الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا، فَهَؤُلَاءِ الرَّافِضَةُ رَتَّبُوا جَهْلًا على جهل، فصاروا في ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، فَظَنُّوا أَنَّ قَوْلَهُ:{حَسْبُكَ اللَّه وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَسْبُكَ، ثُمَّ جَعَلُوا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ هُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
وَجَهْلُهُمْ فِي هَذَا أَظْهَرُ مِنْ جَهْلِهِمْ فِي الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ قَدْ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، وَأَمَّا هَذَا فَلَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ، فَإِنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ وَحْدَهُ مِنَ الْخَلْقِ كَافِيًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا عَلِيٌّ لَمَا أَقَامَ دِينَهُ. وَهَذَا عليٌّ لَمْ يُغْنِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَعَهُ أَكْثَرُ جُيُوشِ الْأَرْضِ، بَلْ لَمَّا حَارَبَهُ مُعَاوِيَةُ مَعَ أَهْلِ الشَّامِ، كَانَ مُعَاوِيَةُ مُقَاوِمًا لَهُ أَوْ مُسْتَظْهِرًا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِقُوَّةِ قِتَالٍ، أَوْ قُوَّةِ مكرِ واحتيال، فالحرب خدعة.
فَإِذَا لَمْ يُغْنِ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَهُ، فَكَيْفَ يغني عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وَأَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ أَعْدَاؤُهُ؟!
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ عَلِيًّا إِنَّمَا لَمْ يَغْلِبْ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ مَعَهُ لِأَنَّ جَيْشَهُ لَا يطيعونه، بل كانوا مختلفين عليه.
قِيلَ: فَإِذَا كَانَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُطِيعُوهُ، فَكَيْفَ يُطِيعُهُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بنبيه وبه؟!
وَمِنَ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ النَّاسَ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَتْبَعُ لِلْحَقِّ مِنْهُمْ قَبْلَ دُخُولِهِمْ فِيهِ، فَمَنْ كَانَ مُشَارِكًا لِلَّهِ فِي إِقَامَةِ دِينِ مُحَمَّدٍ، حَتَّى قَهَرَ الْكُفَّارَ وَأَسْلَمَ النَّاسُ، كَيْفَ لَا يَفْعَلُ هَذَا فِي قَهْرِ طائفة بغوا عليهم، هُمْ أَقَلُّ مِنَ الْكُفَّارِ الْمَوْجُودِينَ عِنْدَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ، وَأَقَلُّ مِنْهُمْ شَوْكَةً، وَأَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ منهم؟!
(فَصْلٌ)
قَالَ الرَّافِضِيُّ: ((الْبُرْهَانُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (1) قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ، فَيَكُونُ هُوَ الْإِمَامَ)) .
(1) الآية 54 من سورة المائدة.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا كَذِبٌ عَلَى الثَّعْلَبِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:((قَالَ عَلِيٌّ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: إِنَّهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ)) . وَذَكَرَ حَدِيثَ عِيَاضِ بْنِ غُنْمٍ: أَنَّهُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ:((أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ)) (1) . فَقَدْ نَقَلَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ عَلِيًّا فسَّر هَذِهِ الآية بأنهم أبو بكر وأصحابه.
الثَّانِي: أَنَّ هَذَا قَوْلٌ بِلَا حُجَّةٍ، فَلَا يَجِبُ قَبُولُهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا معارَض بِمَا هُوَ أَشْهَرُ مِنْهُ وَأَظْهَرُ، وَهُوَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ، الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعَهُ أَهْلَ الرِّدَّةِ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ. لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْكَذَّابُونَ أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا الْفَضَائِلَ الَّتِي جَاءَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ يجعلونها لعليّ، وهذا من المكر السيء الذي لا يحيق إلا بأهله.
الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَوَاتَرَ عِنْدَ الناس أنه قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه، الَّذِي قَاتَلَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ الْمُدَّعِيَ لِلنُّبُوَّةِ وَأَتْبَاعَهُ بَنِي حَنِيفَةَ وَأَهْلَ الْيَمَامَةِ. وقد قِيلَ: كَانُوا نَحْوَ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَقَاتَلَ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيَّ، وَكَانَ قَدِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بِنَجْدٍ، وَاتَّبَعَهُ مِنْ أَسَدٍ وَتَمِيمٍ وَغَطَفَانَ مَا شاء الله، وادّعت النُّبُوَّةَ سَجَاحٌ، امْرَأَةٌ تَزَوَّجَهَا مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، فَتَزَوَّجَ الكذّاب بالكذّابة.
