الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسماء بعض جهاتها
خرّج الحافظ مرفوعا أن اسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ولد له اثنا عشر ولدا، فسمى منهم دوما وبه سميت دومة الجندل، وفي رواية أخرى أنه كان للوط أربعة بنين وابنتان ماب وعمان وجلان وملكان والبنات زعز (المخطوط ص 257) والربة [1] ، فعمان مدينة البلقاء سميت بعمان وماب من سائر البلقاء سميت بماب، وعين زعز سميت بزعز بنت لوط والربة سميت بالربة.
قال الشرقي بن القطامي [2] : وسميت صيدا بصيدون بن صيدنا بن كنعان بن حام بن نوح، وسميت أريحا بأريحا بن مالك ابن ارفخشد بن سام بن نوح، وسميت البلقاء بأبلق عمان بن لوط لأنها ملكها وسكنها.
قال: وقيل أن الكسوة سميت بذلك لأن غسان قتلت بها رسل ملك الروم قدموا عليهم في طلب الجزية، فقتلوهم، وأخذوا كسوتهم، هذا آخر ما نقله التيفاشي [3]«1» .
قلت: وبدمشق مهبط عيسى عليه السلام، وهي فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى، وقد تقدم القول أن الخوارزمي قال: طفت جوانب الأرض «2» الأربعة فكان فضل غوطة دمشق عليها كفضلها على غيرها، كأنها الجنة صورت على وجه الأرض.
[1] ماث وخلاب وعمان وملكان وزغر والربة (ابن عساكر 1/18) .
[2]
ابن عساكر 1/18.
[3]
واضح أن ابن فضل الله العمري ينقل عن التيفاشى والتيفياشى عن ابن عساكر.
وأما وصفها فكثير جدا يعجبني منه قول ابن عنين [1] . [الطويل]
دمشق في شوق إليها مبرح
…
وإنّ لج واش أو ألح عذول
بلاد بها الحصباء در وتربها
…
عبير وأنفاس الشمال شمول
تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق
…
وصح نسيم الروض وهو عليل [2]
وقول عرقلة [3] : [البسيط]
ما بين شطري ومغربي جنة سرحت
…
أنهارها في خلال الآس والبان
يظل منثورها في الأرض منتثرا
…
كأنما صيغ من در ومرجان
فالطير تصدح في أغصانها سحرا
…
هذا هو العيش إلا أنه فاني
وكذلك قول ابن عنين وقد نفى منها: [الكامل]
فسقى دمشق وواديها والحمى
…
متواصل الإرعاد منفصم العرا
حتى ترى وجه الرياض بعارض
…
أحوى ووجه الدوح أزهر نيّرا
وأعاد أياما قطعت حميدة
…
ما بين حرة عالقين وعكبرا
(المخطوط ص 258)
تلك المنازل لا أعقة عالج
…
ورمال كاظمة ولا وادي القرى
أرض إذا مرت بها ريح الصبا
…
حملت من الأغصان مسكا أذفرا
فارقتها لا عن رضى وهجرتها
…
لا عن قلى ورحلت لا متخيّرا
[1] هو محمد بن نصر بن مكارم بن عنين الأنصاري الدمشقي له ديوان مشهور وهجو مؤلم كان بارعا في معرفة اللغة توفي 630 هـ (انظر: ديوان العبر لابن خلدون 2/122) .
[2]
هذه الأبيات لشرف الدين بن محسن (انظر: قول ابن جزى في رحلة ابن بطوطة ص 62) .
[3]
هو عرقلة الدمشقي الكلبي (انظر: رحلة ابن بطوطة ص 62) .
