الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُم المُشْرِكُون} (1) .
وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الَّذِي لَا يَكُونُ الْفَرْعُ فِيهِ مُشَارِكًا لِلْأَصْلِ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، فَالْقِيَاسُ يُذم إِمَّا لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، وَهُوَ عَدَمُ الْمُسَاوَاةِ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَإِمَّا لِوُجُودِ مَانِعِهِ، وَهُوَ النَّصُ الَّذِي يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَا متلازمَيْن فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَا يَفُوتُ الشَّرْطُ إِلَّا وَالْمَانِعُ مَوْجُودٌ، وَلَا يُوجِدُ الْمَانِعُ إِلَّا وَالشَّرْطُ مَفْقُودٌ.
فَأَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ الْأَصْلُ والفرع في مناط الحكم ولم يعارضه ماهو أَرْجَحُ مِنْهُ، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي يُتَّبَعُ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقِيَاسَ فِيهِ فَاسِدٌ، وَكَثِيرٌ من الفقهاء قاسوا أقيسة فاسدة، بعضها باطل بالنص، وبعضها مما اتفق عَلَى بُطْلَانِهِ، لَكِنَّ بُطْلَانَ كَثِيرٍ مِنَ الْقِيَاسِ لَا يَقْتَضِي بُطْلَانَ جَمِيعِهِ، كَمَا أَنَّ وُجُودَ الْكَذِبِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحَدِيثِ لَا يُوجِبُ كذب جميعه.
(فَصْلٌ)
قَالَ الرَّافِضِيُّ: ((الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ: مَا قَالَهُ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ خَوَاجَهْ نَصِيرُ الْمِلَّةِ وَالْحَقِّ وَالدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الطُّوسِيُّ، قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ، وَقَدْ سَأَلْتُهُ عَنِ الْمَذَاهِبِ
فَقَالَ: بَحَثْنَا عَنْهَا وَعَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، مِنْهَا فِرْقَةٌ نَاجِيَةٌ، وَالْبَاقِي فِي النَّارِ)) (2) ، وقد عين الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ وَالْهَالِكَةَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ صَحِيحٍ متفق عليه، وهو قَوْلِهِ:((مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي كَمَثَلِ سَفِينَةِ نُوحٍ: مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ)) ، فَوَجَدْنَا الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ هِيَ فِرْقَةُ الْإِمَامِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ بَايِنُوا جَمِيعَ الْمَذَاهِبِ، وَجَمِيعُ الْمَذَاهِبِ
قَدِ اشْتَرَكَتْ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ)) .
فَيُقَالُ: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْإِمَامِيَّ قَدْ كَّفر مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ مُوجَبٌ بِالذَّاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُوجَبًا بذاته لا مختارا فيلزم الكفر.
وهذا الذي جَعَلَهُ شَيْخُهُ الْأَعْظَمُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ، هُوَ مِمَّنْ يقول بأن الله موجب بالذات،
(1) الآية 121 من سورة الأنعام.
(2)
سنن أبي داود ج4 ص 276 والترمذي ج4ص134.
ويقول بقدم العالم، كما ذكرذلك فِي كِتَابِ ((شَرْحِ الْإِشَارَاتِ)) لَهُ. فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ شَيْخُهُ هَذَا الَّذِي احْتَجَّ بِهِ كَافِرًا، وَالْكَافِرُ لَا يُقبل قَوْلُهُ فِي دين المسلمين.
الثاني: أن هذا الرجل قد اشْتَهَرَ عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّهُ كَانَ وَزِيرَ الْمَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ بِالْأَلَمُوتِ (1) ، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ التُّرْكُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَجَاءُوا إِلَى بغداد، دار الخلافة، كَانَ هَذَا مُنَجِّمًا مُشِيرًا لِمَلِكِ التُّرْكِ الْمُشْرِكِينَ هولاكو أشار عليه بقتل الخليفة، وَقَتْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَاسْتِبْقَاءِ أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ وَالتِّجَارَاتِ الَّذِينَ يَنْفَعُونَهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَى الْوَقْفِ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ يُعْطِي مِنْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ لِعُلَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَشُيُوخِهِمْ مِنَ الْبَخَشِيَّةِ السَّحَرَةِ وَأَمْثَالِهِمْ وَأَنَّهُ لَمَّا بَنَى الرَّصد الذي بمراغة على طريق الصَّابِئَةِ الْمُشْرِكِينَ، كَانَ أَبْخَسُ النَّاسِ نَصِيبًا مِنْهُ مَنْ كَانَ إِلَى أهلِ الْمِلَلِ أَقْرَبَ، وَأَوْفَرُهُمْ نَصِيبًا مَنْ كَانَ أَبْعَدَهُمْ عَنْ الْمِلَلِ، مِثْلَ الصابئة المشركين ومثل المعطّلة وسائر المشركون، وإن ارتزقوا بالنجوم والطب ونحو ذلك.