وَالْمُقَاتِلُونَ لِلْمُرْتَدِّينَ هُمْ مِنَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ وَيُحِبُّونَهُ، وَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِالدُّخُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ قَاتَلُوا سَائِرَ الْكُفَّارِ مِنَ الرُّومِ وَالْفُرْسِ. وَهَؤُلَاءِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَنِ اتَّبَعَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَغَيْرِهِمْ. وَلِهَذَا رُوى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ سُئل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَؤُلَاءِ، فَأَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَقَالَ:((هُمْ قَوْمُ هَذَا)) (2) .
فَهَذَا أَمْرٌ يُعْرَفُ بِالتَّوَاتُرِ وَالضَّرُورَةِ: أَنَّ الَّذِينَ أَقَامُوا الْإِسْلَامَ وَثَبَتُوا عَلَيْهِ حِينَ الرِّدَّةِ، وَقَاتَلُوا الْمُرْتَدِّينَ وَالْكُفَّارَ، هُمْ دَاخِلُونَ فِي قَوْلِهِ:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} (3) وَأَمَّا عَلِيٌّ رضي الله عنه فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مِمَّنْ يُحِبُّ اللَّهَ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ، لَكِنْ ليس بأحق بهذه الصفة
(1) انظر البخاري كتاب المغازي باب قدوم الأشعريين.
(2)
انظر تفسير الطبري ج10 ص 414 - 415 تحقيق محمود شاكر.
(3)
الآية 54 من سورة المائدة.
مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَلَا كَانَ جهاده للكفّار والمرتدّين أعظم من جهاده هَؤُلَاءِ، وَلَا حَصَلَ بِهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لِلدِّينِ أَعْظَمُ مِمَّا حَصَلَ بِهَؤُلَاءِ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمْ لَهُ سَعْيٌ مَشْكُورٌ وَعَمَلٌ مَبْرُورٌ وَآثَارٌ صَالِحَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَاللَّهُ يَجْزِيهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ خير جزاء، فهم الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْأَئِمَّةُ الْمَهْدِيُّونَ، الَّذِينَ قَضَوْا بِالْحَقِّ، وَبِهِ كَانُوا يَعْدِلُونَ.
وَأَمَّا أَنْ يَأْتِيَ إِلَى أَئِمَّةِ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ كَانَ نَفْعُهُمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا أَعْظَمَ، فَيَجْعَلَهُمْ كفَّاراً أَوْ فسَّاقا ظَلَمَةً، وَيَأْتِيَ إِلَى مَنْ لَمْ يَجْرِ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلُ مَا جَرَى عَلَى يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَيَجْعَلَهُ اللَّهَ أَوْ شَرِيكًا لِلَّهِ، أَوْ شَرِيكَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ الْإِمَامَ الْمَعْصُومَ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ إِلَّا مَنْ جَعَلَهُ مَعْصُومًا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَيَجْعَلَ الْكُفَّارَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِي قَاتَلَهُمْ أُولَئِكَ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَيَجْعَلَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَيَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَيَحُجُّونَ الْبَيْتَ، وَيُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ يَجْعَلُهُمْ كُفَّارًا لِأَجْلِ قِتَالِ هَؤُلَاءِ.
فَهَذَا عَمَلُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالْإِلْحَادِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، عَمَلُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا دِينَ وَلَا إيمان.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ، أَيَقُولُ الْقَائِلُ: أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَلَفْظُهَا يُصَرِّحُ بِأَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ؟ قَالَ تَعَالَى:{مَن يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (1) إِلَى قَوْلِهِ: {لَوْمَةَ لَائِمٍ} . أَفَلَيْسَ هَذَا صَرِيحًا فِي أَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا رَجُلًا، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يُسَمَّى قَوْمًا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا.
وَلَوْ قَالَ: الْمُرَادُ هُوَ وَشِيعَتُهُ.
لَقِيلَ: إِذَا كَانَتِ الْآيَةُ أَدْخَلت مَعَ عَلِيٍّ غَيْرَهُ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ الَّذِينَ قَاتَلُوا الْكُفَّارَ وَالْمُرْتَدِّينَ أَحَقُّ بِالدُّخُولِ فِيهَا مِمَّنْ لَمْ يُقَاتِلْ إِلَّا أَهْلَ الْقِبْلَةِ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ، الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، أَحَقُّ بِالدُّخُولِ فِيهَا مِنَ الرَّافِضَةِ، الَّذِينَ يُوَالُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ، وَيُعَادُونَ السَّابِقِينَ الأوَّلين.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} لَفْظٌ مُطْلَقٌ، لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينٌ. وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كَائِنًا مَا كَانَ، لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِأَبِي بَكْرٍ ولا بعليّ. وإذا لم يكن مختصاً بأحدهما، لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ، فَبَطَلَ أَنْ يكون بذلك أفضل
(1) الآية 54 من سورة المائدة.