الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(فصل)
الرافضة أكذب الناس، وذلك فيهم قديم وليسوا أهل علم
وَنَحْنُ نُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى طَرِيقَ الِاسْتِقَامَةِ فِي مَعْرِفَةِ هَذَا الْكِتَابِ، مِنْهَاجِ النَّدَامَةِ بِحَوَلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ، وَهَذَا الرَّجُلُ سَلَكَ مَسْلَكَ سَلَفِهِ، شُيُوخِ الرَّافِضَةِ كَابْنِ النُّعْمَانِ الْمُفِيدِ، وَمُتَّبِعِيهِ كَالْكَرَاجِكِيِّ، وَأَبِي الْقَاسِمِ الْمُوسَوِيِّ، وَالطُّوسِيِّ، وَأَمْثَالِهِمْ.
فَإِنَّ الرَّافِضَةَ فِي الْأَصْلِ لَيْسُوا أَهْلَ عِلْمٍ، وَخِبْرَةٍ بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَالْمُنَاظَرَةِ، وَمَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ، وَمَا يَدْخُلُ فيها من المنع والمعارضة، كما أنهم أَجْهَلِ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ الْمَنْقُولَاتِ، وَالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهَا وَضَعِيفِهَا، وَإِنَّمَا عُمْدَتُهُمْ فِي الْمَنْقُولَاتِ عَلَى تَوَارِيخَ مُنْقَطِعَةِ الْإِسْنَادِ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا مِنْ وضع المعروفين بالكذب وَبِالْإِلْحَادِ.
وَعُلَمَاؤُهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى نَقْلِ مِثْلِ أَبِي مخنف لوط بن علي، وَهُشَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، وَأَمْثَالِهِمَا مِنَ الْمَعْرُوفِينَ بِالْكَذِبِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، مَعَ أَنَّ أمثال هؤلاء هم أَجَلِّ مَنْ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ، فِي النَّقْلِ إِذْ كَانُوا يَعْتَمِدُونَ عَلَى مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالِافْتِرَاءِ، مِمَّنْ لَا يُذْكَرُ فِي الْكُتُبِ، ولا يعرفه أهل العلم بالرجال.
وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ وَالرِّوَايَةِ وَالْإِسْنَادِ عَلَى أَنَّ الرَّافِضَةَ أَكْذَبُ الطَّوَائِفِ، وَالْكَذِبُ فِيهِمْ قَدِيمٌ، وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ يَعْلَمُونَ امْتِيَازَهُمْ بِكَثْرَةِ الْكَذِبِ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ عَبْدِ الْأَعْلَى يَقُولُ قَالَ أَشْهَبُ بن عبد العزيز: سئل مالك عن الرَّافِضَةِ فَقَالَ: لَا تُكَلِّمْهُمْ وَلَا تَرْوِ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ قَالَ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: لَمْ أَرَ أَحَدًا أَشْهَدَ بِالزُّورِ مِنَ الرَّافِضَةِ.
وَقَالَ مُؤَمَّلُ بْنُ أهاب: سمعت يزيد بن هارون يقول: نكتب عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً إِلَّا الرَّافِضَةَ، فَإِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بن سعيد الأصفهاني سَمِعْتُ شَرِيكًا يَقُولُ أَحْمِلُ الْعِلْمَ عَنْ كُلِّ مَنْ لَقِيتُ إِلَّا الرَّافِضَةَ، فَإِنَّهُمْ يَضَعُونَ الْحَدِيثَ، ويتخذونه دينا.
وشريك هُوَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي، قَاضِي الْكُوفَةِ مِنْ أَقْرَانِ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي
حَنِيفَةَ، وَهُوَ مِنَ الشِّيعَةِ، الَّذِي يَقُولُ بِلِسَانِهِ أَنَا مِنَ الشِّيعَةِ. وَهَذِهِ شَهَادَتُهُ فِيهِمْ. وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يَقُولُ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ وما يسمونهم إلا الكذابين، يعني أصحاب المغيرة بن سعيد.
وقال الأعمش ولا عليكم أن تَذْكُرُوا هَذَا فَإِنِّي لَا آمَنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّا أَصَبْنَا الْأَعْمَشَ مَعَ امْرَأَةٍ، وَهَذِهِ آثَارٌ ثابتة قد رواها ابوعبد اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي الْإِبَانَةِ الْكُبْرَى، هُوَ وغيره.
وروى أبو القاسم الطبري: كان الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ قوما أشهد بالزور من الرافضة، وهذا المعنى إن كَانَ صَحِيحًا فَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ هُوَ الثَّابِتُ عَنِ الشافعي.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْعُلَمَاءَ كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ فِي الرَّافِضَةِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي سائر طوائف أهل القبلة.
والرافضة أصل بدعتهم عن زندقة وإلحاد، وتعمد الكذب فيهم كثير، وَهُمْ يُقِرُّونَ بِذَلِكَ، حَيْثُ يَقُولُونَ دِينُنَا التَّقِيَّةُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ بِلِسَانِهِ خِلَافَ مَا فِي قَلْبِهِ، وَهَذَا هُوَ الْكَذِبُ وَالنِّفَاقُ، وَيَدَّعُونَ مَعَ هَذَا أَنَّهُمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ.
وَيَصِفُونَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ بِالرِّدَّةِ وَالنِّفَاقِ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَا قِيلَ:(رَمَتْنِي بدائها وانسلت) ، إِذْ لَيْسَ فِي الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ أَقْرَبُ إِلَى النِّفَاقِ وَالرِّدَّةِ مِنْهُمْ، وَلَا يُوجَدُ الْمُرْتَدُّونَ وَالْمُنَافِقُونَ فِي طَائِفَةٍ أَكْثَرَ مِمَّا يُوجَدُ فِيهِمْ،
وَاعْتُبِرَ ذلك بالغالية من النصيرية وغيرهم، وبالملاحدة والاسماعيلية وأمثالهم.
وعمدتهم في الشرعيات ما ينقل لَهُمْ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَذَلِكَ النَّقْلُ مِنْهُ مَا هُوَ صِدْقٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ كَذِبٌ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً وَلَيْسُوا أَهْلَ مَعْرِفَةٍ بِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَضَعِيفِهِ، كَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ، ثُمَّ إذا صح النقل عن هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ بَنَوْا وُجُوبَ قَبُولِ قَوْلِ الْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أُصُولٍ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَعْصُومٌ مِثْلَ عِصْمَةِ الرَّسُولِ.
وعلى أن ما يقول أحدهم فإنما يقوله نقلا عن الرسول، ويدعون العصمة في هذا النقل.
وَالثَّالِثُ أَنَّ إِجْمَاعَ الْعِتْرَةِ حُجَّةٌ، ثُمَّ يَدَّعُونَ أَنَّ الْعِتْرَةَ هُمُ الِاثْنَا عَشَرَ، وَيَدَّعُونَ أَنَّ مَا نُقِلَ عَنْ أَحَدِهِمْ فَقَدْ أَجْمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ أُصُولُ الشَّرْعِيَّاتِ عِنْدَهُمْ، وَهِيَ أُصُولٌ فَاسِدَةٌ، كَمَا سَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْقُرْآنِ، وَلَا عَلَى الْحَدِيثِ، وَلَا على الإجماع، إِلَّا لِكَوْنِ الْمَعْصُومِ مِنْهُمْ.
وَلَا عَلَى الْقِيَاسِ، وإن كان جليا واضحا. وأما أعمدتهم فِي النَّظَرِ وَالْعَقْلِيَّاتِ: فَقَدِ اعْتَمَدَ مُتَأَخَّرُوهُمْ عَلَى كتب المعتزلة في الجملة.
والمعتزلة أَعْقَلُ وَأَصْدَقُ، وَلَيْسَ فِي الْمُعْتَزِلَةِ مَنْ يَطْعَنُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رِضْوَانُ الله عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَثْبِيتِ خِلَافَةِ الثَّلَاثَةِ، وَأَمَّا التَّفْضِيلُ فَأَئِمَّتُهُمْ وَجُمْهُورُهُمْ كَانُوا يفضلون أبا بكر وعمر رضي الله عنه ما، وفي متأخريهم من توقف في التفضيل وبعضهم فضل عليا، فصار بينهم وبيم الزيدية نسب راجح مِنْ جِهَةِ الْمُشَارَكَةِ، فِي التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالْإِمَامَةِ والتفضيل.
الفصل الأول
زعم الرافضة أن الإمامة من أهم أصول الدين
قَالَ الْمُصَنِّفُ الرَّافِضِيُّ أَمَّا بَعْدُ: فَهَذِهِ رِسَالَةٌ شريفة، ومقالة لطيفة اشتملت على أهم المطالب في أحكام الدين، وأشرف مسائل الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِمَامَةِ، الَّتِي يَحْصُلُ بِسَبَبِ إِدْرَاكِهَا نَيْلُ دَرَجَةِ الْكَرَامَةِ، وَهِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ، الْمُسْتَحَقِّ بِسَبَبِهِ الْخُلُودُ فِي الْجِنَانِ، وَالتَّخَلُّصُ من غضب الرحمن، فلقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)) . خَدَمْتُ بِهَا خِزَانَةَ السُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ مَالِكِ رِقَابِ الْأُمَمِ، مَلِكِ مُلُوكِ طَوَائِفِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، مَوْلَى النِّعَمِ وَمُسْدِي الْخَيْرِ وَالْكَرْمِ، شَاهِنْشَاهِ المكرم غياث الملة والحق والدين (أولجايو خَدَابَنْدَهْ) ، قَدْ لَخَّصْتُ فِيهِ خُلَاصَةَ الدَّلَائِلِ، وَأَشَرْتُ إلى رؤوس الْمَسَائِلِ، وَسَمَّيْتُهَا مِنْهَاجَ الْكَرَامَةِ، فِي مَعْرِفَةِ الْإِمَامَةِ، وقد رتبتها عَلَى فُصُولٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي نَقْلِ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْفَصْلَ الثَّانِيَ في أن مذهب الإمامية واجب الِاتِّبَاعِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْفَصْلَ الثَّالِثَ فِي الْأَدِلَّةِ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه بَعْدَ رسول
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ ذَكَرَ الْفَصْلَ الرَّابِعَ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ ذَكَرَ الْفَصْلَ الْخَامِسَ فِي إِبْطَالِ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وعمر وعثمان، فَيُقَالُ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مِنْ وُجُوهٍ:
(أَحَدُهَا) : أن يقال أولا أن الْقَائِلِ: إِنَّ مَسْأَلَةَ الْإِمَامَةِ أَهَمُّ الْمَطَالِبِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ، وَأَشْرَفُ مَسَائِلِ الْمُسْلِمِينَ، كَذِبٌ بِإِجْمَاعِ المسلمين، سنيهم وشيعيهم، بل هو كُفْرٌ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَهَمُّ مِنْ مَسْأَلَةِ الْإِمَامَةِ.
وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَالْكَافِرُ لَا يَصِيرُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَاتَلَ عَلَيْهِ الرسول صلى الله عليه وسلم الكفار كَمَا اسْتَفَاضَ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ قَالَ: ((أُمِرْتُ أَنْ
أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا)) (1)
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} (2) . وَكَذَلِكَ قَالَ لِعَلِيٍّ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى خَيْبَرَ وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. يَسِيرُ فِي الْكُفَّارِ فَيَحْقِنُ دِمَاءَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْكُفْرِ لَا يَذْكُرُ لَهُمُ الْإِمَامَةَ بِحَالٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (3) .
فجعلهم إخوانا في الدين بالتوبة، فإن الْكُفَّارَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا إِذَا أَسْلَمُوا أَجْرَى عَلَيْهِمْ أحكام الاسلام، ولم يذكر لهم الإمامة بحال، ولا نقل هذا عن الرسول أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا نَقْلًا خَاصًّا ولا عاما، بل نحن نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ لِلنَّاسِ إِذَا أَرَادُوا الدُّخُولَ في دينه الإمامة لا مطلقا ولا معنيا.
فَكَيْفَ تَكُونُ أَهَمَّ الْمَطَالِبِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ؟ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَةَ بِتَقْدِيرِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى مَعْرِفَتِهَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا مَنْ مَاتَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ يَكُونُ أَشْرَفُ مَسَائِلِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهَمُّ المطالب في الدين لا يحتاج
(1) انظر البخاري ج1ص10 وأماكن أخر، ومسلم ج1ص52-53.
(2)
الآية 5 من سورة التوبة.
(3)
الآية 11 من سورة التوبة.
إِلَيْهِ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
أَوَلَيْسَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ وَاتَّبَعُوهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَلَمْ يَرْتَدُّوا وَلَمْ يُبَدِّلُوا هُمْ أَفْضَلَ الْخَلْقِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَفْضَلُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَهَمِّ المطالب في الدين؟ وأشرف مسائل المسلمين؟ .
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ هُوَ الْإِمَامَ فِي حَيَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِمَامِ بَعْدَ مَمَاتِهِ فَلَمْ تَكُنْ هذه المسألة أهم مسائل الدين فِي حَيَاتِهِ وَإِنَّمَا صَارَتْ أَهَمَّ مَسَائِلِ الدِّينِ بَعْدَ مَوْتِهِ قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ:
(أَحَدُهَا) : أَنَّهُ بِتَقْدِيرِ صِحَّةِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا أَهَمُّ مَسَائِلِ الدِّينِ مُطْلَقًا، بَلْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَهِيَ في خير الأوقات ليست أهم الطالب فِي أَحْكَامِ الدِّينِ وَلَا أَشْرَفَ مَسَائِلِ الْمُسْلِمِينَ.
(الثَّانِي) : أَنْ يُقَالَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ أَعْظَمُ مِنْ مَسْأَلَةِ الْإِمَامَةِ، فَلَمْ تَكُنْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ لَا الأهم ولا الأشرف.
(الثالث) : أن يقال فقد كَانَ يَجِبُ بَيَانُهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ الْبَاقِينَ مِنْ بَعْدَهُ، كَمَا بَيَّنَ لَهُمْ أُمُورَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَعَيَّنَ أَمْرَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ بَيَانُ مَسْأَلَةِ الْإِمَامَةِ في الكتاب والسنة ببيان هَذِهِ الْأُصُولِ، فَإِنْ قِيلَ بَلِ الْإِمَامَةُ فِي كُلِّ زَمَانٍ هِيَ الْأَهَمُّ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ نَبِيًّا إِمَامًا وَهَذَا كَانَ مَعْلُومًا لِمَنْ آمَنَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ إِمَامَ ذَلِكِ الزَّمَانِ قِيلَ الِاعْتِذَارُ بِهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وجوه:
(أَحَدُهَا) : أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ الْإِمَامَةُ أَهَمُّ الْمَطَالِبِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ إِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ إمامة الاثني عشر أو إمامة إِمَامَ كُلِّ زَمَانٍ بِعَيْنِهِ فِي زَمَانِهِ بِحَيْثُ يكون الأهم في زماننا الإيمان بإمامة محمدالمنتظر، وَالْأَهَمُّ فِي زَمَانِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْإِيمَانَ بِإِمَامَةِ عَلِيٍّ عِنْدَهُمْ، وَالْأَهَمُّ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْإِيمَانَ بِإِمَامَتِهِ.