وَمِنَ الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَعَنْ أَتْبَاعِهِ الِاسْتِهْتَارُ بِوَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ ومحرَّماته، لَا يُحَافِظُونَ عَلَى الْفَرَائِضِ كَالصَّلَوَاتِ، ولا ينزعون من مَحَارِمِ اللَّهِ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، حَتَّى أَنَّهُمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يُذكر عَنْهُمْ مِنْ إِضَاعَةِ الصَّلَوَاتِ، وَارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ، وشرب الخمر -مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ وَظُهُورٌ إِلَّا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ دِينُهُمْ شَرٌّ مِنْ دِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَلِهَذَا كَانَ كُلَّمَا قَوِيَ الْإِسْلَامُ فِي الْمُغْلِ وَغَيْرِهِمْ من ترك، ضَعُفَ أَمْرُ هَؤُلَاءِ لِفَرْطِ مُعَادَاتِهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. وَلِهَذَا كَانُوا مِنْ أَنْقَصِ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ الْأَمِيرِ نَوْرُوزَ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الشَّهِيدِ، الَّذِي دَعَا مَلِكَ الْمُغْلِ غَازَانَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالْتَزَمَ لَهُ أَنْ يَنْصُرَهُ إِذَا أَسْلَمَ، وَقَتَلَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا مِنَ الْبَخَشِيَّةِ السَّحَرَةِ وغيرهم، وَهَدَمَ الْبَذَخَانَاتِ، وَكَسَّرَ الْأَصْنَامَ وَمَزَّقَ سَدَنَتَهَا كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَأَلْزَمَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ، وَبِسَبَبِهِ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ فِي الْمُغْلِ وَأَتْبَاعِهِمْ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَأَمْرُ هَذَا الطُّوسِيِّ وَأَتْبَاعِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَشْهَرُ وَأَعْرَفُ من أن يعرف
(1) اسم قلعه في جبال الديلم بناها أحد ملوك الديلم.
وَيُوصَفَ. وَمَعَ هَذَا فَقَدَ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ آخِرِ عُمْرِهِ يُحَافِظُ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَيَشْتَغِلُ بتفسير البغوى والفقه وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ قَدْ تَابَ مِنَ الْإِلْحَادِ فَاللَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ. والله تعالى يقول:{َيا عباِديَ الَّذِينَ أَسْرَفوا عَلَى أنفسِهِمْ لَا تَقْنَطوا مِن رَّحْمَة اللَّهِ إنَّ اللهَ يَغْفِر الذُنوبَ جَمِيعًا} (1) .
لكن ما ذكره عن هَذَا، إِنْ كَانَ قَبْلَ التَّوْبَةِ لَمْ يُقبل قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّوْبَةِ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَابَ مِنَ الرَّفْضِ، بَلْ مِنَ الْإِلْحَادِ وحده. وعلى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يُقبل قَوْلُهُ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَجْتَمِعُ بِهِ وَبِأَمْثَالِهِ لَمَّا كَانَ مَنَجِّمًا لِلْمُغْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْإِلْحَادُ مَعْرُوفٌ مِنْ حَالِهِ إِذْ ذلك.
