الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاسكندرية
والاسكندرية [1] مدينة قديمة جليلة عظيمة وكانت في القديم أكبر مما هي الآن وأعظم في كثرة الأهل والبنيان، بناها الاسكندر ذو القرنين على شاطىء البحر الرومي، وكان بها على ما يقال سرير ملكه ومستقر أمة وجميع بنايتها بالحجر والكلس، مبيضة البيوت باطنا وظاهرا، كأنها الحمامة البيضاء، ذات شوارع مشرعة الأرجاء «1» ، كل خط بذاته كأنها رقعة الشطرنج، يستدير بها أسوار ممنعة، وبروج محصنة، عليها الستائر المسترة، والمجانيق المنصوبة، وبها عسكر مستخدم لحفظها، وليس بالديار المصرية مدينة حاكمها مرسوم بنيابة السلطنة سوى الإسكندرية [2] .
لا يزال أهلها على يقظة من أمور البحر، ومخالسة العدو، وبها الديار الجليلة، والجوامع والمساجد، والربط والخوانق، والمشاهد [3] والفنادق، والرباع والأسواق الممتدة، ومعامل البز والقماش والطرز الفائق المثل، إليها تهوى ركاب التجار برا وبحرا من كل فج عميق ومكان سحيق، وليس في الدنيا نظير شربها، وطرازها المعمول بها والمحمول إلى أقطار الأرض شرقا وغربا، منها من الحفير المنسوج بالذهب والفضة (المخطوط ص 243) . والمقصب بالقصب، وطرد الوحش المنوع، والجر والمنقوش، والمنزج والمدفون والديبقى والمساذج، والمفرح والمقاطع، والممرش والشرب الخام والمقصور وبدلات المقانع وأنواع المقصبات
[1] هناك أكثر من مدينة باسم الإسكندرية، والإسكندرية العظمى ببلاد مصر (مراصد الاطلاع 1/76) .
[2]
حاكمها في ذلك الوقت هو زكريا أبو يحيى بن أحمد بن أبي حفص المعروف باللحياني.
[3]
يقصد بها قبور الألياء مثل أبي العباس المرسي، لأن المشاهد معروفة عند الشيعة وتعرف بها قبور أئمتهم.
والملون بالذهب والفضة والملاءات [1] والغوط من كل ما لا شبيه لرقمه ولا نظير لحسنه، يباع في «1» كل يوم فيها بآلاف مؤلفة من الذهب الأحمر، ولا ينفذ متاعها، ولا يقل موجودها وبالاسكندرية معاملة الدرهم السّواد حقيقة مقصورا عليها لا يخرج من سواها ولا يتعدى حاضرة أسوارها، وهو فيها كل درهمين سوداوين بدرهم واحد من نقد الدرهم المصري، يوجد بها الدراهم السود حقيقة اسم على مسمى.
وأما من بقية الديار المصرية فكما قدمنا يوجد اسما لا مسمى كل ثلاثة دراهم سودا بدرهم واحد من الدراهم المصرية.
والاسكندرية هي فرصة الغرب والأندلس وجزائر الفرنج وبلاد الروم وإليها ترد سوافنها، وتجلب بضائعها، ومنها تخرج أغراضها.
فأما دمياط فهي وإن كانت وسيلتها في هذا الباب، فإنه لا تشبه لها إلى الاسكندرية، وسيأتي ذكرها، والاسكندرية لها بحر خليج من النيل تصل فيه المراكب من مصر إليها، ومنها إلى مصر، وفي أوان زيادة النيل يمتلئ هذا الخليج «2» ، ويمد إلى صهاريج «داخل» المدينة معدة لإختزان الماء بها لشرب أهلها، نافذة من بعض الدور إلى بعض يمكن النازل «3» إلى صهريج منها الصعود من أي دار اختار، وتحت الصهاريج الآبار النبع بالماء المملوح، فهي طبقات ثلاثة، طبقة الآبار عليها طبقة الصهاريج عليها طبقة البناء ولا يعتني أهل الاسكندرية ببناء الطبقات على أعالي أبنيتهم لقوة الأمطار بها، وتجويف قرارها.
وعلى الاسكندرية البساتين الأنيقة والغيطان الفساح وفيها لجلة أهلها القصور الناهدة والجواسق الشاهقة، محصنة جميعها بأحكام البناء، وعلو الجدر
[1] وردت الملآت.
خشية من طرّاق الفرنج ودعّار العرب.
وبها من الفواكه المنتجة الثمار وهي تفوق (المخطوط 244) مصر بحسن ثمراتها، ورخص الفواكه بها، وليس للاسكندرية من ازدراع القمح والشعير والحبوب إلا ما قل، وغالب أقواتها محمول من أرياف مصر «1» .
«2» تنبيه: قد ذكرنا فيما تقدم أن الاسكندر هو الذي بنى الاسكندرية وذلك صحيح بمعنى أنه جددها وجدد بنائها، وأما سبب بنائها القديم فقد ذكره التيفاشي في كتاب سرور النفس بمدارس الحواس الخمس.