وَإِمَّا أَنْ يريد بِهِ الْإِيمَانَ بِأَحْكَامِ الْإِمَامَةِ مُطْلَقًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ. وإما أن يريد بِهِ مَعْنًى رَابِعًا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا شَائِعًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَلَا
التَّابِعِينَ بَلِ الشِّيعَةُ تَقُولُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ إِنَّمَا يُعَيَّنُ بِنَصِّ مَنْ قَبْلَهُ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَهَمَّ أُمُورِ الدِّينِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ أَهَمُّ الْمَطَالِبِ فِي كُلِّ زَمَانٍ الْإِيمَانَ بِإِمَامِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيَكُونُ الْإِيمَانُ مِنْ سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى هَذَا التَّارِيخِ إِنَّمَا هُوَ الْإِيمَانُ بِإِمَامَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَيَكُونُ هَذَا أَعْظَمَ مِنَ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ، وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ معلوم فساده بالاضطرار من دين الاسلام، فليس هو قول الْإِمَامِيَّةِ، فَإِنَّ اهْتِمَامَهُمْ بِعَلِيٍّ وَإِمَامَتِهِ أَعْظَمُ مِنِ اهْتِمَامِهِمْ بِإِمَامَةِ الْمُنْتَظَرِ كَمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْمُصَنِّفُ، وَأَمْثَالُهُ مِنْ شُيُوخِ الشِّيعَةِ.
وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ أَهَمَّ الْمَطَالِبِ فِي الدِّينِ فَالْإِمَامِيَّةُ آخر الناس في صفقة هذا الدِّينِ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِمَامَ الْمَعْصُومَ، هُوَ الْإِمَامَ المعدوم الذي لم ينفعهم في الدين والدنيا، فلم يستفيدوا م أَهَمِّ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ شَيْئًا مِنْ مَنَافِعِ الدِّينِ ولا الدنيا.
وإن قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِحُكْمِ الْإِمَامَةِ مُطْلَقًا هُوَ أَهَمُّ أُمُورِ الدِّينِ، كَانَ هَذَا أَيْضًا بَاطِلًا لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ أَنَّ غَيْرَهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ أَهَمُّ مِنْهَا، وَإِنْ أُرِيدَ مَعْنًى رَابِعٌ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ لِنَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنْ يُقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ تَجِبْ طَاعَتُهُ عَلَى النَّاسِ لِكَوْنِهِ إِمَامًا، بَلْ لِكَوْنِهِ رَسُولَ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ، وَهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ لَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَوُجُوبُ طَاعَتِهِ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ كَوُجُوبِ طَاعَتِهِ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ، وَأَهْلُ زَمَانِهِ فِيهِمُ الشَّاهِدُ الَّذِي يَسْمَعُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَفِيهِمُ الْغَائِبُ الَّذِي بَلَّغَهُ الشَّاهِدُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ.
فَكَمَا يَجِبُ على الغائب عنه في حياته طاعة أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهُوَ صلى الله عليه وسلم أَمْرُهُ شَامِلٌ عَامٌّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ شَهِدَهُ أَوْ غاب عنه، في حياته وبعد موته، وهذا ليس لأحد من اهل الْأَئِمَّةِ وَلَا يُسْتَفَادُ هَذَا بِالْإِمَامَةِ.
حَتَّى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرَ نَاسًا مُعَيَّنِينَ بِأُمُورٍ وَحَكَمَ فِي أَعْيَانٍ مُعَيَّنَةٍ بِأَحْكَامٍ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ وَأَمْرُهُ مُخْتَصًّا بِتِلْكَ الْمُعَيَّنَاتِ، بَلْ كَانَ ثَابِتًا فِي نَظَائِرِهَا وَأَمْثَالِهَا
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لمن
شَهِدَهُ: ((لَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ)) (1) هُوَ حُكْمٌ ثَابِتٌ لِكُلِّ مَأْمُومٍ بِإِمَامٍ أَنْ لَا يَسْبِقَهُ بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ، وَقَوْلُهُ لِمَنْ قَالَ:((لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ. قَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ. وَلِمَنْ قَالَ نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَحْلِقَ. قَالَ: احْلِقْ وَلَا حَرَجَ)) (2) . أَمْرٌ لِمَنْ كَانَ مِثْلَهُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنه الما حَاضَتْ وَهِيَ مُعْتَمِرَةٌ: ((اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غير أن لا تطوفي بالبيت)) (3) ، وأمثاله هَذَا كَثِيرٌ، بِخِلَافِ الْإِمَامِ إِذَا أُطِيعَ.
وَخُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ فِي تَنْفِيذِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ كَخُلَفَائِهِ فِي حَيَاتِهِ، فَكُلُّ آمِرٍ بِأَمْرٍ يَجِبُ طَاعَتُهُ فِيهِ، إِنَّمَا هُوَ مُنَفِّذٌ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ طَاعَتَهُ، لَا لِأَجْلِ كَوْنِهِ إِمَامًا لَهُ شَوْكَةٌ وَأَعْوَانٌ، أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ غيره عهد له بِالْإِمَامَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَطَاعَتُهُ لَا تَقِفُ عَلَى مَا تَقِفُ عَلَيْهِ طَاعَةُ الْأَئِمَّةِ مِنْ عهد من قبله، أو موافقته ذَوِي الشَّوْكَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بَلْ تَجِبُ طَاعَتُهُ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ، وَإِنْ كَذَّبَهُ جَمِيعُ النَّاسِ.