فَمَنْ يَقْدَحُ فِي مِثْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّابِقِينَ الأوَّلين مِنَ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار، ويطعن على مثل مالك والشافعي وأي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَيُعَيِّرُهُمْ بِغَلَطَاتِ بَعْضِهِمْ فِي مِثْلِ إِبَاحَةِ
الشَّطْرَنْجِ وَالْغِنَاءِ، كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَحْتَجَّ لِمَذْهَبِهِ بِقَوْلِ مِثْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَا يحرِّمون مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، ولا يدينون دين الحق، وَيَسْتَحِلُّونَ المحرَّمات الْمُجْمَعَ عَلَى تَحْرِيمِهَا، كَالْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ، فِي مِثْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ، الَّذِينَ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، وَخَرَقُوا سِيَاجَ الشَّرَائِعِ، وَاسْتَخَفُّوا بِحُرُمَاتِ الدِّينِ، وَسَلَكُوا غَيْرَ طَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُمْ كَمَا قِيلَ فِيهِمْ:
الدِّينُ يَشْكُو بَلِيَّةْ
…
مِنْ فِرْقَةٍ فَلْسَفِيَّةْ
لَا يَشْهَدُونَ صَلَاةً
…
إِلَّا لِأَجْلِ التَّقِيَّةْ
وَلَا تَرَى الشَّرْعَ إِلَّا
…
سِيَاسَةً مَدَنِيَّةْ
وَيُؤْثِرُونَ عليه
…
مناهجافلسفية
وَلَكِنَّ هَذَا حَالُ الرَّافِضَةِ: دَائِمًا يُعَادُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ـ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالَّذِينَ اتّبعوا بِإِحْسَانٍ، وَيُوَالُونَ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ. فَإِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ نِفَاقًا فِي الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ هُمُ الْمَلَاحِدَةُ الْبَاطِنِيَّةُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ، فَمَنِ احْتَجَّ بِأَقْوَالِهِمْ فِي نُصْرَةِ قَوْلِهِ، مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَعْنِهِ عَلَى أَقْوَالِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ - كَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ مُوَالَاةً لِأَهْلِ النِّفَاقِ، وَمُعَادَاةً لِأَهْلِ الْإِيمَانِ.
وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ هَذَا الْمُصَنِّفَ الرَّافِضِيَّ الْخَبِيثَ الْكَذَّابَ المفتري، يذكر أبا بكر وعمر
(1) الآية 53 من سورة الزمر.
وعثمان، وسائر السابقين والأوَّلين وَالتَّابِعِينَ، وَسَائِرَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ بِالْعَظَائِمِ الَّتِي يَفْتَرِيهَا عَلَيْهِمْ هُوَ وَإِخْوَانُهُ، وَيَجِيءُ إِلَى مَنْ قَدِ اشتُهر عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بمحادته لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيَقُولُ:((قَالَ شَيْخُنَا الْأَعْظَمُ)) ، وَيَقُولُ ((قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ)) مَعَ شَهَادَتِهِ بِالْكُفْرِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ، وَمَعَ لَعْنَةِ طَائِفَتِهِ لِخِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ من الأولين والآخرين.
وَهَؤُلَاءِ دَاخِلُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ نَصِيرًا} (1) .
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْإِمَامِيَّةَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، إِذْ كَانُوا مقرِّين بِبَعْضِ مَا فِي الْكِتَابِ المنزَّل، وَفِيهِمْ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْجِبْتِ وَهُوَ السحر، والطاغوت وهو كل ما يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يعظِّمون الْفَلْسَفَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِذَلِكَ، وَيَرَوْنَ الدُّعَاءَ وَالْعِبَادَةَ لِلْمَوْتَى، وَاتِّخَاذَ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، وَيَجْعَلُونَ السَّفَرَ إِلَيْهَا حَجًّا لَهُ مَنَاسِكُ، وَيَقُولُونَ:((مَنَاسِكُ حَجِّ الْمَشَاهِدِ)) .
وَحَدَّثَنِي الثِّقَاتُ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَرَوْنَ الْحَجَّ إِلَيْهَا أَعْظَمَ مِنَ الْحَجِّ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، فَيَرَوْنَ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ أَعْظَمَ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْإِيمَانِ بِالطَّاغُوتِ.
