
لم يقطع الله لي من صاحب أملاً
…
إلا تجدد لي من صاحب أمل
لا تبتذل أبداً وجهك في طمع
…
فما لوجهك ماء حين يبتذل
رجل من أهل بيروت
قرأ على سور صور مكتوباً: من الوافر
دع الدنيا فإني لا أراها
…
لمن يرضى بها دار بدار
ودارك إنما اللذات فيها
…
معلقة بأيامٍ قصار
شاعر من المادرائيين
حدث أبو الفرج عبد الواحد المخزومي قال: تأخرت بدمشق عن سيف الدولة مكرهاً، وقد سار في بعض وقائعه، فانقطعت إلى أبي بكر علي بن صالح الروذباري لتقدمه في الرياسة، وفضله، فأحسن إلي، وتوفرت على قصد المتنزهات المطروقة تسلياً وتعللاً، فقصدت دير مران، واستصحبت بعض من كنت آنس به، فنزلناه، وكنت اخترت من رهابنته من توسمت فيه رقة الطبع، وسجاحة الأخلاق، فانصرفت بي نظرة إلى بعض
الرهبان، فوجدته مترقباً لنظري، فغمزني وأومأ إلي، فأنكرت ذلك، ونهضت عجلاً، فأخرج إلي رقعة مختومة، ففضضتها فإذا فيها بأحسن خط وأوضحه: بسم الله الرحمن الرحيم، لم أزل فيما تؤديه هذه المخاطبة إلى مولاي بين حزم يحث على الانقباض عنك، وحسن ظن يحض على التجاوز عن نفيس الحظ منك، إلى أن استنزلني الرغبة على حكم الثقة بك من غير خبرة، فرفعت بيني وبينك سجف الحشمة، فأطعت بالانبساط أوامر الأنسة، وانتهزت في التوصل إلى مودتك فائت الفرصة، والمستماح منك زورة أرتجع ما اغتصبته الأيام من المسرة، مهنأة بالانفراد إلا من غلامك. من الطويل
وما ذاك عن خلق يضيق بطارق
…
ولكن لأخذي باجتناب العوائق
فإن صادف ما خطبته منك تقبلاً فمنه غفل الدهر عنها، وفارق مذهبه بما أهداه إلي منها، وإن جرى على رسمه في المضايقة فيما أوثره من قربك، فذمام المروءة يلزمك رد هذه الرقعة وسترها وتناسيها واطراح ذكرها. وتلو هذا الخطاب أبيات: من مجزوء البسيط
هل لك في صاحب تناسى بال
…
غربة أخلاقه وبالأدب
أوحشه القرب فاستراح إلى
…
قربك مستنصراً على النوب
فإن تقبلت ما حباك به
…
لم تشن الظن فيك بالكذب
وإن أبى الدهر دون بغيتنا
…
فكن كمن لم نقل ولم تجب
فورد علي ما حيرني، وتحصل لي في الجملة أن أغلب الأوصاف على صاحبها الكتابة، وقلت للراهب: من هذا؟ وكيف السبيل إليه؟ فقال: أما ذكر حاله فإليه إذا اجتمعنا، وأما السبيل إلى لقائه فسهل إن شئته. قلت: دلني. قال: تتصيد عذراً تفارق أصحابك، وإذا حصلت بظاهر الدير عدلت بك إلى باب خفي تدخل منه. فرددت الرقعة وقلت: ادفعها إليه ليتأكد أنسه بي وسكونه إلي، وعرفه أن التوفر على التحيل في المصير إليه أولى من التشاغل بإصدار جواب أو قطع وقت بمكاتبة. وعدت إلى أصحابي بغير النشاط الذي ذهبت به، فأنكروا ذلك، واعتذرت لهم بشيء عرض لي، واستدعيت ما أركبه، وأمرت
