الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجل كعبان، فيكون تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالْمَسْحِ إِلَى الْعَظْمَيْنِ النَّاتِئَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْغَسْلُ، فَإِنَّ مَنْ يَمْسَحُ الْمَسْحَ الْخَاصَّ يَجْعَلُ الْمَسْحَ لِظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ، وَفِي ذِكْرِهِ الْغَسْلُ فِي
الْعُضْوَيْنِ الأوَّليْن وَالْمَسْحُ فِي الْآخَرَيْنِ، التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ يَجِبُ فِيهِمَا الْمَسْحُ الْعَامُّ، فَتَارَةً يُجزئ الْمَسْحُ الْخَاصُّ، كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْعِمَامَةِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَتَارَةً لَا بُدَّ مِنَ الْمَسْحِ الْكَامِلِ الَّذِي هُوَ غَسْلٌ، كَمَا فِي الرِّجْلَيْنِ الْمَكْشُوفَتَيْنِ.
وَقَدْ تَوَاتَرَتِ السُّنَّةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَبِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَالرَّافِضَةُ تُخَالِفُ هَذِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، كَمَا تُخَالِفُ الْخَوَارِجُ نَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، بَلْ تَوَاتُرُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ مِنْ تَوَاتُرِ قَطْعِ الْيَدِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ، أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، أو نحو ذلك.
وَفِي الْجُمْلَةِ فَالْقُرْآنُ لَيْسَ فِيهِ نَفْيُ إِيجَابِ الْغَسْلِ، بَلْ فِيهِ إِيجَابُ الْمَسْحِ، فَلَوْ قدِّر أَنَّ السُّنَّةَ أَوْجَبَتْ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الْقُرْآنُ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا رَفْعًا لِمُوجِبِ الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ إِذَا فسَّرته وبيَّنت مَعْنَاهُ؟ وهذا مبسوط في موضعه.
(فَصْلٌ)
قَالَ الرَّافِضِيُّ: ((وَكَالْمُتْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَرَدَ بِهِمَا الْقُرْآنُ، فَقَالَ فِي مُتْعَةِ الْحَجِّ: {َفمنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي} (1) وَتَأَسُّفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَوَاتِهَا لَمَّا حجَّ قَارِنًا، وَقَالَ لَوِ ((اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ)) وَقَالَ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ:{َفما اْستَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَأْتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَة} (2) وَاسْتَمَرَّتْ فِعْلُهُمَا مُدَّةَ زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمُدَّةَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَبَعْضِ خِلَافَةِ عُمَرَ، إِلَى أَنْ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، وَقَالَ:((مُتْعَتَانِ كَانَتَا مُحَلَّلَتَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وأعاقب عليهما)) .
وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا مُتْعَةُ الْحَجِّ فَمُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهَا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَدَعْوَاهُ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ ابْتَدَعُوا تَحْرِيمَهَا كَذِبٌ عَلَيْهِمْ، بَلْ أكثر علماء السُّنَّةِ يَسْتَحِبُّونَ الْمُتْعَةَ وَيُرَجِّحُونَهَا أَوْ يُوجِبُونَهَا. وَالْمُتْعَةُ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَجَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَجِّ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ، سَوَاءٌ حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، أَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ
(1) الآية 196 من سورة البقرة.
(2)
الآية 24 من سورة النساء.
وَصَارَ
قَارِنًا، أَوْ بَعْدَ طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْ إِحْرَامِهِ لِكَوْنِهِ سَاقَ الْهَدْيَ، أَوْ مُطْلَقًا. وَقَدْ يُرَادُ بِالْمُتْعَةِ مُجَرَّدُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قوْلَيه، وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ مَكَّةَ: يَسْتَحِبُّونَ الْمُتْعَةَ.
وَأَمَّا مُتْعَةُ النِّسَاءِ الْمُتَنَازَعُ فِيهَا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نصٌّ صَرِيحٌ بِحِلِّهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِين فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَة إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا. وَمَنْ لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} (1) الآية. فَقَوْلُهُ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ دُخِلَ بِهَا مِنَ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ أَمَرَ بِأَنْ يُعْطِيَ جَمِيعَ الصَّدَاقِ، بِخِلَافِ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ الَّتِي لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا نِصْفَهُ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (2) . فَجَعَلَ الْإِفْضَاءَ مَعَ الْعَقْدِ مُوجِبًا لِاسْتِقْرَارِ الصَّدَاقِ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِتَخْصِيصِ النِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ بِإِعْطَاءِ الْأَجْرِ فِيهِ دُونَ النِّكَاحِ الْمُؤَبَّدِ مَعْنًى، بَلْ إِعْطَاءُ الصَّدَاقِ كَامِلًا فِي الْمُؤَبَّدِ أوْلى، فَلَا بُدَّ أَنْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى الْمُؤَبَّدِ: إِمَّا بِطْرِيقِ التَّخْصِيصِ، وَإِمَّا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ.
