الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاهرة
مدينة عظيمة مبنية في وطأة نائية عن ذروة الجبل، أرضها سباخ، ولأجل هذا يعجل إلى مبانيها الفساد.
والفسطاط [1] المسمى الآن على ألسنة العامة بمصر [2] مدينة مبنية على ضفة النيل الشرقية، وقد بنى قبالتها في الجزيرة المبنى بها المقايس، أبنية كثيرة، صارت كأنها فرقة من مصر، ومجرى النيل بينهما لمنظره بينهما عند امتداد ضوء القمر، أو إيقاد السرج بالليل، منظر يجذب القلوب وكل من مصر والقاهرة وحواضرها الممتدة ذات رباع عليه مبلغ بعضها أربع طبقات، في كل طبقة مساكن كاملة بمنافعها ومترفقها، وسطح مقتطع لها من الأعلى بهندسة محكمة وصناعة (المخطوط ص 240) عجيبة مع كوّن البيوت بعضها تحت «1» بعض، لا يرى مثل صناع مصر في هذا الباب، وفي كل من هاتين المدينتين وحواضرهما، القصور الشاهقة والديار العظيمة والمنازل الرحيبة، والأسواق الممتدة، والمدارس والخوانق، والربط والزوايا، والجميع على اتساع رقعة البناء، وفسحة الشوارع مزدحمة بالخلق سكنا وممشى «2» ، قد حشرت إليها الأمم، واختلفت إليها «3» أنواع الطوائف.
وقال لي غير واحد ممن رأى المدن الكبار، والخطط العظام في مشارق الأرض
[1] الفسطاط: مدينة عمرو بن العاص التي بناها بعد فتحه لمصر (انظر: مراصد الاطلاع 3/1036) .
[2]
مصر: سميت بمصر نسبة إلى مصر بن مصرايم بن حام ابن نوح (مراصد الاطلاع 3/1278) والمقصود هنا مصر القديمة أو العتيقة.
ومغاربها، وبعيدها ومتقاربها: أنه ما رأى مدينة اجتمع فيها من الناس ما اجتمع في مصر والقاهرة وحواضرهما قال لي الصدر مجد الدين «1» اسماعيل السلامي، وقد سألته عن بغداد وتوريز، وهل يجمعان مثل مصر؛
فقال: في مصر خلق قدر كل من هو في جميع البلاد منها إلى توريز وغالب من فيها من العوام والباعة وأهل المهن والصنائع.
كما قال القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني رحمه الله: أهل «2» مصر على كثرة عددهم، وما ينسب من وفور المال إلى بلدهم، مساكين يعملون في البحر، ومجاهيد يدانون في البر «3» ، وأحمله على أنه قصد السجعة، إذ كل بلد فيها مجاهيد في أعمالهم، وما زال هذا في خاطري لا زيادة عندي عليه إلى أن أقمت بمصر، وسافرت في صحبة السلطان، غالب بلادها فرأيت خلقا ممن عليهم أرض مسجلة، قد ركب «4» المنخفص فيها، ولم يركب العالي وهم وقوف كل اثنين على مستنقع ماء، وبأيديهما قفة بخيط في أذنيها، وهما يترفان الماء بها، ضربا باليد إلى ورائهما من نقرة محفورة، يجتمع ما ينزح منها، ثم يصرف في مجاري إلى تلك الأعالي، ثم التي لم يركبها الماء ليسقوها [1] ، وهم من هذا في جهد جهيد، وأمر شديد، فعلمت أن هؤلاء الذين أراد القاضي الفاضل رحمه الله مجاهيد يعملون في البر، فإنه ليس في البلاد أشد جهدا منهم وأنهم (المخطوط ص 241) ملزمون بدرهم معين، وأردب معين، فإن لم يعملوا هذا
[1] المقصود به الشادوف.
أضنهم الطلب، ولم يجدوا جهة الوفاء.
وأما بر الديار المصرية فإنه «1» ريف ممتد بين حاجزين «2» ، وأعقبه رمل مفصل بالقرى، وهي مبنية بالطوب، سود الظواهر يحف بها نخل، وتقل في بعض وتكثر في الأخرى «3» ، كلها على أنموذج واحد، من رأى واحدة [1] منها فكأنما رآها كلها.