وَهُمْ يَقُولُونَ لِمَنْ يقرُّون بِكُفْرِهِ مِنَ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَدَعْوَةِ الْكَوَاكِبِ، والمسوِّغين لِلشِّرْكِ: هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، فَإِنَّهُمْ فَضَّلُوا هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةَ الْمُشْرِكِينَ على السَّابِقِينَ الأوَّلين مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ. وَلَيْسَ هَذَا بِبِدَعٍ مِنَ الرَّافِضَةِ، فَقَدْ عُرف مِنْ مُوَالَاتِهِمْ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ، وَمُعَاوَنَتِهِمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، مَا يَعْرِفُهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ مَا اقْتَتَلَ يَهُودِيٌّ وَمُسْلِمٌ، وَلَا مُشْرِكٌ وَمُسْلِمٌ - إِلَّا كَانَ الرَّافِضِيُّ مَعَ اليهودي والنصراني والمشرك.
الوجه الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّةَ وَالنُّصَيْرِيَّةَ هُمْ مِنَ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ التَّشَيُّعَ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْبَاطِنِ كُفَّارًا مُنْسَلِخِينَ عن كُلِّ مِلَّةٍ، وَالنُّصَيْرِيَّةُ هُمْ مِنْ غُلَاةِ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ إِلَهِيَّةِ عَلِيٍّ وَهَؤُلَاءِ أَكْفُرُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةُ الْبَاطِنِيَّةُ أَكْفَرُ مِنْهُمْ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمُ التَّعْطِيلُ. أَمَّا أَصْحَابُ الناموس
(1) الآيتان 51-52 من سورة النساء.
الْأَكْبَرِ وَالْبَلَاغِ الْأَعْظَمِ، الَّذِي هُوَ آخَرُ الْمَرَاتِبِ عِنْدَهُمْ، فَهُمْ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَالَمَ لا فاعل له: لا علة ولا خَالِقَ. وَيَقُولُونَ: لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْفَلَاسِفَةِ خِلَافٌ إِلَّا فِي وَاجِبِ الْوُجُودِ،، فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَهُ، وَهُوَ شَيْءٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَيَسْتَهْزِئُونَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ عز وجل، وَلَا سِيَّمَا هَذَا الِاسْمُ الَّذِي هُوَ اللَّهُ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُهُ عَلَى أَسْفَلِ قَدَمَيْهِ وَيَطَؤُهُ.
وَأَمَّا مَنْ هُوَ دُونَ هؤلاء فيقول بالسابق وبالتالي، الَّذِينَ عَبَّرُوا بِهِمَا عَنِ الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ، وَعَنِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ عِنْدَ الْمَجُوسِ، وركَّبوا لَهُمْ مَذْهَبًا مِنْ مَذَاهِبِ الصَّابِئَةِ وَالْمَجُوسِ ظَاهِرُهُ التشيع.
ولا ريب أن المجوس والصابئة شَرٌّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَكِنْ تَظَاهَرُوا بِالتَّشَيُّعِ.
قَالُوا: لِأَنَّ الشِّيعَةَ أَسْرَعُ الطَّوَائِفِ اسْتِجَابَةً لَنَا، لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْخُرُوجِ عَنِ الشَّرِيعَةِ، وَلِمَا فيهم من الجهل وتصديق المجهولات.
وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّتُهُمْ فِي الْبَاطِنِ فَلَاسِفَةً، كَالنَّصِيرِ الطُّوسِيِّ هَذَا، وَكَسِنَانٍ الْبَصْرِيِّ الَّذِي كَانَ بِحُصُونِهِمْ بِالشَّامِ، وَكَانَ يَقُولُ: قَدْ رَفَعت عَنْهُمُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ وَالْحَجَّ وَالزَّكَاةَ.
فَإِذَا كَانَتِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ إِنَّمَا يَتَظَاهَرُونَ فِي الْإِسْلَامِ بِالتَّشَيُّعِ، وَمِنْهُ دَخَلُوا وَبِهِ ظهروا، وأهله هم المهاجرين إِلَيْهِمْ، لَا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُمْ أَنْصَارُهُمْ لَا أَنْصَارُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - عُلم أَنَّ شَهَادَةَ الإسماعيلية للشيعة بأنهم على حق شَهَادَةٌ مَرْدُودَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ.