وقول البحتري [1] : [البسيط]
العيش في ظل [2] داريّا إذا بردا
…
والرّاح يمزجها [3] بالراح من بردا [4]
إذا أردت ملأت العين من بلد
…
مستحسن، وزمان يشبه البلدا
أمّا دمشق فقد أبدت محاسنها
…
وقد وفى لك مطريها بما وعدا
تمشى السّحاب على أجبالها فرقا
…
ويصبح النّبت في حجراتها بددا [5]
ولست تبصر إلّا واديا خضرا
…
أو يانعا خضلا أو طائرا غردا [6]
كأنّما القيظ ولى بعد جيلته
…
أو الربيع أتى من بعد ما بعدا [7]
ومدامتها على الموصوفة «1» في الآفاق المعروفة في مغارسها بكرم الأعراق، تنشر كاساتها ألوية حمرا، وتوقد في صفحات الخدود جمرا، فمن حمراء كنار تتلهب، ومن صفراء كالزجاج المذهب، ومن بيضاء كأنها نقطة غدير أو فضة طافت بها قوارير أو وردية تتضاحك في الشفاه اللعس «2» ثغورها المعتبرة، ويخالطها الصفاء كخد أبيض تشرب بحمرة، تضىء في دجى «3» الليل
[1] انظر: ديوان البحتري تحقيق حسن كامل الصيرفي، دار المعارف، القاهرة: 2/709- 710 (وانظر: الأبيات أيضا في تاريخ دمشق لابن عساكر في ترتيب مختلف 1/254) .
[2]
ليل (الديوان 2/709) .
[3]
تمزجها بالماء (الديوان 2/709) .
[4]
من بردى (الديوان 2/709) .
[5]
عيسى السحاب
…
في صحرائها (الديوان 2/709) .
[6]
فلست تبصر إلا واكفا حضلا
…
أو يانعا خضرا، أو طائرا غردا
(الديوان) .
[7]
كأنما القيظ ولى بعد جيئته
…
أو الربيع دنا من بعد ما بعدا
(الديوان) .
مصباحا، وتهدى إلى الجلساء بريحها تفاحا، وببلاد الشرق بها ما يرق عن الزجاج، ويخف عن مخالطة الامتزاج «1» ، فيعلق فوق الماء على الأقداح، وتتعلى حمرته عليه كالشفق على الصباح، يطير عليها الشعاع ويطيب إلى قهقهة قيانها السماع، وصيدنا يا «2» معدن ذهبها وافق كوكبها وإليها أشار ابن عنين [1] بقوله:[الكامل]
ومدامة من صيدنا يا نشرها
…
من عنبر وقميصها من صندل
مسكية النفحات يشرف أصلها
…
عن بابل ويحل عن قطربل «3»
وقد خالف القاضي الفاضل حيث قال بذم دمشق، ودخلت دمشق وأنا (المخطوط ص 259) ملتات لتغير مائها وهوائها وأبنيتها وأبنائها وأوديتها، ومن في مصر، فإني أبيع بردا [2] بشربة من مائها، فالطلل هائل ولا طائل، وما سمعناه من تلك الفضائل متضائل.
وقال فيها وقد وقع عليها الثلج وأما دمشق فأدرها اليوم للثلج قوالب، وقد أخذ أن يذوب، فالشوارع تحتاج إلى مرالاب [3]«4» ، وبدمشق من كل ما في مصر من الوظائف، وليس هذا في بقية بلاد الشام، مثل (قضاة) القضاة الأربعة
[1] ابن عنين: هو أبو المحاسن محمد بن نصر الدين بن نصر بن الحسين بن عنين الأنصاري، طاف بلاد الشام والعراق والجزيرة ومصر وغزنة وما وراء النهر ولد بدمشق 49 هـ وتوفي بها 630 أو 634 هـ (دائرة المعارف، البستاني بيروت 620) .
[2]
نهر بردى.
[3]
زلاجات.
من المذاهب الأربعة، وقاضي عسكر، وخزانة يخرج منها الانفاقات والخلع وخزائن سلاح وزردخانات [1] وبيوت تشتمل على حاشية سلطانية مختصرة، حتى لو حضر السلطان إليها جريدة، وجد بها من كل الوظائف القائمة بدولته، وكل أمير أمر فيها أو في غيرها من الشام أو أولى رب وظيفة وظيفة، من عادة متوليها أن يخلع عليه «1» خلعة أو إنفاقا، ولم يخلع عليه من مصر أو «2» ينعم عليه من مصر، كان من دمشق خلعة وإنعامه.
