الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس في مملكة الأتراك بالروم
أما المسماة الآن بمملكة الروم فقد كانت مملكة لا ترام، ولا يلحق إليها مرام، وهي مما هو من الخليج القسطنطيني [1] ممتدا على جنوب بحر بنطس [2]«1» ، وماء «2» بنطس محجوزة بجبال يزل الطرف عن صهواتها، ويخل الطرف بعوائدها، في اقتحام حجراتها، وكانت آخر وقت زمان، بقايا بني سلجوق، معدن الخيرة والخير، ومسلك «3» مسكن الملك، صاحب القبة والطير، وكان لسلطانها من إرث آبائه حرمة محفوظة، ونعمة على معاطف الملوك ملحوظة، وقد تقدم (المخطوط ص 138) في هذا الكتاب ما ينبه على ما لهذه البلاد في المجد من الطارف والتلاد «4» .
كانت على عهد الروم؛ الباقي عليها نعتهم، إلى الآن محتبك الأعنة، ومشتبك الأسنة، دار القياصرة، ومكسر الأكاسرة، وكان لملكها الرتبة العلياء، وكانت بقسمة التعديل ثلث الدنيا، لأنه لم يكن يسمى «5» من ملوك الأرض إلا ملوك الفرس والروم والترك.
وهكذا قسم فريدون [3] ، حد هؤلاء الملوك الثلاثة الأرض بينهم بالإثلاث،
[1] الخليج القسطنطيني هو بحر مرمرة أو بحر إيجة الواصل بين بحر بنطس والبحر الرومي.
[2]
بحر بنطس هو البحر الأسود، وهو في وسط المعمورة بأرض الصقالبة والروس، يخرج منه خليج يمر بسور قسطنطينية، ولا يزال يتضايق حتى يقع في بحر الشام (مراصد الاصلاع 1/165) انظر: الخريطة المرفقة.
[3]
فريدون: من الأبطال الأسطوريين عند الفرس، وهو من نسل جمشيد، أبوه آبتين وأمه فرانك، قتل الضحاك، وله ثلاثة أولادهم: ايرج وسلم وتور، قسم عليهم العالم المعروف آنذاك فكان هناك التوارنيون والإيرانيون أما سلم فكان في الشام وما يليها (حماسة سراي 461- 469) .
فالروم لهم الثلث وهم أهل التثليث [1] وهذا الذي نحن في ذكره الآن، مما وقع في قسمهم، وطبع إلى وقتنا بطبائع اسمهم، هو الذي «1» الواقع على شرقي الخليج القسطنطيني متصلا بأرمينية وديار العرب والعواصم والشام.
وهو أثرى الممالك بلا احتشام خلا أنه بكثرة الثلوج كالح الوجه، في شبابه أشيب اللمة في قبابه «2» لا يستسقى به محب لأتراك، (ولا يسأم، ولا بارق فيه لعارضة برق)«3» [2] ، ولا يشأم، إلا أن صخوره تتفجر ماء وتتفجر أنواء، يعقد دون السماء بسماء، فتخصب زرعها، ويحطم المحل ضرعها، وتخصف ورق الجنّة على الخلائق، تمرها وينعها، وتطرب ورقها لمنظرها البديع، ومخبرها من صناعة صنعاء الربيع، فلا تسمع إلا كل مطربة تناجي النجى وتشجى الشجى، وتخلب قلب الخلي، وتهب الغواني ما في أطواقها من الحلى، يعجب ثوبها السندس، ونباتها المتعلق بذيل النهار «4» سجافها القندسي، فلا تجول في أرضها إلا على أرائك ولا ينظر إلا نساء كالحور العين، وولدانا كالملائك.
وآخر ما كانت في أيام السلجوقية على ما قدمنا ذكره دار بهجة وسناء، ومجلس أنس لكؤوس وغناء، انتهبوا العيش بها نهبا وقطعوا الأيام بالمسرات فيها وثبا، ثم جرى عليها ملك أولاد جنكيز خان، لما فاضوا على الأرض من كل مكان، إلا أنهم أبقوا على بقايا السلجوقية الملك بالروم، وحكموا معهم من يمنع أسودهم
[1] لقولهم الأب والابن والروح القدس.