فَإِنَّ هَذَا الشَّاهِدَ: إِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ مُخَالِفٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَ التَّشَيُّعَ لِيُنْفِقَ بِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى تَعْظِيمِ التَّشَيُّعِ، وَشَهَادَتُهُ لَهُ شَهَادَةُ الْمَرْءِ نفسه، فَهُوَ كَشَهَادَةِ الْآدَمِيِّ لِنَفْسِهِ، لَكِنَّهُ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْذِبُ، وَإِنَّمَا كَذَبَ فِيهَا كما كَذَبَ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ، وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ دِينَ الْإِسْلَامِ فِي الْبَاطِنِ، وَيَظُنُّ أَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، كَانَ أَيْضًا شَاهِدًا لِنَفْسِهِ، لَكِنْ مَعَ جَهْلِهِ وَضَلَالِهِ.
وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَشَهَادَةُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ لَا تُقبل، سَوَاءً عَلِمَ كَذِبَ نَفْسِهِ أَوِ اعْتَقَدَ صِدْقَ نَفْسِهِ. كَمَا فِي السنن عن النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:((لَا تُقبل شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أخيه)) (1) . وهؤلاء خصمان أظِنّاء متهمون ذو غمر على أهل السنة والجماعة، فشهادتهم
(1) انظر المسند ج10 ص224 وج11 ص138، 163 تحقيق أحمد شاكر.
مَرْدُودَةٌ بِكُلِّ طَرِيقٍ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقال: أَوَّلًا أَنْتُمْ قَوْمٌ لَا تَحْتَجُّونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا يَرْوِيهِ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَسَانِيدِ أَهْلِ السُّنَّةِ،
وَالْحَدِيثُ نَفْسُهُ لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، بَلْ قَدْ طَعَنَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ، وَلَكِنْ قَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، كَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، وَرَوَاهُ أَهْلُ الْمَسَانِيدِ، كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ (1) .
فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ عَلَى أُصُولِكُمْ ثُبُوتُهُ حَتَّى تَحْتَجُّوا بِهِ؟ وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَحْتَجُّوا فِي أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَإِضْلَالِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ - إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً - بِأَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي لَا يَحْتَجُّونَ هم بها في الفروع العملية؟!.
وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ أَعْظَمِ التَّنَاقُضِ وَالْجَهْلِ؟!
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ تَفْسِيرُهُ فِيهِ من وجهين: أحدهما: أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سأل عَنِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، فَقَالَ:((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ: ((هُمُ الْجَمَاعَةُ)) . وَكُلٌّ مِنَ التفسيرين يناقض قول الإمامية، ويقتضي أنهم خَارِجُونَ عَنِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، فَإِنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ: يُكَفِّرُونَ أَوْ يفسِّقون أَئِمَّةَ الْجَمَاعَةِ، كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، دَعْ مُعَاوِيَةَ وَمُلُوكَ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي الْعَبَّاسِ، وَكَذَلِكَ يكفِّرون أَوْ يفسِّقون عُلَمَاءَ الْجَمَاعَةِ وَعُبَّادَهُمْ، كَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وإسحاق وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ سِيَرِ الصَّحَابَةِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، لَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بَعْدَهُ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالْمَنْقُولَاتِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِالرِّجَالِ الضُّعَفَاءِ وَالثِّقَاتِ، وَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ جَهْلًا بِالْحَدِيثِ وَبُغْضًا لَهُ، وَمُعَادَاةً لِأَهْلِهِ، فَإِذَا كَانَ وَصْفُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ: أَتْبَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ شِعَارُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - كَانَتِ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ هُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَالسُّنَّةُ مَا كَانَ صلى الله تعالى عليه وسلم هو وأصحابه عليه في عهده، مما أمرهم به وأقرَّهم عَلَيْهِ أَوْ فَعَلَهُ هُوَ، وَالْجَمَاعَةُ هُمُ الْمُجْتَمِعُونَ
(1) يعني حديث الافتراق رواه أبو داود ج5 ص4، 5 والترمذي رقم 3991 في الفتن، وقال: إنه حسن صحيح وغيرهما وله طرق كثيرة.