قال: ذكر أحمد بن مطرف [1] في كتاب الترتيب أن الذي بنى الاسكندرية أول أمرها جبير المؤتفكى، وأن الذي دعاه إلى بنائها أنه غزا بعض النساء اللواتي ملكن مصر، وكان اسمها حوريا بنت البرت، وأنه لما طال بينهما الحرب، انفذت إليه، نقول: أني قد رغبت في أن تتزوجني فيصير ملكنا واحدا، ودارنا واحدة، وأصير أنا ومملكتي لك، وذلك خير لك من أن تقيم على الحرب، فينفذ مالك، وتفنى رجالك، فإن ظفرت بي لم يحصل لك طائل، لأن الهزائم تذهب الأموال وتمحقها وإن أنت خذلت ذهبت وذهب جميع مالك، فأعجبه جميع مقالها وأجابها وعقد النكاح على ما كانوا يعتقدونه، والتمس الدخول بها، فقالت: إنه يفتح بي وبك أن نجتمع في غير مدينة تبنيها لهذا الأمر في أحسن موضع، وأجل مكان بحيث لم يكن فيه بناء قط غير ما تبنيه، وإنما كان ذلك منها مكرا به لتنقذ أمواله وتبلغ منه ما تريد في لطف وموادعه، فأجابها وأنفذ المهندسين
[1] أحمد بن مطرف بن إسحاق اللغوي القاضي أبو الفتح المصري المتوفى سنة 413 هـ، له عدة مؤلفات أهمها كتاب اللغة كبير (هدية العارفين لإسماعيل باشا البغدادي 1/72) .
إليها، وخيرها المواضع، فاختارت موضع الاسكندرية، وقسمت المدينة وصورها المهندسون، ثم عرفته ذلك، فأجاب إلى كل ما طلبت، وسار بجيشه فنزل على ذلك الموضع، وشرع في البناء، فكان كلما بنى بناء خرجت دواب البحر وعبثت به، وهدمته، فأقام زمانا، ونفذت الأموال، وضاق ذرعا فوفق له أن دل على بعض السحرة، فأحضره وشكا إليه ذلك الأمر، فوضع له طلسمات، وجعلها في آنية زجاج كالتوابيت فكانت في الماء حذاء (المخطوط 245) الأبنية، فإذا جاءت دواب البحر فرأت الطلسمات والتوابيت نفرت فثبت البناء، وبنيت المدينة، وتمت بعد زمان طويل، ثم راسلها في المسير، فسارت بجميع قللها وعساكرها حتى نزلت حذاء، عسكره، وراسلته أنى قد أحببت أنى أحمل عنك مؤنة الإنفاق على العسكريين في أطعمة تصلح وأشربة، وقد أعددت لوجود الأمراء والقواد خلعا وتحفا حملا عنك لكرمك في بناء المدينة، فأحب أن تجيبني إلى ذلك، فأجابها، وأمرت بذلك، فعمل وأنفذت إليه: أنا أحب أن أراك وأرى سائر عسكرك في الميدان يلعبون ضروب اللعب، ويكون متصرفكم بعد ذلك إليّ لحضور الطعام والخلع، فأجابها، وتقدم بركوب الجيش وحمل السلاح واللعب، فلما فعل واشتد عرق القوم، انصرفوا إليها جميعا، فتلقاهم أصحابها بالخلع المسمومة؛ فلبسها وجوه العسكر، ولبس الملك جبير خلعته، وكانت أقل سما من غيرها إبقاء عليه لتبقى فيه بقية لخطأ بها، فما أقاموا إلا ساعة بالخلع حتى طفئوا وماتوا: ورأى ذلك بقية العسكر، فعلموا موضع الحيلة، فبادروا مستأمنين فنودى فيهم بالأمان، وبقى الملك بقية من الحياة، فأمرت أنه يحمل إليها فلما رأته في السياق قالت له: إن ملكا أنفق ماله وأفنى زمانه، ونزل ملكه، وجاء شهوة لا يدري أينالها، ولملك سخيف، وكان آخر كلامها بخروج روحه، فمات، ودخلت هي المدينة، وأقامت بها زمانا، وعادت إلى مصر.
ثم ملك الاسكندر فزاد في بنائها، وأطال في منارتها [1] وجعل فيها مرآة كان يرى منها مراكب العدو عن بعد، فإذا صارت بإزائها، وصدمها شعاعها أحرقها كما تحرق المهاة في الشمس ما قابلها من الخرق، وإن لم تتصل بها، فسميت الاسكندرية من حينئذ، وكان اسمها قبل ذلك وقوده، وبذلك يعرفها القبط في كتبهم القديمة.