[2]
ما بين القوسين زائد.
الرابضة أن تثب وتشتد، ولهم عبر ما خلوا من الثدي ويحتلب، ثم إزالتهم الأيام، وأزاحتهم، لتمتد ستور الظلام.
وكان من دخول الملك الظاهر أبي الفتح بيبرس البندقداري [1](المخطوط ص 139) الصالحي، إلى قيسارية، ما هو مشهور، وكسر عليها طائفة من رؤوس التتار، ثم عاد، ولم يقر له بها قرار، بعد أن جلس على تخت آل سلجوق، ولبس التاج، وضرب باسمه الدينار والدرهم واستبشرت به أهل تلك الدار، لكنه خاف عاقبة لموافقة طالع الوقت لنجم سعدهم ورجم ضدهم، ولم يكن قد آن لجمرتهم أن يخمد لهبها، ولا لجدول سيوفهم أن يجمد عليها قربها، فاستمرت أيدي المغل عليها، واضمحل ملك آل سلجوق حتى سقط في «1» يديها، فغلبت طوائف الأتراك هنالك على كثير من تلك الممالك؟ إلا بقية «2» حفظت المغل من مطالع أفقها، وأمسكت آخر رمقها، ودارت طوائف الأتراك ملوك المغل على ما غلبت عليه، وبقى منهم من يدخل في طاعتهم على أنه يسلم إليهم، ولا يخرج شيء من يديه، واستمرت أحوالهم معهم من الطاعة والعصيان والتذكار والنسيان حتى تمادت المدد، وخر رواق الدولة الجنكيز خانية أو وهي منه بعض العمد، فحينئذ ثبتت أقدامهم، وثبتت في مغارس الاستمرار أيامهم.
ومنذ غلبوا على الروم، كاتبوا ملوك مصر [2] ، واتخذوهم ظهرا، وعدوهم
[1] الظاهر بيبرس: ولد ببلاد القبجاق سنة 625 هـ تقريبا، وأسر وبيع وحمل إلى القاهرة، كان من المماليك البحرية، تسلم السلطنة بعد السلطان قطز سنة 658 هـ تصدى للتتار والفرنجة توفي سنة 676 هـ (انظر:
فوات الوفيات 1/235) .
[2]
يقصد مكاتبات بركة خان إلى الظاهر بيبرس والتي بدأت سنة 1262 م. (386.D'ohsson.IIIP ،Histoire Des Monqols
لحوادث الأيام ذخرا، حتى أن منهم من رغب في تقليد يكتب له بالنيابة فيما هو فيه، فكتب له وجهز إليه بالصناجق [1] والألوية والأعلام والتشاريف التمام والسيف المحلي والحصان المركوب والجنائب، وهم إلى يومنا هذا أهل ود وصفاء وحسن عهد ووفاء، لكثرة ما خلطهم به الامتزاج وصل منهم من اتخذ مصر والشام دارا، وأخذ بهما الإمرة «1» والأقطاع، وجرى فيها تحت حكم الأمر المطاع، ورسلهم حتى الآن لا تنقطع عن مصر والشام، والمكاتبات واردات وصادرات، والهدايا مقيمة وسائرات، ومع هذه كله كل واحد منهم بما أتاه الله من فضله ونحن الآن نذكرهم على التفصيل، ونكتفي بالقليل.
وها نحن نشرح حال كل طائفة متغلبة على هذه البلاد والمملكة التي استولت عليها، وما استقر «2» (في يديها على ما تنبه عليه في موضعه)«3» .
وقد ذكر أبو الفضل (المخطوط ص 40) عبد الله بن عبد الظاهر [2] دخول الملك الظاهر رحمه الله هذه البلاد، وخروجه في رسالة قال فيها: وسرنا لا يستقر
[1] الصناجق جمع مفرده صنجق أو سنجق وهو اللواء وحاكم اللواء.