الَّذِينَ مَا فرَّقوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا، فَالَّذِينَ فرَّقوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا خَارِجُونَ
عَنِ الْجَمَاعَةِ قَدْ برَّأ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنْهُمْ، فعُلم بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا وَصْفُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لَا وَصْفُ الرَّافِضَةِ، وَأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَصَفَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَبِلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)) ، فَمَنْ خَرَجَ عَنْ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ بَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى طَرِيقَةِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، وَقَدِ ارْتَدَّ نَاسٌ بَعْدَهُ فَلَيْسُوا مِنَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ.
قُلْنَا: نَعَمْ وَأَشْهَرُ النَّاسِ بِالرِّدَّةِ خُصُومُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه وَأَتْبَاعِهِ كَمُسَيْلِمَةَ الكذَّاب وَأَتْبَاعِهِ وَغَيْرِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ تَتَوَلَّاهُمُ الرَّافِضَةُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ شُيُوخِهِمْ، مِثْلُ هَذَا الْإِمَامِيُّ وَغَيْرُهُ، ويقولون: إنهم كانوا على حق، وَأَنَّ الصِّدِّيقَ قَاتَلَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ. ثُمَّ مِن أظهر الناس ردة الغالية الذين حرَّقهم علي ّ رضي الله عنه بِالنَّارِ لَمَّا ادَّعَوْا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ وَهُمُ السَّبَائِيَّةُ أَتْبَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ الَّذِينَ أَظْهَرُوا سَبَّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
وَأَوَّلُ مَنْ ظَهَرَ عَنْهُ دَعْوَى النُّبُوَّةِ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ وَكَانَ مِنَ الشِّيعَةِ، فعُلم أَنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ رِدَّةً هُمْ فِي الشِّيعَةِ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فِي سَائِرِ الطَّوَائِفِ، وَلِهَذَا لَا يُعرف رِدَّةٌ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ رِدَّةِ الْغَالِيَةِ كَالنُّصَيْرِيَّةِ، وَمِنْ رِدَّةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ، وَأَشْهَرُ النَّاسِ بِقِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه، فَلَا يَكُونُ الْمُرْتَدُّونَ فِي طَائِفَةٍ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي خُصُومِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، هُمْ بِالرَّافِضَةِ أوْلى مِنْهُمْ بِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَهَذَا بيِّن يَعْرِفُهُ كُلُّ عَاقِلٍ يَعْرِفُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَلَا يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ أَنَّ جِنْسَ الْمُرْتَدِّينَ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى التَّشَيُّعِ أَعْظَمُ وأفحش كفرا من جنس المرتدين المنتسبين إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، إِنْ كَانَ فِيهِمْ مُرْتَدٌّ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْحُجَّةُ التي احتج بها الطُّوسِيُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامِيَّةَ هُمُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ كَذِبٌ فِي وَصْفِهَا، كَمَا هِيَ بَاطِلَةٌ فِي دلالتها. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ:((بَايِنُوا جَمِيعَ الْمَذَاهِبِ، وَجَمِيعُ الْمَذَاهِبِ قَدِ اشْتَرَكَتْ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ))
إن أراد بذلك أنهم باينو جَمِيعَ الْمَذَاهِبِ فِيمَا اخْتَصُّوا بِهِ، فَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ، فَإِنَّ الْخَوَارِجَ أَيْضًا بَايَنُوا جَمِيعَ الْمَذَاهِبِ فِيمَا اخْتَصُّوا بِهِ مِنَ التَّكْفِيرِ بِالذُّنُوبِ، وَمِنْ تَكْفِيرِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَمِنْ إِسْقَاطِ طَاعَةِ الرَّسُولِ فِيمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ عَنِ اللَّهِ، وَتَجْوِيزِ الظُّلْمِ عَلَيْهِ فِي قسْمهِ وَالْجَوْرِ فِي
حُكْمِهِ، وَإِسْقَاطِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي تُخَالِفُ مَا يُظن أَنَّهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، كقطع السارق من المنكب وأمثال ذلك.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ يُقال: مُبَايَنَتُهُمْ لِجَمِيعِ الْمَذَاهِبِ هُوَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ أَدَلُّ مِنْهُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ؛ فَإِنَّ مُجَرَّدَ انْفِرَادِ طَائِفَةٍ عَنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ، وَاشْتِرَاكُ أُولَئِكَ فِي قَوْلٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم جعل أمته ثلاثا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تُفَارِقَ هذه الواحدة سائر الاثنتين وسبعين فرقة.