ومنها يخرج أعلام الإمرة وطلائعهم وشعار الطبلخانات، وفي خزائن السلاح بها معمل المجانيق [2] والسلاح، والزردخانات، وتحمل إلى جميع الشام، وتعمر به البلاد والقلاع، ومن قلعتها يجرد الرجال وأرباب الصنائع إلى جميع قلاع الشام، ويندب في التجاريد والمهمات.
وهي مدينة جليلة وقلعتهما مرحلة على الأرض يحيط بها وبالمدينة أسوار عليه، يحيط بها خندق، بطون الماء منه بالقلعة، وإذا دعت الحاجة، أطلق على جميع الخندق المحيط بالمدينة فيعمها، وهي في وطأة مستوية، بارزة عن الوادي المخط عن منتهى ذيل الجبل، مكشوفة الجوانب لممر الهواء إلا من الشمال؛ فإنه محجوب بجبل قاسيون [3] ،
[1] زردخانات جمع مفرده زردخانه وهي بالفارسية زرّادخانه وهي مصنع صناعة السلاح (فرهنگ عميد 2/1100) .
[2]
المجانيق: جمع مفرده منجنيق، آلة قديمة من آلات الحصار، وكانت ترمي الحجارة الثقيلة على الأسوار فتهدمها منجنيق كلمة فارسية (انظر: الكلمات الفارسية في كتاب سيبويه د. أحمد الشاذلي، المنوفية 1987 ص 43، المعجم الوسيط 2/855، فقه اللغة للثعالبي 323) .
[3]
قاسيون جبل في شمال دمشق، والصالحية في سفحه وهو شهير البركة لأنه مصعد الأنبياء عليهم السلام (رحلة ابن بطوطة 72) .
وبهذا تعاب وتنسب إلى الوخامة، ولولا جبلها الغربي الملبس بالثلوج صيفا وشتاء، لكان أمر في هذا أشد، وحال سكانها أشق، ولكنه ترياق [1] ذلك السم ودواء ذلك الداء.
وهي مدينة حسنة الترتيب جليلة الأبنية، (المخطوط ص 460) بالحجر والخشب والآجر، مضبب بين مداميك البناء بالخشب الملبن، وأخشابها من خير أخشاب الأرض، يسمى الحور، ينصب في بساتنيها، ويربي، ويقطع في انتهائه فيعطى اللبان، فإذا انكسر عود منها يبقى في مكانها متماسكا عدة سنين وأكثر ولو أنه متعلق بقدر شعرة واحدة [2] .
ولهذه المدينة حواضر «1» فسيحة من جهاتها الأربع، والماء حاكم عليها من جميع نواحيها بإتقان محكم على ما نذكره في صفة نهرها.
وهذه المدينة مقسمة على جوانب الجامع [3] بها لا على أنه واسطتها من كل الجهات «2» ، فإن ما بينه وبين نهاية المدينة من القبلة وما بينه وبين نهاية المدينة من الشرق أوسع مدى مما بينه إلى نهاية المدينة من الجانبين الآخرين الشمالي والغربي.
وأشرف هذه المدينة ما قرب من جامعها، وبها الديار الجليلة المذهبة السقوف المفروشة بالرخام، ومنها ما هو مرموز «3» الحيطان بالرخام والنوع المفصل بالصدف والذهب والبرك الماء الجارية، وقد تجري الماء في الدار في أماكن، وبها الطباق الرفيعة والأقنية الوسيعة «4» ، والأسواق المليحة الترتيب، والقياسر «5» الحصينة،
[1] وردت بالمخطوط ذرياق ودرياق ب 162 أ 260.
[2]
قارن وصف دمشق عند ابن بطوطة 61- 62.
[3]
يقصد الجامع الأموي المشهور بدمشق والذي بناه الوليد بن عبد الملك بن مروان.
