الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصَحَّ بِالْبُرْهَانِ الضَّرُورِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه أَزْهَدُ مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ عمر رضي الله تعالى عَنْهُ)) .
(فَصْلٌ)
قَالَ الرَّافِضِيُّ: عَلِيٌّ قَدْ طَلَّقَ الدُّنْيَا ثَلَاثًا، وَكَانَ قُوتُهُ جَرِيشَ الشَّعِيرِ، وَكَانَ يَخْتِمُهُ لِئَلَّا يَضَعَ الْإِمَامَانِ فِيهِ أُدْماُ، وَكَانَ يَلْبَسُ خَشِنَ الثِّيَابِ وَقَصِيرَهَا، وَرَقَّعَ مِدْرَعَتَهُ حَتَّى اسْتَحَى مِنْ رَقْعِهَا، وَكَانَ حَمَائِلُ سَيْفِهِ لِيفًا وكذا نعله.
وَرَوَى أَخْطَبُ خُوَارَزْمَ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((يَا عَلِيُّ إنَّ اللَّهَ زَيَّنَكَ بِزِينَةٍ لَمْ يُزَيِّنِ الْعِبَادَ بِزِينَةٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا: زَّهَدك في الدنيا، وبغَّضها إليك، وحبَّب إِلَيْكَ الْفُقَرَاءَ، فَرَضِيتَ بِهِمْ أَتْبَاعًا، وَرَضُوا بِكَ إِمَامًا. يَا عَلِيُّ طُوبَى لِمَنْ أَحَبَّكَ وَصَدَّقَ عَلَيْكَ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ أَبْغَضَكَ وَكَذَبَ عَلَيْكَ. أَمَّا مَنْ أَحَبَّكَ وَصَدَّقَ عَلَيْكَ فَإِخْوَانُكَ فِي دِينِكَ، وَشُرَكَاؤُكَ فِي جَنَّتِكَ. وَأَمَّا مَنْ أَبْغَضَكَ وَكَذَبَ عَلَيْكَ فَحَقِيقٌ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُقِيمَهُمْ مَقَامَ الْكَذَّابِينَ.
قَالَ سُوَيْدُ بْنُ غَفْلَةَ: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيٍّ الْعَصْرَ، فَوَجَدْتُهُ جَالِسًا بَيْنَ يَدَيْهِ صَفْحَةٌ فِيهَا لَبَنٌ حَارٌّ، وَأَجِدُ رِيحَهُ مِنْ شِدَّةِ حُمُوضَتِهِ، وَفِي يَدِهِ رَغِيفٌ أَرَى قُشَارَ الشَّعِيرِ فِي وَجْهِهِ وَهُوَ يَكْسِرُ بِيَدِهِ أَحْيَانًا، فَإِذَا غَلَبَهُ كَسَرَهُ بِرُكْبَتِهِ، فَطَرَحَهُ فِيهِ، فَقَالَ: ادْنُ فأَصِب مِنْ طَعَامِنَا هَذَا. فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ. فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ مَنَعَهُ الصِّيَامُ عَنْ طَعَامٍ يَشْتَهِيهِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُطْعِمَهُ مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ وَيَسْقِيَهُ مِنْ شَرَابِهَا. قَالَ: قُلْتُ لِجَارِيَتِهِ وَهِيَ قَائِمَةٌ: وَيْحَكِ يَا فِضَّةُ، أَلَا تَتَّقِينَ اللَّهَ فِي هَذَا الشَّيْخِ؟ أَلَا تَنْخُلِينَ طَعَامَهُ مِمَّا أَرَى فِيهِ مِنَ النخال؟ فقالت: لَقَدْ عَهِدَ إِلَيْنَا أَنْ لَا نَنْخُلَ لَهُ طَعَامًا. قَالَ: مَا قُلْتَ لَهَا؟ فَأَخْبَرْتُهُ. قَالَ: بِأَبِي وَأُمِّي مَنْ لَمْ يُنخل لَهُ طَعَامٌ، وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ البُرّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عز وجل، وَاشْتَرَى يَوْمًا ثَوْبَيْنِ غَلِيظَيْنِ، فَخَيَّرَ قَنْبَرًا فِيهِمَا فَأَخَذَ وَاحِدًا وَلَبِسَ هُوَ الْآخَرَ، وَرَأَى فِي كُمِّهِ طُولًا عن أصابعه فقطعه. وقال ضِرَارُ بْنُ ضَمْرَةَ: دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ بَعْدَ قَتْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، فَقَالَ: صِفْ لِي عَلِيًّا. فَقُلْتُ: أَعْفِنِي. فَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ.