قُلْنَا: نَعَمْ. وَكَذَلِكَ يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى مُفَارَقَةِ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ بَعْضِهَا بَعْضًا، كَمَا فَارَقَتْ هَذِهِ الْوَاحِدَةُ. فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاكِ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ، بَلْ
لَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْحَدِيثِ إِلَّا مُبَايَنَةُ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ كُلِّ طَائِفَةٍ لِلْأُخْرَى. وَحِينَئِذٍ فَمَعْلُومٌ أَنَّ جِهَةَ الِافْتِرَاقِ جِهَةُ ذَمٍّ لَا جِهَةُ مَدْحٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ وَالِائْتِلَافِ، وَذَمَّ التفريق وَالِاخْتِلَافَ، فَقَالَ تَعَالَى:{واْعتَصِموا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقوا} (1) وَقَالَ: {وَلَا تَكُونوا كالَّذينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّنَاتْ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ. يَوْمَ تَبْيَضْ وُجوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجوهٌ فَأَمّا الَّذينَ اسْوَدَّتْ وُجوهُهُم} (2) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وتسودُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذينَ فَرَّقوا دِينَهُمْ وَكانوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ} (3) وَقَالَ: {وَما اخْتَلَفَ فيهِ إِلاّ الَّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ بَغْيًا بَينَهُم} (4) وَقَالَ: {وَما تَفَرَّقَ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ إِلَاّ مِنْ بَعدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ} (5) .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَعْظَمُ الطَّوَائِفِ مُفَارَقَةً للجماعة وافتراقا في نفسها أولى الطوائف الذم، وَأَقَلُّهَا افْتِرَاقًا وَمُفَارَقَةً لِلْجَمَاعَةِ أَقْرَبُهَا إِلَى الْحَقِّ. وَإِذَا
كَانَتِ الْإِمَامِيَّةُ أوْلى بِمُفَارَقَةِ سَائِرِ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ فَهُمْ أَبْعَدُ عَنْ الْحَقِّ، لَا سِيَّمَا وَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَكْثَرُ اخْتِلَافًا مِنْ جَمِيعِ فِرَقِ الْأُمَّةِ، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُمْ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِرْقَةً. وَهَذَا الْقَدْرُ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ هَذَا الطُّوسِيِّ بعضُ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: كَانَ يَقُولُ: الشِّيعَةُ تَبْلُغُ فِرَقُهُمْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَدْ صنَّف الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى النُّوبَخْتِيُّ وَغَيْرُهُ فِي تَعْدِيدِ فِرَقِ الشِّيعَةِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْجَمَاعَةِ فَهُمْ أَقَلُّ اخْتِلَافًا فِي أُصُولِ دِينِهِمْ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ، وَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ إِلَى ضِدِّهَا، فَهُمُ الْوَسَطُ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ هُمُ الْوَسَطُ فِي أَهْلِ الْمِلَلِ: هُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ بَيْنَ أَهْلِ التعطيل وأهل التمثيل.
وقال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا)) وَحِينَئِذٍ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ خَيْرُ الْفِرَقِ.
وَفِي بَابِ الْقَدَرِ بَيْنَ أَهْلِ التَّكْذِيبِ بِهِ وَأَهْلِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَفِي بَابِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ بَيْنَ الْوَعِيدِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ، وَفِي بَابِ الصَّحَابَةِ بَيْنَ الْغُلَاةِ وَالْجُفَاةِ، فَلَا يَغْلُونَ فِي عَلِيٍّ غُلُوَّ الرَّافِضَةِ، وَلَا يكفِّرونه تكفير الخوارج، ولا يكفِّرون أبا بكر وَعُثْمَانَ كَمَا تكفِّرهم الرَّوَافِضُ، وَلَا يكفِّرون عُثْمَانَ وعليا كما يُكفرهما الخوارج.
(1) الآية 103 من سورة آل عمران.
(2)
الآيتان 105، 106 من سورة آل عمران.
(3)
الآية 159 من سورة الأنعام.
(4)
الآية 213 من سورة البقرة.
(5)
الآية 4 من سورة البينة.