وبها الصناع المبهرة في كل فن من البنائين [1] وصناع السلاح والمصوغ والزركش وغير ذلك، ونعمل بها لطائف الأعمال من كل نوع، وصناعها تفخر على بقية صناع هذه المملكة إلا فيما قل مما بمصر.
ومصر والشام والعراق والروم تستمد من لطائفها خصوصا في القس والنحاس الطعم والزجاج المذهب وجلود الخراف «1» المدبوغة بالقرط المضروب بها المثل وهي أحد جنات الدنيا الأربع.
وقال الخوارزمي، رأيت جنات الدنيا الأربع، وكان فضل غوطة دمشق عليها كفضلها على سواها كأنها الجنة على وجه الأرض حسبما ذكرناه، وبها البساتين الأنيقة يتسلسل جداولها، وتفيء دوحاتها، وتتمايل أغصانها، وتغرد أطيارها.
وبها بساتين «2» النزهة وبها العمائر الضخمة والجواسق العلية، والبرك العميقة والبحيرات (المخطوط ص 261) الممتدة عليها العرش المحددة «3» المظللة، تتقابل بها الأواوين والمجالس، ويحف بها العراس والنصوب المطرزة بالسرو الملتف البرود والجور الممشوق القدود، والرياحين المتأرجّة الطيب، والفواكه الجنية، والثمرات الشهية، والبدائع التي تعينها شهرتها عن الوصف، وبها في سفح جبل قاسيون الصالحية، وهي مدينة ممتدة في سفح الجبل بإزاء المدينة في طول مدى، ذات بيوت وجناين ومدارس وربط وترب جليلة وعمائر ضخمة ومارستان وأسواق جليلة بالبز وغيره وبأعاليها من ذيل الجبل المقابر العامة، وجميع الصالحية مشرفة على دمشق، وغوطتها وكل بساتينها وشرفها وميادينها ومجرى واديها وبجانبها القرى، كان دير مران المشهور مكانه الآن من المدرسة المعظمية إلى قريب عقبة
[1] وردت بالمخطوط البناين.
دمر ومنه وهناك بقايا آثار.
وأما حواضر دمشق فهي كما قدمنا القول جليلة من جميع جهاتها وأجلها ما هو في جانبها الغربي والشمالي، فأما الغربي فإنها تفضي من تحت القلعة بها في ساحة فسيحة هي سوق الخيل على ضفة الوادي، ويخرج إليها من جوانب المدينة من أمتعة الجند فتباع في أيام المواكب بها وتنتهي فيما يليها من الوادي إلى شرقي محيطين به قبلة وشاما «1» في ذيل كل منهما ميدان أخضر النخيل، والوادي يشق بينهما، وفي الميدان القبلي منهما القصر الأبلق، بناه الملك الظاهر بيبرس البندقداري الصالحي [1] وظاهر من وجه الأرض إلى نهاية أعلاه بالحجر الأسود والأصفر مدماكا من هذا ومدماكا من هذا بتأليف غريب وإحكام عجيب، ويدخل من دركاه [2]«2» له على جسر راكبا بعقد على مجرى الوادي إلى إيوان يراني بطل على الميدان القبلي استجده أقوس «3» الأقرم زمان نيابته بها، ثم يدخل إلى القصر من دهاليز فسيحة مشتمل قاعات ملوكية يستوقف الأبصار وتستوهب الشموس من أشعتها الأنوار بالرخام الملون قائما نائما في مفارشها وصدورها وأعاليها وأسافلها مموهة بالذهب (المخطوط ص 262) واللازورد والفص المذهب وأزر من الرخام إلى سجق السقوف.
وبالدار الكبرى «4» بها إيوانان متقابلان، تطل شبابيك شرقيها على الميدان الأخضر الممتد، وغربيها على شاطىء الوادي المخضر، والنهر به كأنه ذوائب
[1] الظاهر بيبرس البندقداري من مماليك الصالح أيوب، تولى السلطنة في مصر بعد قتله للسلطان قطز، استمر في ملاحقة المغول له آثار طيبة (انظر: العبر 5/247، القريزي ق 2/429- 431، ابن كثير 13/220) .