[2]
عبد الله بن عبد الظاهر بن نشوان الجذامي الروحي السعدي القاضي محي الدين، مؤرخ مصري عاش ما بين 620- 692 هـ (1223- 1292 م) نشأ بالقاهرة وخدم السلاطين الثلاثة الأوائل في دولة المماليك البحرية في مصر وهم الظاهر بيبرس، والمنصور قلاوون، وخليل بن قلاوون، وصارت له رئاسة ديوان الإنشاء له ثلاثة مؤلفات عن السلاطين الثلاثة وهي «الروض الزاهر في سيرة المالك الناصر، وتشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور، والروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة (موسوعة العلوم الإسلامية والعلماء والمسلمين- حققها وراجعها بول غليونجي وآخرون- بيروت 1/130) وكتاب الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر- تحقيق ونشر عبد العزيز الخويطر الرياض 1976- وكتاب تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور تحقيق د. مراد كامل القاهرة 1961.
بنا قرار، ولا يقتدح من غير سنابك الخيل نار، ولا نقيم إلا بقدر ما يتزيد الزائر من الأهبة، أو يتزود الطائر من التغبة، تحمل همنا الخيل العتاق، ويكبوا البرق خلفنا إذا حاول بنا اللحاق، وكان السلطان من حلب قد أمر جميع عساكره بإدراع لامات حربهم، وحمل آلات طعنهم وضربهم، ورحلوا من حلب جرائد على الأمر المعهود، قد خفقوا كل شيء حتى عن السيف الغمود، فسرنا في جبال تشتهي فيها سلوك الأرض، وأودية تهلك الأسواط فيها إذا ملئت الفروج من الأرض، واستقبلنا الدرب كما قال المتنبي [1] :[الطويل]
رمى الدّرب بالخيل العتاق إلى الورى
…
وما علموا أن السّهام خيول [2]
فلما تجلى من دلوك وصنجة
…
علت كل طود رنة وعويل [3]
على طرق فيها على الطّرق رفعة
…
وفي ذكرها عند الأنيس خمول [4]
ومررنا من دلوك وهي رسوم باكية على سكانها، ضاحكة عن تبسم أزهارها، وتقهقه غدرانها، ذات بروج مشيدة، وأركان موطدة، ونيران تزاويق موقدة في عمد من كنائسها ممددة، وسرنا إلى مرج الديباج نتهادى، وذلك في ليلة مدلهمة ذات أندية، وإن لم تكن من جمادى، لا يثبت تربها تحت قدم المار وكأنما ساكنها يمشي على شفا جرف هار [5] .
وبتنا نستخف بالنسبة إليها ليلة الملسوع، وتتمنى العين فيها هجمة هجوع،
[1]
رمى الدّرب بالجرد الجياد إلى العدا
…
وما علموا أن السّهام خيول
(ديوان المتنبي شرح عبد الرحمن البرقوقي بيروت 1980- ج 3/221) .
[2]
رمى الدّرب بالجرد الجياد إلى العدا
…
وما علموا أن السّهام خيول
(ديوان المتنبي شرح عبد الرحمن البرقوقي بيروت 1980- ج 3/221) .
[3]
بوجهك ما أنساكه من مرشّة
…
يضيرك منها رنة وعويل
(ديوان المتنبي 3/228) .
[4]
على طرق فيها على الطّرق رفعة
…
وفي ذكرها عند الأنيس خمول
(ديوان المتنبي 3/222) .
[5]
إشارة إلى قوله تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
[التوبة، الآية: 109] .
وأخذنا في اختراق غابات أشجار تخفى الرفيق عن رفيقه، وتشغله عن افتقار طريقه، حولها معاثر أحجار كأنها قبور تغيرت، أو جبال تفطرت، بينها مخائض لإبل مغائص كأنها بحار فجرت [1] ، ما خرجنا منها إلا إلى جبال قد تمنطقت بالجداول، وتيممت بالثلوج، وعميت مسالكها فلا أحد إلا وهو قائل، فهو إلى خروج من سبيل أو إلى سبيل من خروج، تضيق مناهجها بمشي الواحد وتلتف شجراتها التفات (المخطوط ص 141) الأكمام بالساعدة ذات أوعار زلقة، وصدور شرقة، وأودية بالمزدحمين مختنقة.