من يخدمني بالتوفر على خدمتهم، وقد كنا على المبيت، فاجتمعوا على تعجل الانصراف، وخرجت من الدير ومعي مملوك كنت آنس به، وتلقاني الراهب فعدل بي إلى طريق وأدخلني الدير من باب غامض، وصار بي إلى قلاية، فقرع بابها بحركات مختلفات كالعلامة، فابتدرنا منه غلام، كأن الشمس تشرق من غرته، والليل في أصداغه وطرته، وبغلالة تتم على ما تستره، فبهر عقلي، واستوقف نظري، ثم أجفل كالظبي المذعور، وتلوته والراهب إلى صحن القلاية، فإذا بيت مفروش مبسوط، فوثب إلينا منه فتى مقتبل الشبيبة، طاهر النبل، حسن الصورة متزي من اللباس بزي غلامه، فلقيني حافياً يعثر في سراويله، واعتنقني وقال: إنما استخدمت هذا الغلام في تلقيك لأجعل ما لعلك استحسنته من وجهه قبالة ما ترد عليه من قبح وجهي؛ فاستظرفت اختصاره الطريق إلى بسطي، وارتجاله النادرة على نفسه حرصاً في تأنيسي، وأفاض في شكري على المسارعة إليه، وأنا أواصله بالتعبد له، والاعتداد بتفضله. وقال: أنت مكدود بمن كان معك والتمتع بمحادثتك لا يتم إلا بالتوصل إلى راحتك. فاستلقيت يسيراً، ثم نهضت، فخدمت في حالتي النوم واليقظة الخدمة التي ألفتها في دور أكابر الملوك. وأحضرنا خادم له طبقاً يضم ما يتخذ للعشاء. فقال لي: الأكل مني يا سيدي للجوع، ومنك للممالحة والمساعدة. فنلنا شيئاً، وأقبل الليل، وجاءنا الراهب من الأشربة بما أخبرناه. ولم يزل يناهبني نوادر الأخبار، وملح الأشعار، ويخلط ذلك من المزاح بأطرفه، ومن التودد بألطفه إلى أن توسطنا الشرب، فالتفت إلى غلامه فقال: ما مترف، إن مولاك ما ادخر عنا السرور بحضوره، وما يجب أن ندخر ممكناً في مسرته. فامتقع وجه الغلام حياء وخفراً، فأقسم عليه بحياته وأنا لا أعلم ما يريد، فمضى وجاء بطنبور، وجلس وغنى: من المجتث
يا مالكي وهو ملكي
…
وسالبي ثوب نسكي
نزه يقين الهوى في
…
ك عن تعرض شك
لولاك ما زلت أبكي
…
إلى الصباح وأبكي
فنظر إلى الغلام وتبسم، فعلمت أن الشعر له، وكدت أطير طرباً، فاستدعيت
كيزاً، فأحضرنا الخادم عدة قطع من فاخر البلور وجيد الحكم، فشربت وشرب، ثم قال: أنا أحب ترفيهك، ولا أقطعك عما أنت متوفر عليه، فقد عرفت الاسم والنسب والصناعة، وقد كنت أوثر أن نسم ليلتنا بشيء يكون لذكرها معلماً. فكتبت ارتجالاً: من المجتث
وليلة أوسعتني
…
حسناً ولهواً وأنسا
ما زلت ألثم بدراً
…
بها وأشرب شمسا
إذ أطلع الدير سعداً
…
لم يبق مذ لاح نحسا
فصار للروح روحاً
…
مني وللنفس نفسا
فطرب على قولي: ألثم بدراً وأشرب شمساً، وعلى قولي: للروح روحاً، وللنفس نفساُ. وجذب غلامه فقبله، وقال: ما جهلت ما يجب لسيدي من التوقير، وإنما اعتمدت تصديقك فيما ذكرته، فبحياتي إلا فعلت ذلك بغلامك، فاتبعت إيثاره خوفاً من احتشامه، وأخذ الأبيات، وجعل يرددها، وكتب إجازة لها: من المجتث
ولم أكن لغريمي
…
والله أبذل فلسا
لو ارتضى لي خصمي
…
بدير مران حبسا
