الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَإِنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ بِهِمْ فِي مرض موته ولم يصل بهم إِلَّا أَبُو بَكْرٍ، وَعَلَى أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ عِدَّةَ أَيَّامٍ. وَأَقَلُّ مَا قِيلَ: إِنَّهُ صَلَّى بهم سبع عَشْرَةَ صَلَاةً؛ صلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ليلة الجمعة، وخطب بهم يوم الجمعة. هذا ما تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي بِهِمْ إِلَى فَجْرِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ. صلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْفَجْرِ، وَكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السِّتَارَةَ، فَرَآهُمْ يُصَلُّونَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُ كَادُوا يُفَتَنُونَ فِي صَلَاتِهِمْ، ثُم أَرْخَى السِّتَارَةَ. وَكَانَ ذَلِكَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِهِ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ حِينَ اشْتَدَّ الضُّحَى قَرِيبًا من الزوال.
(فَصْلٌ)
قَالَ الرَّافِضِيُّ: ((وَأَيْضًا لمْ يُوَلِّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ أَلْبَتَّةَ عَمَلًا فِي وَقْتِهِ، بَلْ ولَّى عَلَيْهِ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ تَارَةً وَأُسَامَةَ أُخْرَى. وَلَمَّا أَنْفَذَهُ بِسُورَةِ ((بَرَاءَةَ)) رَدَّهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَرْتَضِي الْعَاقِلُ إِمَامَةَ مَنْ لَا يَرْتَضِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ لِأَدَاءِ عَشْرِ آيَاتٍ مِنْ ((براءة)) ؟!)) .
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مِنْ أَبْيَن الْكَذِبِ؛ فَإِنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ الْمُتَوَاتِرِ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالْمَغَازِي وَالسِّيَرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ عَامَ تِسْعٍ، وَهُوَ أَوَّلُ حَجٍّ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ حَجٌّ فِي الْإِسْلَامِ، إِلَّا الْحَجَّةَ الَّتِي أَقَامَهَا عَتَّابُ بن أسيد بن أبي العاص بن أمية مِنْ مَكَّةَ؛ فَإِنَّ مَكَّةَ فُتِحَتَ سَنَةَ ثَمَانِ، وأقام الْحَجَّ ذَلِكَ الْعَامَ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ لِلْحَجِّ، بَعْدَ رُجُوعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَفِيهَا أَمَر أَبَا بَكْرٍ بِالْمُنَادَاةِ فِي الْمَوْسِمِ: أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يطوف بالبيت عُريان. وَلَمْ يؤمِّر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ؛ فَوَلَايَةُ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ مِنْ خَصَائِصِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يؤمِّر عَلَى الْحَجِّ أَحَدًا كَتَأْمِيرِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ عَلَى الصَّلَاةِ أَحَدًا كَاسْتِخْلَافِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ عليٌّ مِنْ رَعِيَّتِهِ فِي هَذِهِ الْحِجَّةِ؛ فَإِنَّهُ لَحِقَهُ فَقَالَ: أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: بَلْ مَأْمُورٌ. وَكَانَ عَلِيٌّ يُصَلِّي خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ مَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ، وَيَأْتَمِرُ لِأَمْرِهِ كَمَا يَأْتَمِرُ لَهُ سَائِرُ مَنْ مَعَهُ، وَنَادَى عليٌّ مَعَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْحِجَّةِ بِأَمْرِ أَبِي بَكْرٍ.
وأما ولاية غير أبي بكر فكان يشاركه فيها غيره، كولاية عليّ وَغَيْرِهِ؛ فَلَمْ يَكُنْ لِعَلِيٍّ وَلَايَةٌ إِلَّا وَلِغَيْرِهِ مِثْلُهَا، بِخِلَافِ وَلَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهَا مِنْ خَصَائِصِهِ، وَلَمْ يولِّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي بَكْرٍ لَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَلَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ.
فَأَمَّا تَأْمِيرُ أُسَامَةَ عَلَيْهِ فَمِنَ الْكَذِبِ الْمُتَّفَقِ عَلَى كَذِبِهِ.
وَأَمَّا قِصَّةُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَرْسَلَ عَمْراً فِي سَرِيَّةٍ، وَهِيَ غَزْوَةُ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، وَكَانَتْ إِلَى بَنِي عُذْرَةَ، وَهُمْ أَخْوَالُ عَمْرٍو، فأمَّر عَمْرًا لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ، لِلْقَرَابَةِ الَّتِي لَهُ مِنْهُمْ. ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِأَبِي عُبَيْدَةَ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. وَقَالَ:
((تَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا)) فَلَمَّا لَحِقَ عَمْراً قَالَ: أُصَلِّي بِأَصْحَابِي وَتُصِلِّي بِأَصْحَابِكَ. قَالَ: بَلْ أَنَا أُصَلِّي بِكُمْ؛ فَإِنَّمَا أَنْتَ مَدَدٌ لِي. فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي أَنْ أُطَاوِعَكَ، فَإِنْ عَصَيْتَنِي أَطَعْتُكَ. قَالَ: فَإِنَّى أَعْصِيكَ. فَأَرَادَ عَمْرُو أَنْ يُنَازِعَهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يَفْعَلَ.
وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ أَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ لِلْأَمْرِ، فَكَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَ عَمْرٍو، مَعَ عِلْمِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَبَا عُبَيْدَةَ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو.
وَأَمَّا قَوْلُ الرَّافِضِيِّ: إِنَّهُ لَمَّا أَنْفَذَهُ بِبَرَاءَةَ رَدَّهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ فَهَذَا مِنَ الْكَذِبِ الْمَعْلُومِ؟ أَنَّهُ كَذِبٌ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أمَّر أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ، ذَهَبَ كَمَا أَمَرَهُ، وَأَقَامَ الْحَجَّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، عَامَ تِسْعٍ، لِلنَّاسِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى قَضَى الْحَجَّ، وَأَنْفَذَ فِيهِ مَا أَمَرَهُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَحُجُّونَ الْبَيْتَ، وَكَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، وَكَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عُهُودٌ مُطْلَقَةٌ، فَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ: أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يطوف بِالْبَيْتِ عُريان. فَنَادَى بِذَلِكَ مَنْ أَمَرَهُ أَبُو بَكْرٍ بِالنِّدَاءِ ذَلِكَ الْعَامَ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ نَادَى بِذَلِكَ فِي الْمَوْسِمِ بِأَمْرِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَكِنْ لَمَّا خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ أَرْدَفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَنْبِذَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْعُهُودَ.
قَالُوا: وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنْ لَا يَعْقِدَ الْعُهُودَ وَلَا يَفْسَخُهَا إِلَّا الْمُطَاعُ، أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. فَبَعَث عَلِيًّا لِأَجْلِ فَسْخِ الْعُهُودِ الَّتِي كَانَتْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، لَمْ يَبْعَثْهُ لِشَيْءٍ آخَرَ. ولهذا كان عليّ يصلّي خلف أَبِي بَكْرٍ، وَيَدْفَعُ بِدَفْعِهِ فِي الْحَجِّ، كَسَائِرِ رَعِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي الموسم.