حتى وصلنا إلى الحدث الحمراء المسمى الآن بكينوك ومعناها المحترقة، كان قسطنطين والد صاحب سيس [2] قد أخذها من أصحاب الروم، وأحرقها وتملكها، وعم بها الضرر لبلاد الإسلام، سيّر السلطان إليها عسكرا من حلب، فافتتحها بالسيف، وقتل كل من بها من الرجال وسبى الحريم والذرية، وخربت من ذلك الحين، وما بقى منها من يكاد يبين.
وشاهدنا منها ما بناه سيف الدولة بن حمدان [3] ، فالقنا يقرع بالقنا، وموج المنايا تتلاطم، وقيل لسلطاننا هناك على قدر أهل العزم تأتي العزائم [4] ، غضب الدهر والملوك عليها فبناها في وجنة الدهر خالا.
فبتنا بها وجيادنا إذا زلفت مشت كالأراقم على البطون، وإن تكاسلت جر بعضها بعضا بالصهيل والحديث شجون، وخضنا في أثناء ذلك مخائض سواقع،
[1] إشارة إلى قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ
[الانفطار، الآية: 3] .
[2]
سبس: هي سيواس من بلاد ملك العراق، حسنة العمارة واسعة الشوارع على حدود الروم (رحلة ابن بطوطة 197) .
[3]
سيف الدولة بن حمدان، هو أبو الحسن علي المعروف بسيف الدولة الحمداني، أشهر أمراء الدولة الحمدانية من قبيلة تغلب مات سنة 356 هـ.
[4]
تضمين لقول أبي تمام:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
كأنها لأجل عموم الخيل بها سمى كل منها لأجل ذلك سابح، كلما قلت هذا بحر قد قطعناه أعرض لنا جبل، وكلما لنا هذا جبل قد طلعناه بان لنا واد، يشتهون دون الهوى فيه نفاد الأجل. ثم وصلنا إلى كوك صو، وهو النهر الأزرق الذي رد الملك الكامل منه سنة الدربندات، لما قصد التوجه إلى الروم، وللوقت عبرنا ركضا وأعجلت الخيل، فما درت هل خاضت لجة أم قطعت أرضا، وبات الناس من بر هذا النهر الآخر، وأصبحوا متسللين في تلك الشم، ووقع السنابك يسمع من تلك الجبال الصم، حتى وصلوا إلى أمجاد دربند، فما ثبتت يد فرس لمصالحة صفاها، ولا بغلة لمكافحة رحاها، ولا رجلة لمطارحة قواها.
وتمرنت الخيل على الاقتحام والازدحام في التطرق وتعودت ما تعودت الأوعال في الأوعار من الشرب والتسلق تنحط انحطاط الهيدب، وترتفع ارتفاع الكوكب، حتى حصل الخروج من منتهى الدربند، وبات السلطان في وطاة هناك، وسمحت السحب بما شاءت من برد وبرد (المخطوط ص 142) ، وجاءت الريح بما ألم الجار، واستنفذ الجلد، وانتشرت العساكر حتى ملأت المفاوز، وملكت الطرق على المار، وأخذتها على الجائز، وقد تقدم سنقر الأشقر في الجاليش [1] فوقع على ثلاثة آلاف فارس من التتار، مقدمهم كراي، فانهزموا من بين يديه، وأخذ منهم من قدم للسيف السلطاني، فأكل تهمته وأمتار، واستمرت تلك منه فيمن يؤخذ من التتار، ويؤسره، وبات التتر على أجمل ترتيب ونظر، وبات المسلمون على أجمل تيقظ وحذر. فلما كان يوم الجمعة عاشر ذي القعدة تتابع الخبر بعد الخبر، بأن القوم قد قربوا، وأنهم تأبوا ووثبوا، ووصى السلطان جنوده في التثبت على ما يجب، وأراهم من نور رأيه ما لا يحتجب.
وطلعت العساكر من جبال مشترفة على صخرات منا من بلد ابلستين، وكان العدو ليلته تلك بايتا على نهر زمان، وهو أصل نهر جهان، وأصل اسمه جيحان،
[1] الجاليش: هم جماعة مقاتلة وهي جالش (فرهنگ رازي 213) .