فقلت: إذا ما كان أحد يؤدي حقاً ولا باطلاً. وعرفت أنه مستتر من دين. وقال لي: قد خرج لك أكثر الحديث، فإن عذرت وإلا ذكرت الحال لتعرفها على صورتها، فتبينت ما يؤثره من كتمان نفسه، فقلت له: يا سيدي كل ما لا يتعرف بك نكرة، وقد أغنت المشاهدة من الاعتذار. وجعل يشرب وينخب علي من غير إكراه ولا حث إلى أن رأيت الشراب قد أخذ منه. وأكب على مجاذبة غلامه، فأظهرت النوم، ففرش لي إلى جانب فراشه، وقام يتفقد أمري بنفسه، فقلت: إن لي مذهباً في تقريب غلامي مني، واعتمدت بذلك تسهيل ما يختاره من غلامه، فتبسم، وقال لي بسكره: جمع الله لك المسرة كما جمعها لي بك. وأظهرت النوم، وعاد يجاوب غلامه بأعذب الألفاظ، وأحلى معاتبة، ويخلط ذلك بمواعيد تدل على سعة حال وانبساط يد، وغلامه يقبل يده ورجله وفمه، وغلب علي النوم إلى أن أيقظني هواء السحر، فانتبهت وهما متعانقان، فأردت توديعه، وحاذرت إزعاجه، فخرجت ولقيني الخادم يريد إنباهه، فأقسمت عليه ألا يفعل، وركبت منصرفاً، ومحدثاً نفسي بالعودة إليه، ومتوهماً أن ما كنت فيه مناماً لطيبه، واعترضتني
أشغال أدت إلى اللحاق بسيف الدولة، فسرت متحسراً على ما فاتني من معرفة حقيقة خبره، ولم أزل متلهفاً على ما سلبته من فراقه، ولم أحصل على حقيقة خبر يطمعني في لقائه إلى أن عاد سيف الدولة إلى دمشق، فما بدأت بشيء قبل المصير إلى الدير، وطلبت الراهب، وسألته عن خبره، فقال: أما الآن فنعم، هذا فتى من المادرائيين، عظيم النعمة، جليل القدر، كان ضمن من السلطان بمصر ضياعاً بمال عظيم، فخاش به ضمانه وأشرف على الخروج من نعمته، فاستتر، واشتد البحث عنه، فخرج مختفياً إلى هذا البلد بزي تاجر، واستتر عند بعض إخوانه ممن أعرفه، فإني يوماً عنده إذ ظهر لي وقال لصديقه: إني أريد الانتقال إلى هذا الراهب إن كان علي مأموناً، فذكر له صديقه مذهبي، وأظهرت المسرة بما رغب فيه من الأنس بي، وأنا لا أعرفه، غير أن صديقي أمرني بخدمته، وأكد علي تأكيداً عرفت منه جلالة قدره، وحصل في قلايتي يواصل الصوم، فبعد أيام جاءنا رسول صديقنا ومعه الغلام والخادم وقد لحقا به بسفاتج وعليهما ثياب رثة، فلما نظر إلى الغلام قال: يا راهب، جاء الفطر مع إقبال العيد. ووثب إليه فاعتنقه، وقبل بين عينيه ويبكي، وأنفذ رقعة منه إلى صديق له، فحمل إلينا ألفي دينار، فدفع إليه منها ثلاث مئة دينار وقال له: ابتع لنا ما نستخدمه في هذه الضيقة. فابتاع آلة وفرشاً، ولم يزل مكباً على ما رأيت إلى أن ورد عليه غلمانه بالبغال والآلات الحسنة، وكتب أهله باجتماعهم على الإخشيد، وتعريفهم حاله، في بعده عن وطنه لضيق يده عما يطالب به، والتوقيع بحطيطة المال عنه، وبعوده إلى بلده بالكتب، فلما عمل على المسير قال لغلامه: سلم ما بقي من نفقتك إلى الراهب يصرفه في مصالح الدير إلى أن نواصل تفقده من مستقرنا. وسار وما له حسرة غيرك، ولا يشرب إلا على ما يغنيه الغلام من شعرك، وهو بمصر على أفضل حال، ما يخل بتفقدي. فتعجلت بعض السلوة بما عرفته من حقيقة خبره، وأقمت يومي عند الراهب، وانصرفت.