[2]
حاكم دمشق هو نائب السلطنة لأنه تابع لسلطان مصر ويعين بفرمان منه.
الفضة، وله الرفارف العالية المناغية للسحب، تشرف من جهاتها الأربع على جميع المدينة والغوطة، والوادي كامل المنافع بالبيوت الملوكية والاصطبلات السلطانية، والحمام والمنافع المكملة لسائر الأغراض. وتجاه باب القصر باب من رحبته إلى الميدان الشمالي على الشرفين المقدم ذكرهما، أبنية جليلة من بيوت ومناظر ومساجد ومدارس وربط وخوانق وزوايا وحمامات ممتدة على جانبين ممتدين طول الوادي.
وقد بنى في هذه السنين نائب السلطنة [1]«1» بها على الشرف الشرقي «2» منهما جامعا بديعا، يليه تربة ضخمة ودارا ملوكية، ومد قبالة الجامع سوقا نظيفا وحماما فائقا، زاد المكان حسنا على حسن وإبداعا على إبداع.
وأما حاضرها الشمالي ويسمى العقبة «3» فهو مدينة مستقلة بذاتها ذات جوامع ومساجد ومدارس وربط وخوانق وزوايا وأسواق جليلة. وحمامات وبها ديار كثيرة للأمراء والجند.
وأما نهر دمشق وهو بردى [2] فمجراه من عينين، البعيدة منهما دون قرية تسمى الزبداني [3]«4» ، ودونها عين بقرية تسمى الفيحة بذيل جبل غزتا، والماء خارج من صدع في نهاية سفل الجبل، وقد عقد على مخرج مائة قبو رومي البناء، ثم ترفده منابع في مجرى النهر، ثم يقسم النهر أربعة؛ اثنان عن اليمين
[1] وردت بالمخطوط بردا.
[2]
الزبداني: بلدة صغيرة، كثيرة الفواكه قرب دمشق (رحلة ابن بطوطة 61) .
[3]
نور الدين محمود زنكي ابن عماد الدين زنكي من حكام الدولة الأتابكية في الشام، له فضائل في جهاد الصليبين ورعاية العلم ولد 511 هـ وتوفي بدمشق سنة 569 هـ (ابن خلكان 5/184) .
واثنان عن الشمال مرفوعان على مجرى النهر في قرارة الوادي دائمة بمقسم معلوم، وعليه التفاف بساتين «1» ممتدة من الجانبين إلى أن يمر على المكان المسمى بالربوة وقد بنى الملك العادل الشهيد نور الدين محمود بن زنكي [1] رحمه الله بها المقام المعروف بمهد عيسى «2» ، يقال أن مريم آوت إليه بولدها عيسى عليه السلام، وأن هذه الربوة هي المعنية بقوله تعالى: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ.
(المخطوط ص 263) .
ومنظر هذا الوادي من أعجب المناظر لتراكم الظل والماء وأظلال الشمس والهواء، وأفراش الجبلين المحدقين به في أرضه بالبنفسج تحت الأشجار المتمايلة على غصون البان، تنفخ بينهما خدود الورد، ويفتر مباسم الياسمين، وتندلق ألسن السوسن، وتتجاوب فيها هدير الماء والحمام، وتتلاقى خيول «3» النسيمين الطائر من الشمال على منابت الشيح ومن القبلة على الحدائق الفيح.
وإنّ إلى جانب هذا الوادي في قبليه بشمال سطح ممتد على ظاهر المزية كأنه قطعة بيداء مقفرة ينبت بها الشيح والقيصوم، وتتلاعب بها الصبا والدبور [2] ، عرفت بصحة الهواء وفسحة الفضاء فطاب به ما جاورها، وصح لأجله ما قاد بها ثم نعود إلى ذكر النهر وتسمى الأنهار السبعة بحرى الوادي، والستة المقسومة فمجرى الوادي بردا فاق عليه هذا الاسم لا يعرف بغيره، وعلى سمت بردى في الجانب الغربي الأعلى الآخذ قبلة نهر داريا ودور المزية ودونه نهر القنوات، ودونه نهر باناس وعلى يسرة «4»
[1] إشارة إلى قوله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ
[المؤمنون، الآية: 50] .