فَقُلْتُ: أَمَّا إِذْ لَا بُدَّ، فَإِنَّهُ كَانَ وَاللَّهِ بَعِيدَ الْمَدَى، شَدِيدَ الْقُوَى، يَقُولُ فَصْلًا، وَيَحْكُمُ عَدْلًا، يَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَتَنْطِقُ الْحِكْمَةُ مِنْ نَوَاحِيهِ، يَسْتَوْحِشُ مِنَ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَيَسْتَأْنِسُ بِاللَّيْلِ وَوَحْشَتِهِ. وَكَانَ وَاللَّهِ غَزِيرَ الْعَبْرَةِ، طَوِيلَ الْفِكْرَةِ، يُعْجِبُهُ مِنَ اللِّبَاسِ مَا خَشُنَ، وَمِنَ الطَّعَامِ مَا قَشُبَ، وَكَانَ فِينَا كَأَحَدِنَا: يُجِيبُنَا إِذَا سَأَلْنَاهُ، وَيَأْتِينَا إِذَا دَعَوْنَاهُ، ونحن - وَاللَّهِ - مَعَ تَقْرِيبِهِ لَنَا وَقُرْبِهِ مِنَّا لَا نُكَلِّمُهُ هَيْبَةً لَهُ، يُعَظِّمُ أَهْلَ الدِّينِ، وَيُقَرِّبُ الْمَسَاكِينَ، لَا يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ، وَلَا ييأس الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِهِ. فَأَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُه وَهُوَ يَقُولُ: يَا دُنْيَا غرِّي غَيْرِي. أَلِيَ تعرضت؟ أم إليّ تشوفت؟
هيهات! قد أبنتك ثَلَاثًا، لَا رَجْعَةَ فِيكِ، عُمْرُكِ قَصِيرٌ، وَخَطَرُكِ كَثِيرٌ، وَعَيْشُكِ حَقِيرٌ.
آهٍ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَبُعْدِ السَّفَرِ وَوَحْشَةِ الطَّرِيقِ! فَبَكَى مُعَاوِيَةُ، وَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا الْحَسَنِ كَانَ وَاللَّهِ كَذَلِكَ، فَمَا حُزْنُكَ عَلَيْهِ يَا ضِرَارُ؟ قَالَ: حُزْنُ مَنْ ذُبح وَلَدُهَا فِي حِجْرِهَا، فَلَا تَرْقَأُ عَبْرَتُهَا، وَلَا يَسْكُنُ حُزْنُهَا)) .
وَالْجَوَابُ: أَمَّا زُهْدُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي الْمَالِ فَلَا رَيْبَ فِيهِ، لَكِنَّ الشَّأْنَ أَنَّهُ كَانَ أَزْهَدَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ ما يدل على ذَلِكَ، بَلْ مَا كَانَ فِيهِ حَقًّا فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْبَاقِي: إِمَّا كَذِبٌ، وَإِمَّا مَا لَا مَدْحَ فِيهِ.
أَمَّا كَوْنُهُ طلٌّق الدُّنْيَا ثَلَاثًا: فَمِنَ الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ((يَا صَفْرَاءُ، يَا بَيْضَاءُ، قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا، غُرِّي غَيْرِي، لَا رَجْعَةَ لِي فِيكِ)) لَكِنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَزْهَدُ ممن لم يقل هذا؛ فإن نبينا عيسى ابْنَ مَرْيَمَ وَغَيْرَهُمَا كَانُوا أَزْهَدَ مِنْهُ، وَلَمْ يَقُولُوا هَذَا. وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا زَهِدَ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ: قَدْ زَهِدْتُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَالَ: زَهِدْتُ، يَكُونُ قَدْ زَهِدَ، فَلَا عَدَمُ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الزُّهْدِ، وَلَا وُجُودُهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ كَانَ دَائِمًا يَقْتَاتُ جَرِيشَ الشَّعِيرِ بِلَا أُدم.
فَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ كَذِبٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا مَدْحَ فِيهِ. فَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إمام الزهّاد كَانَ لَا يَرُدُّ مَوْجُودًا، وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا، بَلْ إِنْ حَضَرَ لَحْمُ دَجَاجٍ أَكَلَهُ، أَوْ لَحْمُ غَنَمٍ أَكَلَهُ، أَوْ حَلْوَاءُ أَوْ عَسَلٌ أَوْ فَاكِهَةٌ أَكَلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا لَمْ يَتَكَلَّفْهُ، وَكَانَ إِذَا حَضَرَ طَعَامًا: فَإِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا
تَرَكَهُ، وَلَا يَتَكَلَّفُ مَا لا يحضر، وَرُبَّمَا رَبَطَ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنَ الْجُوعِ، وَقَدْ كَانَ يُقِيمُ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ لَا يُوقد في بيته نارٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((كَانَ حَمَائِلُ سَيْفِهِ لِيفًا، وَنَعْلُهُ لِيفًا)) .
فَهَذَا أَيْضًا كَذِبٌ وَلَا مَدْحَ فِيهِ؛ فَقَدْ رُوى أَنَّ نَعْلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنَ الْجُلُودِ، وَحَمَائِلَ سَيْفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ ذَهَبًا وَفِضَّةً. وَاللَّهَ قَدْ يسَّر الرِّزْقَ عَلَيْهِمْ، فَأَيُّ مَدْحٍ فِي أَنْ يَعْدِلُوا عَنِ الْجُلُودِ مع تيسيرها؟ وإنما يمدح هذا عند العدم.