وَكَانَتْ طَاعَتُهُ وَاجِبَةً بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ له أعوان، وأنصار يُقَاتِلُونَ مَعَهُ، فَهُوَ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِيهِ:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} (4) بين سبحانه وتعالى أنه ليس بموته ولا قتل يَنْتَقِضُ حُكْمُ رِسَالَتِهِ، كَمَا يَنْتَقِضُ حُكْمُ الْإِمَامَةِ بِمَوْتِ الْأَئِمَّةِ وَقَتْلِهِمْ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ خَالِدًا لَا يَمُوتُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هو ربا وإنما هو رسول قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ.
وَقَدْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ وَنَصَحَ الْأُمَّةَ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَعَبَدَ اللَّهَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ، فَطَاعَتُهُ وَاجِبَةٌ بَعْدَ مَمَاتِهِ وَجُوبُهَا فِي حَيَاتِهِ، وَأَوْكَدُ لِأَنَّ الدِّينَ كَمُلَ وَاسْتَقَرَّ بِمَوْتِهِ فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ نَسْخٌ، وَلِهَذَا جُمِعَ الْقُرْآنُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِكَمَالِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ بِمَوْتِهِ، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ إِنَّهُ كَانَ إِمَامًا فِي حَيَّاتِهِ، وَبَعْدَهُ صَارَ الْإِمَامُ غَيْرَهُ إِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ صَارَ بَعْدَهُ مَنْ هُوَ نَظِيرُهُ يطاع كما يطاع الرسول فهو بَاطِلٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ قَامَ مَنْ يَخْلُفُهُ فِي تَنْفِيذِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَهَذَا كَانَ حَاصِلًا في حياته، فإنه إذا غاب كان
(1) انظر مسلم ج1ص320 وابن ماجه ج1ص308-309.
(2)
انظر البخاري ج2 ص173 ومسلم ج2ص948.
(3)
انظر البخاري ج2 ص159.
(4)
الآية 144 من سورة آل عمران.
هُنَاكَ مَنْ يَخْلُفُهُ. وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يُبَاشِرُ مُعَيَّنًا بِالْأَمْرِ بِخِلَافِ حَيَاتِهِ قِيلَ مُبَاشَرَتُهُ بِالْأَمْرِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي وُجُوبِ طَاعَتِهِ، بَلْ تَجِبُ طَاعَتُهُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ كَمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ عَلَى مَنْ سَمِعَ كَلَامَهُ.
وَقَدْ كَانَ يَقُولُ: ((لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ)) (1) وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ فِي حَيَاتِهِ كَانَ يَقْضِي فِي قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ، مِثْلِ إِعْطَاءِ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ، وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى شَخْصٍ بِعَيْنِهِ، وَتَنْفِيذِ جَيْشٍ بِعَيْنِهِ. قِيلَ نَعَمْ وَطَاعَتُهُ وَاجِبَةٌ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بِخِلَافِ الْأَئِمَّةِ. لَكِنْ قَدْ يَخْفَى الِاسْتِدْلَالُ عَلَى نَظِيرِ ذَلِكَ كَمَا يَخْفَى الْعِلْمُ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهُ، فَالشَّاهِدُ أَعْلَمُ بِمَا قَالَ وَأَفْهَمُ لَهُ مِنَ الْغَائِبِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَنْ غَابَ وَبَلَّغَ أَمْرَهُ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ السَّامِعِينَ، لَكِنَّ هَذَا لِتَفَاضُلِ النَّاسِ فِي مَعْرِفَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، لَا لِتَفَاضُلِهِمْ فِي وُجُوبِ طَاعَتِهِ عَلَيْهِمْ.
فَمَا تَجِبُ طاعة ولي أمر بَعْدَهُ إِلَّا كَمَا تَجِبُ طَاعَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ في حياته فطاعته شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْعِبَادِ شُمُولًا وَاحِدًا، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ خدمتهم فِي الْبَلَاغِ وَالسَّمَاعِ وَالْفَهْمِ، فَهَؤُلَاءِ يُبَلِّغُهُمْ مِنْ أمره ما لَمْ يَبْلُغْ هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ يَسْمَعُونَ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ يَفْهَمُونَ مِنْ أمره ما لا يَفْهَمْهُ هَؤُلَاءِ، وَكُلُّ مَنْ أَمَرَ بِمَا أَمَرَ به الرسول وجبت طاعته، طاعة لله وَرَسُولِهِ لَا لَهُ.
وَإِذَا كَانَ لِلنَّاسِ وَلِيُّ أَمْرٍ قَادِرٌ ذُو شَوْكَةٍ، فَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ وَيَحْكُمُ بِمَا يَحْكُمُ، انْتَظَمَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوَلَّى غَيْرُهُ، وَلَا يُمْكِنُ بَعْدَهُ أن يكون
شخص واحد مثله، وإنما يُوجَدُ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَأَحَقُّ النَّاسِ بِخِلَافَةِ نُبُوَّتِهِ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْأَمْرِ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَالنَّهْيِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ، وَلَا يُطَاعُ أَمْرُهُ طَاعَةً ظَاهِرَةً غَالِبَةً إِلَّا بِقُدْرَةٍ وَسُلْطَانٍ يُوجِبُ الطَّاعَةَ، كَمَا لَمْ يُطَعْ أمره فِي حَيَاتِهِ طَاعَةً ظَاهِرَةً غَالِبَةً حَتَّى صَارَ مَعَهُ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى طَاعَةِ أَمْرِهِ، فَالدِّينُ كُلُّهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ هِيَ الدِّينُ كُلُّهُ فَمَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ.
وَدِينُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَطَاعَتُهُمْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ فِيمَا أُمِرُوا بطاعته فيه
(1) رواه البخاري ج2ص176 وغيره.
هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَمْرُ وَلِيِّ الْأَمْرِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِهِ، وَقَسْمُهُ وَحُكْمُهُ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَعْمَالُ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَّةِ فِي حَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا، كُلُّهَا طَاعَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَلِهَذَا كَانَ أَصْلُ الدِّينِ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَشَهَادَةُ أن مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا قِيلَ هُوَ كَانَ إِمَامًا وَأُرِيدَ بِذَلِكَ إِمَامَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الرِّسَالَةِ، أَوْ إِمَامَةٌ يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا لَا يُشْتَرَطُ في الرسالة، أو إمامة يعتبر فِيهَا طَاعَتُهُ بِدُونِ طَاعَةٍ الرَّسُولِ، فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ فَإِنَّ كُلَّ مَا يُطَاعُ بِهِ دَاخِلٌ فِي رِسَالَتِهِ، وَهُوَ فِي كُلِّ مَا يُطَاعُ فِيهِ يُطَاعُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ كَانَ إِمَامًا مُجَرَّدًا لَمْ يُطَعْ حَتَّى تَكُونَ طَاعَتُهُ دَاخِلَةً فِي طَاعَةِ رَسُولٍ آخَرَ.
فَالطَّاعَةُ إِنَّمَا تَجِبُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلِمَنْ أُمِرَتِ الرُّسُلُ بِطَاعَتِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ أُطِيعُ بِإِمَامَتِهِ طَاعَةً دَاخِلَةً فِي رِسَالَتِهِ كَانَ هَذَا عَدِيمَ التَّأْثِيرِ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ رِسَالَتِهِ كَافِيَةٌ فِي وُجُوبِ طَاعَتِهِ، بخلاف الإمام فإنه إنما يصير إِمَامًا بِأَعْوَانٍ يُنَفِّذُونَ أَمْرَهُ، وَإِلَّا كَانَ كَآحَادِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا صَارَ لَهُ شَوْكَةٌ بالمدينة صار له مع الرسالة إمامة بالعدل، قيل بل صار رسولا لَهُ أَعْوَانٌ وَأَنْصَارٌ يُنَفِّذُونَ أَمْرَهُ، وَيُجَاهِدُونَ مَنْ خَالَفَهُ وَهُوَ مَا دَامَ فِي الْأَرْضِ مَنْ بل صار رسولا لَهُ أَعْوَانٌ وَأَنْصَارٌ يُنَفِّذُونَ أَمْرَهُ، وَيُجَاهِدُونَ مَنْ خَالَفَهُ وَهُوَ مَا دَامَ فِي الْأَرْضِ مَنْ يؤمن بالله ورسوله له أنصار وأعوان يُنَفِّذُونَ أَمْرَهُ وَيُجَاهِدُونَ مَنْ خَالَفَهُ فَلَمْ يَسْتَفِدْ بِالْأَعْوَانِ مَا يَحْتَاجُ أَنْ يَضُمَّهُ إِلَى الرِّسَالَةِ مِثْلَ كَوْنِهِ إِمَامًا أَوْ حَاكِمًا أَوْ وَلِيَّ أمر إذا كان هذا كله داخل فِي رِسَالَتِهِ، وَلَكِنْ بِالْأَعْوَانِ حَصَلَ لَهُ كَمَالُ قَدْرِهِ أَوْجَبَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالْجِهَادِ
مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِدُونِ الْقُدْرَةِ، وَالْأَحْكَامُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ وَالْعِلْمِ وَعَدَمِهِ كَمَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَالْمُؤْمِنُ مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَهُوَ مُطِيعٌ لِرَسُولِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَإِنْ قَالَتِ الْإِمَامِيَّةُ: الْإِمَامَةُ وَاجِبَةٌ بِالْعَقْلِ بِخِلَافِ الرِّسَالَةِ فَهِيَ أَهَمُّ من هذا الوجه، قِيلَ: الْوُجُوبُ الْعَقْلِيُّ فِيهِ نِزَاعٌ كَمَا سَيَأْتِي، وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ فَمَا يَجِبُ مِنَ الْإِمَامَةِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَاجِبَاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَغَيْرُ الْإِمَامَةِ أَوْجَبُ مِنْ ذَلِكَ كَالتَّوْحِيدِ،
وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْعَقْلِيَّةِ.
وَأَيْضًا فَلَا رَيْبَ أَنَّ الرِّسَالَةَ يَحْصُلُ بِهَا هذا الواجب، فمقصودها جزء من أجزاء الرِّسَالَةِ، فَالْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْإِمَامَةِ، فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ بِخِلَافِ الْإِمَامَةِ، وَأَيْضًا فَمَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ طَاعَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ وَاجْتَهَدَ فِي طَاعَتِهِ بحسب الْإِمْكَانِ إِنْ قِيلَ إِنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَقَدِ اسْتَغْنَى عَنْ مَسْأَلَةِ الْإِمَامَةِ.