[2]
رياح تهب عليها.
بردى في الجانب الشرق الآخذ شمالا على نهر يزيد، ودونه نهر نورا.
فأما القنوات وباناس فهما نهر المدينة حاكمان عليها، ومسلطان على ديارها، يدخل باناس القلعة بها، ثم ينقسم قسمين؛ قسم للجامع، وقسم للقلعة، ثم ينقسم كل قسم منهما على تقاسيم تتفرق على أصابع في المدينة بأصابع مقسومة وحقوق معلومة، وكذلك تنقسم القنوات في المدينة، ولا مدخل له في القلعة ولا الجامع، ومجرى الماء في قنى مدفونة في الأرض إلى أن تصل إلى مستحقاتها، ويتسع في منابعها، ثم تنصب فضلات الماء والبرك ومجاري الميضاوات والمرتفعات إلى قنى «1» وسخ معقودة تحت أرجائي الماء المشروب، ثم تتجمع وتنهّر وتخرج إلى ظاهر المدينة لسقى الغيطان.
وأما بقية الأنهر خلا بحر بردى فإنها تتصرف إلى البساتين والغيطان وعليها القصور والبنيان خصوصا ثورا [1] ، فإنه نيل دمشق، عليه أجل مبانيهم، وبه متنزهاتهم، وإليه أكثر سيارتهم وتوجهاتهم، يخاله من يراه زمردة خضراء لتراكم الأفياء عليه، والتفاف الدوح من جانبيه، ويجرى (المخطوط ص 264) يزيد في ذيل الصالحية، ليشق خيطا من عمارتها، وأما مجرى بردى فإنه تتفرق منه فرقة بجانب المدينة، تدخل إلى داخل سورها، وتدور به أرجاؤها [2] وينصب باقيها إلى مجرى الوادي إلى أن يخرج من حدود العمارة، والأرجاء المنصوبة عليه إلى تتمة الوادي يحف به الفياض المتكاتفة من السفرجل والجوز والبساتين، ثم يرمى إلى ظاهر قرى دمشق، يسقى ما يحكم عليه ثم ينصب في بحيرة هناك متصلة
[1] تورة: نهر يشق الربوة، في دمشق (رحلة ابن بطوطة 73) .
[2]
ارحاؤها جمع مفرده رحاه وهي السواقي والنواعير.
بالبرية.
هذه أمهات الأنهار من بردى، وما ينقسم منه على أن كل نهر من هذه الأنهار تنقسم منه أنهار كبار وصغار، وتتشعب من تلك الأنهار جداول، ثم تتفرق في البساتين والغيطان لسقى أراضيها، وإدارة أرحائها، مما لا يكاد يعد كثرة «1» .
فأما مسجدها الجامع فصيته دائر في الدنيا «2» ، كان هيكلا لعباد الكواكب، ثم كنيسة للنصارى [1] ، إلى أن فتحت دمشق على أيدي أبي عبيدة بن الجراح [2] وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، فجرى عليه حكم المناصفة، فوقع
[1] كان موضع كنيسة، حيث دخل خالد بن الوليد الكنيسة حتى منصفها أثناء فتح دمشق، وصالح أبو عبيدة بن الجراح على النصف الثاني، وبنى المسلمون مسجدا على النصف الأول، وعزم الوليد بن عبد الملك زيادة المسجد فأراد شراء النصف الثاني من الكنيسة فرفض الروم فأنتزعه عنوة وبنى هذا المسجد الأموي (رحلة ابن بطوطة ص 63) .
[2]
ورد عبيدة بن الجراح أ 264 وورد صحيحا في ب 165.