الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا قَوْلُ الرَّافِضِيِّ: ((الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى نَقْصِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ((1) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى خَوَرِهِ، وَقِلَّةِ صَبْرِهِ، وَعَدَمِ يَقِينِهِ وَعَدَمِ رِضَاهُ بِمُسَاوَاتِهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ)) .
فَالْجَوَابُ: أَوَّلًا: أَنَّ هَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَكُمْ: ((إِنَّهُ اسْتَصْحَبَهُ حَذَرًا مِنْهُ لِئَلَّا يَظْهَرَ أَمْرُهُ)) فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عدوه، وكان مبطناً لعِداه الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَفْرَحَ ويسرّ ويطمئن إذا جاءه الْعَدُوُّ. وَأَيْضًا فَالْعَدُوُّ قَدْ جَاءُوا وَمَشَوْا فَوْقَ الْغَارِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُنْذِرَهُمْ بِهِ.
وَأَيْضًا فَكَانَ الَّذِي يَأْتِيهِ بِأَخْبَارِ قُرَيْشٍ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، فَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْمُرَ ابْنَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِمْ قُرَيْشًا.
وَأَيْضًا فَغُلَامُهُ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ هُوَ الَّذِي كَانَ مَعَهُ رَوَاحِلُهُمَا، فَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ لِغُلَامِهِ: أَخْبِرْهُمْ بِهِ.
فَكَلَامُهُمْ فِي هَذَا يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ: إِنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا، وَيُثْبِتُ أَنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا بِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُهَاجِرِينَ مُنَافِقٌ، وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ فِي قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ، لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُهَاجِرْ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ، وَالْكَافِرُ بِمَكَّةَ لَمْ يَكُنْ يَخْتَارُ الهجرة، ومفارقة وطنه وأهله بنصر عدوه.
وإذا كان هذا الإيمان يَسْتَلْزِمُ إِيمَانَهُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَخْتَارُ لِمُصَاحَبَتِهِ فِي سَفَرِ هِجْرَتِهِ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْأَسْفَارِ خَوْفًا، وَهُوَ السَّفَرُ الَّذِي جُعل مَبْدَأَ التَّارِيخِ لِجَلَالَةِ قَدْرِهِ فِي النُّفُوسِ، وَلِظُهُورِ أَمْرِهِ؛ فَإِنَّ التَّارِيخَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ مَعْلُومٍ لِعَامَّةِ النَّاسِ - لَا يَسْتَصْحِبُ الرَّسُولُ فِيهِ مَنْ يَخْتَصُّ بِصُحْبَتِهِ، إِلَّا وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ طُمَأْنِينَةً إِلَيْهِ، وَوُثُوقًا بِهِ.
وَيَكْفِي هَذَا فِي فَضَائِلِ الصدِّيق، وَتَمْيِيزِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا مِنْ فَضَائِلِ الصِّدِّيقِ الَّتِي لَمْ يَشْرَكْهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهُ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَقْصِهِ)) .
فَنَقُولُ: أَوَّلًا: النَّقْصُ نَوْعَانِ: نَقْصٌ يُنَافِي إِيمَانَهُ، ونقصٌ عمَّن هو أكمل منه.
(1) الآية 40 من سورة التوبة.
فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ، فَهُوَ بَاطِلٌ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم:( {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} ((1) .
وَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً: { (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنْتُمُ اْلأَعْلَوْنَ} (2) .
وَقَالَ: { (وَلَقَدْ أَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمُ * لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} ((3) . فَقَدَ نَهَى نَبِيَّهُ عَنِ الْحُزْنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ جُمْلَةً، فعُلم أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الْإِيمَانَ.
وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ نَاقِصٌ عمَّن هُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ حَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكْمَلُ مِنْ حَالِ أَبِي بَكْرٍ. وَهَذَا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أحدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَلَكِنْ لَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا أَوْ عُثْمَانَ أَوْ عُمَرَ أَوْ غَيْرَهُمْ أَفْضَلُ مِنْهُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْحَالِ، ولو كانوا معه لم يُعلم حَالَهُمْ يَكُونُ أَكْمَلُ مِنْ حَالِ الصدِّيق، بَلِ الْمَعْرُوفُ مِنْ حَالِهِمْ دَائِمًا وَحَالِهِ، أَنَّهُمْ وَقْتَ الْمَخَاوِفِ يَكُونُ الصدِّيق أَكْمَلَ مِنْهُمْ كُلِّهِمْ يَقِينًا وَصَبْرًا، وَعِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِ الرَّيْبِ يَكُونُ الصِّدِّيقُ أعظم يقينا وطمأنينة، وعندما يَتَأَذَّى مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ الصِّدِّيقُ أَتْبَعَهُمْ لِمَرْضَاتِهِ، وَأَبْعَدَهُمْ عَمَّا يُؤْذِيهِ.
هَذَا هُوَ الْمَعْلُومُ لِكُلِّ مَنِ اسْتَقْرَأَ أَحْوَالَهُمْ فِي مَحْيَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته.
وَأَيْضًا فَقِصَّةُ يَوْمِ بَدْرٍ فِي الْعَرِيشِ، وَيَوْمِ الحديبية في طمأنينته وسكينته معروفة، برز ذلك على سائر الصحابة، فكيف ينسب إلى الْجَزَعِ؟!
وَأَيْضًا فَقِيَامُهُ بِقِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ، وَتَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ، مَعَ تَجْهِيزِ أُسَامَةَ، مِمَّا يُبَيِّنُ أنه أعظم الناس طمأنينة ويقينا.
والسنُّى لَا يُنَازِعُ فِي فَضْلِهِ عَلَى عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَلَكِنَّ الرَّافِضِيَّ الَّذِي ادَّعَى أَنَّ عَلِيًّا كَانَ أَكْمَلَ مِنَ الثَّلَاثَةِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ دعواهُ بُهت وَكَذِبٌ وَفِرْيَةٌ؛ فَإِنَّ مَنْ تَدَبَّرَ سِيرَةَ عُمَرَ وَعُثْمَانَ عَلِمَ أَنَّهُمَا كَانَا فِي الصبر والثابت وَقِلَّةِ الْجَزَعِ فِي الْمَصَائِبِ أَكْمَلَ مِنْ عَلِيٍّ، فَعُثْمَانُ حَاصَرُوهُ وَطَلَبُوا خَلْعَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ أَوْ قَتْلَهُ، وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَهُوَ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ مُقَاتَلَتِهِمْ، إِلَى أَنْ قُتل شَهِيدًا، وَمَا دَافَعَ عَنْ نَفْسِهِ. فَهَلْ هَذَا إلا من أعظم الصبر على المصائب؟!
(1) الآية 127 من سورة النحل.
(2)
الآية 139 من سورة آل عمران.
(3)
الآيتان 87، 88 من سورة الحجر.