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا نِكَاحَ الْإِمَاءِ، فعُلم أَنَّ مَا ذُكر كَانَ فِي نِكَاحِ الْحَرَائِرِ مُطْلَقًا. فَإِنْ قِيلَ: فَفِي قِرَاءَةِ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ: {َفما اْستَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى} قِيلَ: أَوَّلًا: لَيْسَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُتَوَاتِرَةً، وَغَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ. وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْمُتْعَةَ أُحِلَّتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ على ذلك.
الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْحَرْفُ إِنْ كَانَ نَزَلَ، فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَيْسَ ثَابِتًا مِنَ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، فَيَكُونُ مَنْسُوخًا، وَيَكُونُ نُزُولُهُ لَمَّا كَانَتِ الْمُتْعَةُ مُبَاحَةً، فَلَمَّا حُرِّمت نُسِخَ هَذَا الحرف، ويكون
(1) الآيتان 24، 25 من سورة النساء.
(2)
الآية 21 من سورة النساء.
الْأَمْرُ بِالْإِيتَاءِ فِي الْوَقْتِ تَنْبِيهًا عَلَى
الْإِيتَاءِ فِي النِّكَاحِ الْمُطْلَقِ. وَغَايَةُ مَا يُقَالُ إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ، وَكِلَاهُمَا حَقٌّ. وَالْأَمْرُ بِالْإِيتَاءِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ إِلَى أَجَلٍ مسمَّى وَاجِبٌ إِذَا كَانَ ذَلِكَ حَلَالًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ إِلَى أَجَلٍ مسمَّى حَلَالًا، وَهَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا إِلَى أَجَلٍ مسمَّى حَلَالٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَأُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا بِهِنَّ إِلَى أَجَلٍ مسمَّى، بَلْ قَالَ:{َفما اْستَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَا وَقَعَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ: سَوَاءٌ كَانَ حَلَالًا، أَوْ كَانَ فِي وَطْءِ شُبْهَةٍ.
وَلِهَذَا يَجِبُ الْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِالسُّنَّةِ وَالِاتِّفَاقِ. وَالْمُتَمَتِّعُ إِذَا اعْتَقَدَ حِلَّ الْمُتْعَةِ وفَعَلَها فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ الْمُحَرَّمُ فَلَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْآيَةُ؛ فَإِنَّهُ لَوِ اسْتَمْتَعَ بِالْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ مَعَ مُطَاوَعَتِهَا، لَكَانَ زِنًا، وَلَا مَهْرَ فِيهِ. وإن كانت مستكرهة، ففيه نزاع مشهور.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ نَهْيِ عُمَرَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حرَّم مُتْعَةَ النِّسَاءِ بَعْدَ الْإِحْلَالِ. هَكَذَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِيهِمَا مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه لَمَّا أَبَاحَ الْمُتْعَةَ: إِنَّكَ امْرُؤٌ تَائِهٌ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حرَّم الْمُتْعَةَ وَلُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ عَامَ خَيْبَرَ (1) ، رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَعْلَمُ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالسُّنَّةِ وَأَحْفَظُهُمْ لَهَا، أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ فِي زَمَنِهِمْ، مِثْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِمَا، مِمَّنِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِلْمِهِمْ وَعَدْلِهِمْ وَحِفْظِهِمْ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ فِي أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ، لَيْسَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ طَعَنَ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ حرَّمها فِي غَزَاةِ الْفَتْحِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (2) . وَقَدْ تَنَازَعَ رواة حديث علي ّ رضي الله عنه: هَلْ قَوْلُهُ: ((عَامَ خَيْبَرَ)) تَوْقِيتٌ لِتَحْرِيمِ الحُمُر فَقَطْ أَوْ لَهُ وَلِتَحْرِيمِ المتعة؟ فالأول قول ابن عيينة وغيره، قَالُوا: إِنَّمَا حُرِّمَتْ عَامَ الْفَتْحِ. وَمَنْ قَالَ بِالْآخَرِ قَالَ: إِنَّهَا حُرِّمَتْ ثُمَّ أُحِلَّتْ ثُمَّ حُرِّمَتْ. وَادَّعَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ أَنَّهَا أُحِلَّتْ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ حُرِّمَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
فَالرِّوَايَاتُ الْمُسْتَفِيضَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ مُتَوَاطِئَةٌ عَلَى أَنَّهُ حَرَّمَ الْمُتْعَةَ بعد إحلالها. والصواب أنها
(1) انظر البخاري ج7 ص12 ومسلم ج2 ص 1027.
(2)
انظر صحيح مسلم ج2 ص1026.