وأقامت المرآة على ذلك زمانا، وشق ذلك على الروم، فاحتال حكيم من حكمائهم بأن وافق متملكهم على أن يبعث أموالا مع أصحاب له، فيدفنونها في مواضع متفرقة (المخطوط 246) من ثغور الإسلام، ثم عادوا بعد دفنها فصنع كتاب مطالب ذكر فيه المواضع وختمه بأن تحت المرآة التي في منارة الاسكندرية كنزا لا يحصى ما فيه من الأموال، وعتق ذلك الكتاب، ودفعه إلى إنسان ذكي، وأمر أن يسير به إلى بلد بلد، وأن يكون قصده إلى السلطان، كل بلد فيعرفه ما في ذلك البلد، ويخرجه، ويأخذ منه جزءا [2] يسيرا واتصلت الأخبار إلى سائر الثغور بذلك، فكان سلطان كل بلد ينفذ إليه من يتسلمه بعد أن يحضر أخراجه الكنز في البلد الذي هو فيه، فلم يزل إلى أن وصل إلى الاسكندرية، فقال لملكها ما قال في المرآة، وقال له: إذا قلعتها وأخذت الكنز أنا أردها إلى أفضل ما هي عليه الآن، فأجابه، وقلعت المرآة وشرع في هدم ما تحتها وانسل الإنسان ونزل ونزل تلك الأموال التي أخذها من الكنوز المتقدمة ليطمسوا ولا يجدوا في طلبه، وفاتهم، وحفروا فلم يجدوا شيئا، فعلموا أن ذلك كله كان حيلة على قلع المرآة، ولم يقدروا على ردها لأن واضعيها كانوا حكماء قد نصبوها بطالع مختار، واختلف الناس في هذا القول فمنهم من ذكره، ومنهم من ذكر غيره.
[1] منارة الإسكندرية المشهورة إحدى عجائب الدنيا السبع كانت خرائبها لا تزال موجودة حتى عصر المؤلف والآن لم يصبح لها وجود.
[2]
وردت بالمخطوط جزاء.
قال: غير أني قرأت في بعض كتب التواريخ أن أعاجيب الدنيا أربعة فرس من نحاس بأقصى غرب الأندلس لا يتجاوزه أحد إلا ابتلعه الرمل، وشجرة من نحاس بروميه عليها صورة طائر من نحاس وهو الذي يسمى الزرزور، إذا كان أوان نضج الزيتون، فلا يبقى طائر من جنسه، وهو الطائر المعروف إلا أتى حاملا زيتونة في منقاره وزيتونتين في رجليه، فيلقيه عند الطائر النحاس المذكور، فيعصر أهل رومية من ذلك ما يكفي أدمهم، وسرج عامهم ذلك لأن روميه ليس بها زيتون، ومنارة من نحاس عليها راكب من نحاس بأرض عاد إذا كان في الأشهر الحرم، جرى منها الماء، ولا يجرى من غيرها، ومرآة بمنارة الاسكندرية ترى بها القطائع الحربية إذا تجهزت من القسطنطينية العظمى، فيرى أهل الاسكندرية أهل (المخطوط 247) القسطنطينية، وبينهما عرض البحر.
قال: وأما مساحة المنارة فهي ثلاثة طبقات، ومساحتها على ما ذكره بعض المحصلين مائتا ذراع وثلاث وثلاثون ذراعا، فالطبقة الأولى مربعة وهي مائة ذراع وإحدى وعشرون ذراعا، والطبقة الثانية مثمنة وهي إحدى وثمانون ذراعا ونصف ذراع، والطبقة الثالثة مستديرة وهي ثلاثون ذراعا ونصف ذراع «1» [1] .
قلت: وأما ما حكاه «2» عن منارة اسكندرية «3» ، فقد أصبحت كلها أثرا بعد عين، سقطت أعلامها، ومحيت آثارها، ولم يبق من المنارة، إلا دون العشرين [2] ذراعا، وأمر السلطان لها بالبناء، ولم يصرف إليها وجه الاعتناء وليس الناطور الآن إلا في منارة استحدثت على كوم عال داخل السور يعرف بكوم معلى لا له أساس ثابت ولا جدار معلى [3] .
[1] انظر: وصف المنارة عند ابن بطوطة المصادر للمؤلف ص 22.
[2]
وردت بالمخطوط العشرون.
[3]
وردت بالمخطوط معلا.
وأما عمود الصواري [1] فباق على حاله والطلل باق على هائل «1» ولا طائل، وهو من الاسكندرية على مسافة ونصف يوم من غربها البر الأقفر المتصل ببرقه إلى الغرب الأقصى.
والرطل الاسكندري يسمى الجروي وهو رطلان وأوقيتان بالمصري، وأراد بها ثمان ويبات بأردب وثلث بالمصري، وأسعارها أقرب إلى الرخاء، ولولا التهجير زادت رخاؤها، وعظمت أجلابها.
[1] عمود الصواري هو عمود السواري وهو عمود من رخام هائل وهو متوسط في غابة نخل، وهو قطعة واحدة محكمة النحت، أقيم على قواعد حجارة مربعة، لا يعرف كيفية وضعه عليها (رحلة ابن بطوطة 22) .