وقوص [2] مدينة على شرقي النيل في أعلى الصعيد، واقعة في الثاني ذات ديار جليلة وفنادق ورباع وحمامات ومدارس، يسكنها جلة من التجار والعلماء وذوي الأموال، وهي أول محط ركاب تجار الهند والحبشة واليمن والحجاز، الواصلون في البحر المالح «4» من صحراء عيزاب [3] ، وبها المكاسب ولها البساتين والحدائق ومنابت البقول والخضروات، لكنها شديدة الحر كثيرة العقارب والسام أبرص، وبها صنف من العقارب القتالات حتى أنه يقال فيها عن الملسوع أكلته العقرب، لأنه لا يرجى له إقامة.
قال لي عز الدين حسن بن أبي المجد الصفدي أحد العدول بالقاهرة: أنه عد في يوم صيف على حائط الجامع سبعين سام أبرص على صف واحد، والمستفاد
[1] وردت واحد أ 241.
[2]
قوص ذكرها ابن بطوطة المعاصر لابن فضل الله إنها مدينة عظيمة، لها خيرات عميمة، بساتينها مورقة وأسواقها مونقة، وهي منزل ولاه الصعيد (رحلة ابن بطوطة 41- 42) .
[3]
عيزاب بها مدينة عيزاب، وهي كبيرة كثيرة الحون واللبن وأهلها البجاة وهم سود الألوان (رحلة ابن بطوطة 42) .
بليدة على ساحل بحر القلزم وهي مرسى المراكب التي تقدم من عدن إلى الصعيد (مراصد الاطلاع 2/974) .
أن أهل قوص إذا تمشى أحد منهم في مكان أو خرج إلى بيته أو منه يأخذ بيده الواحدة مسرجة وفي الأرض مشك يشك به العقارب.
وفي الصعيد بقايا سحر قديم يحكى عنه أشياء، أصح ما سمعت منها ما حكى لي من أثق به عن طغصبا والي قوص؛
قال: أمسكت امرأة ساحرة فقلت لها: أريد أن «1» أبصر شيئا من سحرك؟
فقالت: أجوّد عملي أني أسحر العقرب. فقلت لها تسحري العقرب؟ قالت أسحره على اسم شخص مخصوص فلا تزال ذلك العقرب «2» تتبع ذلك الشخص حتى يلسعه «3» فيقتله.
فقلت: أريني هذا وأسحري العقرب على اسمي، فأخذت عقربا وسحرته وأرسلته «4» فبقيت كلما انحنى عنه وهو يتبعني، فجلست على تحت منصوب في بركة ماء، فجاءت العقرب إلى البركة وصارت (المخطوط ص 242) تحاول طلوعها إليّ ولا تقدر على اقتحام الماء فذهبت إلى الجدار فصعدت فيه وأنا أنظرها حتى ترقب إلى السقف وجاءت إلى ساحة مكاني ثم رمت بنفسها إلى أن نزلت إلى الأرض وقصدت مكاني، فضربتها بعصى في يدي فقتلتها ثم أمسكت تلك الساحرة فقتلتها لما رأيت من سحرها العظيم.
ويحكى كثير من هذا، ليس هذا موضع ذكره، ثم من قوص إلى أسوان ومن أسوان المؤجل إلى بلاد النوبة [1] ومن أسوان شعبة إلى الصحراء إلى عيزاب على ساحل البحر، يجاز منه على جده ميناء مكة المعظمة «5» ومن هذا البحر مسالك
[1] النوبة: بلاد واسعة عريضة في جنوب مصر، أول بلادهم بعد أسوان (مراصد الاطلاع 3/1394) .
للتجار إلى عدن، ثم إلى ما أرادوا من الهند واليمن والحبشة ولم نذكر قوص دون ما سواها من الصعيد إلا لأنها هي مدينتها الحاضرة وبها يحط مصعدا ومنحدرا زمر الرفاق المسافرة.