وَإِنْ قِيلَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ كَانَ هَذَا خِلَافَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ الْجَنَّةَ لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ ورسوله في غير موضع كقوله تعالى:{مَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِين وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ َرفِيقاً} (1) .
وَأَيْضًا فَصَاحِبُ الزَّمَانِ الَّذِي يَدْعُونَ إِلَيْهِ، لَا سَبِيلَ لِلنَّاسِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَلَا مَعْرِفَةِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَمَا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَمَا يُخْبِرُهُمْ به، فإن كَانَ أَحَدٌ لَا يَصِيرُ سَعِيدًا إِلَّا بِطَاعَةِ هذا الذي لا يعرف أمرهولا نهيه لزم أن لَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ طَرِيقِ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ وَطَاعَةِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ إِحَالَةً لَهُ.
وَإِنْ قِيلَ بَلْ هُوَ يَأْمُرُ بِمَا عَلَيْهِ الْإِمَامِيَّةُ، قِيلَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى وُجُودِهِ، وَلَا شُهُودِهِ، فَإِنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، وَسَوَاءٌ كَانَ شَاهِدًا أَوْ غَائِبًا، وَإِذَا كَانَ مَعْرِفَةُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْخَلْقَ مُمْكِنًا بِدُونِ هَذَا الْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ، عُلِمَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَلَا يتوقف عليه طاعة الله وَلَا نَجَاةُ أَحَدٍ وَلَا سَعَادَتُهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَمْتَنِعُ الْقَوْلُ بِجَوَازِ إِمَامَةِ مِثْلِ هَذَا، فَضْلًا عَنِ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ إِمَامَةِ مِثْلِ هَذَا، وَهَذَا أَمْرٌ بَيِّنٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ.
لَكِنَّ الرَّافِضَةَ مِنْ أَجْهَلِ الناس، وذلك أن فعل الواجبات الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى مَعْرِفَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ، وَيَنْهَى عَنْهُ هَذَا المنتظر وإما أن لا يكون موقوفا، فإن كَانَ مَوْقُوفًا لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَأَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ مَوْقُوفًا على
(1) الآية 69 من سورة النساء.
(2)
الآية 13 من سورة النساء.
شَرْطٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ عَامَّةُ النَّاسِ، بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ من يدعي دعوة صَادِقَةً أَنَّهُ رَأَى هَذَا الْمُنْتَظَرَ، أَوْ سَمِعَ كَلَامَهُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا عَلَى ذَلِكَ أَمْكَنَ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَتَرْكُ الْقَبَائِحِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ بِدُونِ هَذَا الْمُنْتَظَرِ، فَلَا يُحْتَاجُ إليه ولا يجب وجوده ولا شهوده.
وَهَؤُلَاءِ الرَّافِضَةُ عَلَّقُوا نَجَاةَ الْخَلْقِ وَسَعَادَتَهُمْ وَطَاعَتَهُمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِشَرْطٍ مُمْتَنِعٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الناس، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَقَالُوا لِلنَّاسِ لَا يَكُونُ أَحَدٌ نَاجِيًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إلا بِذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ سَعِيدًا إِلَّا بِذَلِكَ، وَلَا يكون أحد مؤمنا إلا بذلك.
فلزمهم أَحَدُ أَمْرَيْنِ، إِمَّا بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ آيَسَ عِبَادَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَأَوْجَبَ عَذَابَهُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَهُمْ أَوَّلُ الْأَشْقِيَاءِ، الْمُعَذَّبِينَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ أَمْرِ هَذَا الْإِمَامِ، الَّذِي يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ غَائِبٌ، وَلَا نَهْيِهِ وَلَا خَبَرِهِ، بَلْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ شُيُوخِ الرَّافِضَةِ مَا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ مَنْقُولٌ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى هَذَا الْمُنْتَظَرِ، وَهُمْ لَا يَنْقُلُونَ شَيْئًا عَنِ الْمُنْتَظَرِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ نَقَلَ عَنْهُ شَيْئًا عُلِمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ، وَحِينَئِذٍ فَتِلْكَ الْأَقْوَالُ إِنْ كَانَتْ كَافِيَةً فَلَا
حَاجَةَ إِلَى الْمُنْتَظَرِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَافِيَةً فَقَدْ أَقَرُّوا بِشَقَائِهِمْ وَعَذَابِهِمْ، حَيْثُ كَانَتْ سَعَادَتُهُمْ مَوْقُوفَةً عَلَى آمِرٍ لَا يعلمون بماذا أمر.
وقد رأيت طائف مِنْ شُيُوخِ الرَّافِضَةِ كَابْنِ الْعُودِ الْحِلِّيِّ يَقُولُ: إِذَا اخْتَلَفَتِ الْإِمَامِيَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ وَالْآخَرُ لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ، كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ هُوَ الْقَوْلَ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ لِأَنَّ الْمُنْتَظَرَ الْمَعْصُومَ فِي تلك الطائفة.
وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ وُجُودِ الْمُنْتَظَرِ الْمَعْصُومِ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ إِذْ لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْهُ أَحَدٌ، وَلَا عن من نَقَلَهُ عَنْهُ، فَمِنْ أَيْنَ يَجْزِمُ بِأَنَّهُ قَوْلُهُ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْآخَرُ هُوَ قَوْلَهُ وَهُوَ لِغَيْبَتِهِ وَخَوْفِهِ مِنَ الظَّالِمِينَ لَا يُمْكِنُهُ إِظْهَارُ قَوْلِهِ، كَمَا يَدَّعُونَ ذَلِكَ فيه.
وكان أَصْلُ دِينِ هَؤُلَاءِ الرَّافِضَةِ مَبْنِيًّا عَلَى مَجْهُولٍ، وَمَعْدُومٍ، لَا عَلَى مَوْجُودٍ وَلَا مَعْلُومٍ، يَظُنُّونَ أَنَّ إِمَامَهُمْ مَوْجُودٌ مَعْصُومٌ، وَهُوَ مَفْقُودٌ مَعْدُومٌ، وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا مَعْصُومًا فَهُمْ
مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَعْرِفُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، كَمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ أَمْرَ آبَائِهِ وَنَهْيَهُمْ، وَالْمَقْصُودُ بِالْإِمَامِ إِنَّمَا هُوَ طَاعَةُ أَمْرِهِ، فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ بِأَمْرِهِ مُمْتَنِعًا كَانَتْ طَاعَتُهُ مُمْتَنِعَةً، فَكَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ مُمْتَنِعًا، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ مُمْتَنِعًا لَمْ يَكُنْ فِي إِثْبَاتِ الْوَسِيلَةِ فَائِدَةٌ أَصْلًا، بَلْ كَانَ إِثْبَاتُ الْوَسِيلَةِ الَّتِي لَا يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُهَا مِنْ بَابِ السَّفَهِ وَالْعَبَثِ وَالْعَذَابِ الْقَبِيحِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الشَّرْعِ، وَبِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ الْقَائِلِينَ بِتَحْسِينِ الْعُقُولِ وَتَقْبِيحِهَا، بَلْ بِاتِّفَاقِ العقلاء مطلقا، فإنهم إذا فسروا القبيح بِمَا يَضُرُّ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الضَّارِّ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ.
وَالْإِيمَانُ بِهَذَا الْإِمَامِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ بَلْ مَضَرَّةٌ فِي الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ وَالْبَدَنِ وَالْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَبِيحٌ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَلِهَذَا كَانَ الْمُتَّبِعُونَ لَهُ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَصْلَحَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، لَا تَنْتَظِمُ لَهُمْ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ وَلَا دُنْيَاهُمْ، إِنْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي طَاعَةِ غَيْرِهِمْ. كَالْيَهُودِ الَّذِينَ لَا تَنْتَظِمُ لَهُمْ مَصْلَحَةٌ إِلَّا بِالدُّخُولِ فِي طَاعَةِ مَنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ دِينِهِمْ.
فَهُمْ يُوجِبُونَ وُجُودَ الْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ الْمَعْصُومِ، لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِهِ عِنْدَهُمْ، وَهُمْ لم يحصل لهم بهذا الْمُنْتَظَرِ مَصْلَحَةٌ فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِهِ لَمْ تَفُتْهُمْ مَصْلَحَةٌ فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا، بَلْ كَانُوا أَقْوَمَ بِمَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ أَتْبَاعِهِ.
فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ فِي الْإِمَامَةِ لَا يُنَالُ بِهِ إِلَّا مَا يُورِثُ الْخِزْيَ وَالنَّدَامَةَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ أَعْظَمَ مَطَالِبِ الدِّينِ فَهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ الْحَقِّ وَالْهُدَى، فِي أَعْظَمِ مَطَالِبِ الدِّينِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْظَمَ مَطَالِبِ الدِّينِ ظَهَرَ بُطْلَانُ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ ذَلِكَ. فَثَبَتَ بُطْلَانُ قولهم على التقديرين، وهو المطلوب.
فَإِنْ قَالَ هَؤُلَاءِ الرَّافِضَةُ: إِيمَانُنَا بِهَذَا الْمُنْتَظَرِ الْمَعْصُومِ مِثْلُ إِيمَانِ كَثِيرٍ مِنْ شُيُوخِ الزُّهْدِ والدين بالياس والخضر والغوث والقطب، ورجال الْغَيْبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْخَاصِ الَّذِينَ لَا يعرفون وجودهم، ولا بماذا يأمرون، ولا عن ماذا يَنْهَوْنَ، فَكَيْفَ يُسَوَّغُ لِمَنْ يُوَافِقُ هَؤُلَاءِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْنَا مَا نَدَّعِيهِ؟ قِيلَ الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
(أَحَدُهَا) : أَنَّ الْإِيمَانَ بِوُجُودِ هَؤُلَاءِ لَيْسَ وَاجِبًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَطَوَائِفِهِمُ المعروفين، وإن كَانَ بَعْضُ الْغُلَاةِ يُوجِبُ عَلَى أَصْحَابِهِ الْإِيمَانَ بِوُجُودِ هَؤُلَاءِ، وَيَقُولُ إِنَّهُ لَا