الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني في اللر
«1» وهؤلاء طائفة؛ كثيرة العدد، ومنهم فرق مفرقة في البلاد، وفيهم ملك وإمارة، وإقدام وشطارة، ولهم خفة في الحركات، وصدق في القول، يقف الرجل منهم إلى جانب البناء المرتفع، ويلصق بطنه بأحد الزوايا القائمة به، ثم يصعد فيه إلى أن يرتقى صهوته، العليا، ومنهم من يخالس الرجل ماله، ويأخذه منه، وهو لا يدري.
وربما أمسك الرجل منهم، وضرب بالسياط، وعوقب أشد العقاب، فلا يقر أنه أخذه، ولا يعرفه، فإذا حلف بستر الله، وأقسم عليه به، أقر واعترف.
وفي بلاد مصر والشام منهم طوائف، وفي بلاد الشامية معظمهم، ولهم في هذا وقائع مشهورة، وأحوال مشهودة.
وما يحكى أن السلطان صلاح الدين أبا المظفر يوسف بن أيوب [1] رحمه الله، حضر إليه رجل منهم، وأظهر له أشياء من أفعاله اللطيفة، وحركاته الخفيفة، حتى أنه وقف إلى جانب بناء مرتفع، وارتفع والتصق به، وارتفع حتى استوى على أعلاه، وصلاح الدين رحمه الله يظهر العجب من شطارته، وخفة حركته، وقدرته على ما لا يقدر عليه مثله، فلما نزل خلع عليه، وأكرمه، وحمله على فرس وأقطعه أقطاعا جليلا، وقال له: اشتهى أن يكون عندنا جماعة منكم، فإننا ما نستغنى عنكم لنتوصل بكم (المخطوط ص 136) إلى حصون الأعداء [2] .
فبقى هذا اللرى [3] يجلب له واحدا بعد واحد ممن يقدر على هذا منهم، فكلما جاء واحد منهم أكرمه صلاح الدين، وخلع عليه، وأقطعه الأقطاع، حتى لم
[1] صلاح الدين الأيوبي: تولى وزارة العاضد لدين الله الفاطمي عقب وفاة أسد الدين شيركوه، وفي سنة 557 هـ أسقط اسم العاضد من الخطبة، وأسس دولة الأيوبيين التي حكمت مصر والشام حتى قيام دولة المماليك (انظر روضة الصفا 231- 232) .
[2]
وردت بالمخطوط الحصون الأعداء.
[3]
اللرى نسبة إلى اللر هي اللار وهي من بلاد إقليم فارس تقع قرب شيراز وهي أيضا اللور.
يبق أحد منهم، وبقى مدة لم يحضر أحدا إلى صلاح الدين، فقال له: لأي شيء ما عدت جبت «1» لنا أحدا؟ فقال: والله يا مولاي ما بقى أحد يقدر على هذا مثلنا، فلما تحقق صلاح الدين في ذلك، أسرها في نفسه، ثم جمعهم، وأوقف خلف كل رجل منهم رجلا، وأومأ إليه، فضربوا رقاب أولئك النفر، لأن صلاح الدين لما رأى ذلك [1] . فزع منهم على نفسه، وخاف إن هو قتله وجده، يبقى وراءه من يفعل مثل فعله، فاحتال عليهم بذلك لئلا ينزل عليه أحدهم فيقتله به.
وأما ما يروى من مشى هذه الطائفة على الحبال المنصوبة، على قامات من الأرض، وانقلابهم عليها في الهواء، حتى يصير رأس الرجل منهم منكوسا إلى الأرض، ورجله متعلقة بالحبل ثم يستوى على قامته، ثم يمشي على الحبل بالقبقاب، ويلعب فوقها بالمخاريق، ما تحار له الألباب، ويحاك فيه نوادر العجب العجاب، وإن نساءهم يفعلن «2» ، وتركضها أشد مركض، ثم تطيح عنها في قوة جريها إلى الأرض ثم تثب عليها فيستوى على ظهرها، ثم تصير حزاما لبطنها، ثم تنزل صهوة الفرس، وتعنق العنق تارة من أعلاها وتارة من تلقاء صدرها إلى غير ذلك من عجائب الأفعال وغرائب الخفة في المجال.
ودأب من هو منهم في الشام أحد ما قدروا عليه ووصلت أيديهم إليه، وقد عرف صبرهم على الضرب، فما بقى يضرب، أحد منهم إذا اتهم بل يحلف بستر الله ويقسم عليه به، فيقر، ويعترف، ويرد ما أخذه، ويقول: نحن نأخذ قبيح، ونحن نرد مليح «3» .
[1] عبارة مكررة.
وقد أوردنا هاتين اللفظتين بعبارتهم على ما هي عليه، وهم ببلادهم أهل منعة، وهي اللر، إن كبير وصغير ومأمور وأمير وسارقهم لا يقطع على السرقة هكذا جرت عادتهم في بلادنا.