فترتب المغل أحد عشر طلبا [1] كل طلب يزيد على ألف فارس، وعزلوا عسكر الروم خيفة منهم، وجعلوا عسكر الكرج [2] طلبا منهم واحدا بمفرده، ولما شاهدوا صناجق السلطان ومن حولها، وعليهم الخوذ الصفر المقترحة، وكأنها في شعاع الشمس نيران مقتدحة، رجعوا إلى ما كانوا عقدوا من العزائم فحلوا، وسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا، وأنصبت الخيل إليهم من أعلى [3] الجبل انصباب السيل، وبطلت الحيلة منهم وبقى الحيل، فشمروا عن السواعد، ووقفوا وقفة الرجل الواحد. وكان هؤلاء المغل قد اختارهم آبقا من كل ألف مائة، ومن كل مائة عشرة، ومن كل عشرة واحد، لأجل هذا اليوم، وكان فيهم من المقدمين الكبار تداون، وتقووا إليه أمر بلاد الروم، وأرختو أخو تداون ونمادربخشى، ومن أمراء الألوف زيرك وصهر آبغا وقراق وأخلدت من المغل فرقة إلى الأرض فقاتلت، وعاجت على نفوسهم وعاجلت، وجاء العدو الموت من كل مكان، وأصبح ماهان منهم وقدهان، وكم فيهم من شهم ما سلم قوسه حتى لم يبق في كنانته سهم، وذي سن طارح (المخطوط ص 143) فما طارحه حتى تثلم، واشتدت فرقة من العدو من جهة الميسرة، معرجين على الصناجق السلطانية. [الوافر]
فلزهم الطراد إلى قتال
…
أدلّ سلاحهم فيه الفرار
وثاب السلطان إليهم وثب عليهم فضحى منهم بكل أشمط، وأقرى سباع الوحش والطير فأفرط، ولحق من قصد التحصن في الجبال فأخذهم من كل رابية الأخذة الرابية، وقتلهم فهل ترى لهم من باقية، وانهزمت جماعة يسيرة، طمع فيها من العوام من لا كان يدفع عن نفسه، وأخذتهم المهاوي فما نجا منهم إلا آيس من
[1] الطلب: فرقة مقاتلة.
[2]
الكرج: جبل من النصارى كانوا يسكنون في جبال القبق وبلاد السرير، ثم قويت شوكتهم، وملكوا مدينة تفليس، ولهم ولاية تنسب لهم وملك ولغة وشوكة وعدد (ياقوت الحموي 4/446، صبح الأعشى 1/369) ، وهي الآن دولة جورجيا.
[3]
وردت بالمخطوط أعلا.
حياة عده في أمسه. [الوافر]
مضوا متسابقو [1] الأعضاء فيها
…
لأرجلهم بأرؤسهم عثار
إذا فاتوا الرماح تناولتهم
…
بأرماح من العطش القفار
ووصدت ميمنة عسكرنا جماعة من المغل، ذو بأس شديد، فقاتلهم المسلمون حتى ضجر الحديد من الحديد، وأما العدو فتقاسمت الأيدي ما يمتطونه من الصواهل والصوافق، وما يصولون به من سيوف وقسى وكتاين [2] ، وما يلبسونه من خوذ وذروع وجواشن [3] ، وما يتملونه من جميع أصناف المعادن، فغنم ما هنالك، وتسلم من استشهد من المسلمين رضوان، ومن قتل من التتار مالك، وأورث الله المسلمين منازلهم، فنزلوها ووطاقاتهم وخركاواتهم فتمولوها، وكان السلطان مع أعدائه كما قيل:[الوافر]
فمساهم وبسطهم حرير
…
وصبحهم وبسطهم تراب
وأصبح الأعداء كأنما جزر أجسادهم، تتخللها من الدماء السيل، وكأنما رؤوسهم المجموعة لدى الدهليز المقصور أكر، تلعب بها صوالح الأيدي والأرجل من الخيل، وكم فيهم من مهيب الهامة حسن الوسامة، يتفرس في جهامة وجهه الفخامة، قد فض الرمح فاه، فقرع السن على الحقيقة قدماه، وكثرت الأساري، فاختار السلطان من كبرائهم البعض وعمل بقول الله ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ
(المخطوط ص 144) لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ
[4]
ودخل البرواناه [5]
[1] وردت بالمخطوط متسابقي.
[2]
كناين جمع مفرده كنانة وهي جعبة السهام.
[3]
جواشن جمع مفرده جوشن، والجوشن هو الدرع بالفارسية (فرهنگ رازي 207) .
[4]
إشارة إلى قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
[الأنفال: الآية: 67] .
[5]
البرواناة هو حامل الرسائل وهو مشتق من الكلمة الفارسية پروانه أي الخادم (انظر: تركستان حاشية ص 359) .
مدينة قيصرية في سحر يوم الأحد ثاني عشر الشهر.
فأفهم غياث الدين سلطانها الصاحب فخر الدين عليا والأتابك مجد الدين والأمير جمال الدين المستوفى والأمير بدر الدين ميكائيل النائب، والأمير الطغرائي [1] وهو ولد عز الدين أخي البرواناه، وهو يكتب طرز المناشير، أن المسلمين كسروا بعض المغل وبقيتهم منهزمون، ونخشى منهم دخول قيصرية، واتلاف من يكون بها، فاحذر زوجته كرجى خاتون بنت غياث الدين صاحب أزر، وأمها ملكة الكرج وزوجها السلطان غياث الدين صاحب الروم في أربعمائة جارية.
وكان لها ما لا كان لصاحب الروم من النجاتي والخيام والآلات، وتوجهوا كلهم إلى جهة توقات وهو حصن عن قصيرية أربعة أيام، وهوّل على بقية أمراء الروم، فاتبعوه إلا قليل منهم، وأخفى البرواناه أمره وأمر من معه حتى لا يخبر عنهم.
ورحل السلطان فنزل قريب قرية رمان، وبيوتها حول سن جبل قائم كالهرم إلا أنه ملموم، وعمرت البيوت في سفحه حوله بيتا فوق بيت، وبدت كأنها مجرة النجوم وما منها بيت إلا وبه مقاعد ذوات داربيزينات [2] منجورة (ورواشون) قد بدت في أحسن صورة، يحمها من أعلاها أحسن بنيان، ويعلوها من رأسها منزل مسنم الرأس كما يعلوه الصعدة السنان، ويطوف بها الجبال كأنها لها أسوار بل سوار، وكأنها في وسطها إناء فيه جذوة نار، وفيها أنهار ذوات قناطر لا تسع غير راكب، مضائق لا تلقى غيرها مناكب، فنزلنا قريبا منها حتى تخلص من تخلص وحضر من كان في المضائق قد تربص.
وقال كل الآن حصحص، ورحلنا والسماء قد حبت الأرض تيجان أمطارها،
[1] الطغرائي: من يقوم بوضع الشعار السلطاني على الرسائل (انظر: طغرا- فرهنگ رازي 575) .
[2]
درابيزينات جمع مفرده درابيزين وهي كلمة فارسية وتعني سياج يتكئ عليه المرء أثناء صعوده على السلالم أو على الكراسي (انظر: فرهنگ عميد 1/928) وهي تأتي في العربية طرابزين.
وأغرقت الهوام في أحجارها، والقبح في أوكارها، وأصبحت الأرض لا تتماسك حتى ولمرور الأراقم، والجبال لا تتمالك أن تكون للعصم عواصم، تضع بها من الدواب كل ذات حمل، وتزلق على صقليها أرجل النمل.
سرنا على هذه الحالة نهارنا كله إلى قريب الغروب وقطعناه بتسلمنا (المخطوط ص 145) أيدي الدروب من الدروب، فنزلنا عشاء في مستنقع أرض يطوف بها جبال شاهقة، ومياه دافقة، تعرف قاعدة تلك الأرض بوطأة فشلارهار من أعمال صاروس العتيق، ويضرب من تلك الجهة معدن الفضة.
وبينما نحن قد شرعنا في أهبة المبيت، ولم تجمع الشمل الشتيت، وإذا بالصارخ قد عقر عقيرته، بأن فوجا من التتار هنالك في فجوة قد استتروا وفي فجوة نفرة قد انتظروا، فركب السلطان والناس في السلاح، وعزموا على المطار، فعاقهم تتابع الغيث، وكيف يطير مبلول الجناج، ثم لطف الله وعاد السلطان وهو يقول لا بأس، فنمنا نومة السليم، وصارت أفكارنا سالمة شاعرة في كل واد تهيم، وأصبحنا فسلكنا جبالا، لا يحيط بها الوصيف، ونبسط عذر الطرف فيها حين يكبو الطرف، ينحط منها إلى جنادل تضعف عن الهوى، إليها قوى الأجادل، ومررنا على قرية أوزاك، وتحتها قناطر وخان من حجر منحوت ثم خان للسبيل على رأس رابية، هناك قريب حصن سمند والذي عرض أبو الطيب به في قوله:
فإن يقدم فقد زرنا سمند
…
وإن يحجم فموعده الخليج [1]
وكان السلطان قد سير إليها خواصه بكتاب إلى نائبها فقبله وقبله وأذعق بالتسليم لحصنها المنيع، والنزول لأمر السلطان عنها أن استنزله، فشكر السلطان له تلك الإجابة، ووفاه من الشكر حسابه.
وكذلك إلى قلعة درنده وإلى قلعة دوالوه، فكلهم أجابوه وأطاعوه، ولكلمة
[1] انظر: ديوان المتنبي شرح عبد الرحمن البرقوقي 1/362.
الإذعان والوه، ونزلنا في وطأة قريب من قرية تعرف بحمرهاه، وكان الناس قد فرغت علوفات خيلهم أو كادت، وباتت الخيل ليالي بلا عليق، فمالت ومادت، وشاركها خيول الكسوب في عليقها، وما ساعدتها في طروقها ولا طريقها، فصادفنا في هذه الليلة بعض أتيان، أمسكت أرماقها، وأحسنت إرفاقها، وأصبحنا راحلين من جبال كأنها تلك الأول، وهابطين في أودية (المخطوط ص 146) يتمنى سالكها لشدة مضائقها لو عاد ترقى قبه الجبل. ثم أشرفنا على خان هناك يعرف بقرطاي، يدل على شرف همة بانيه، وطلب ثواب الله تعالى فيه، وهو من أكبر الأبنية سعة وارتفاعا، وأحسنها شكلا وأوضاعا، كله مبنى بالحجر المنحوت المصقول الأحمر الذي كأنه رخام، ومن ظاهر أسواره وأركانه نقوش، لا يمكن أن يرسم مثلها بالقلم، وله خارج بابه مثل الربض ببابين بأسوار حصينة، مبلط الأرض، فيه حوانيت، وأبواب الخان حديد من أحسن ما يكون استعماله، وداخله اواوين [1] ضيقة، وأمكنة شتوية، واصطبلات على هذه الصورة، لا يحسن الإنسان يعبر عنها بكيف؟ ولا منها إلا ما يعده الكافر رحلة الشتاء والصيف [2] وفيه الحمام والمرستان [3] والأودية والفرش والأواني والضيافة لكل طارق على قدره. وحمل إلى السلطان لما مر عليه وكثر الناس فما وصل أحد إليها ولا إليه، وعليه أوقاف عظيمة، وضياع كثيرة حوله وفي غيره من البلاد، وله دواوين وكتاب ومباشرون، يتولون استخراج أمواله، والإنفاق فيه، ولم يتعرض التتار إلى أبطال شيء من رسومه، وأبقوه على عوائد تكريمه، وأهل الروم يبالغون في تبجيل بانيه- رحمه الله وتعظيمه، فنزلنا تلك الليلة قريب قرية قريبة من قيصرية شرقي الجبل المعروفة بعسيب [4] وفيه قبر امرئ [5] القيس الشاعر وفيه يقول:[الطويل]
[1] إواوين جمع مفرده إيوان، فضاء مسقوف (فرهنگ رازي 38) .
[2]
إشارة إلى قوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ
[قريش، الآية: 1- 2] .
[3]
دار الشفاء: المستشفى.
[4]
جبل عسيب: جبل قرب دومة الجندل.
[5]
وردت في المخطوط أمرء.
أجارتنا إن الخطوب تنوب
…
وإني مقيم ما أقام عسيب
اجارتنا إنا غريبان هاهنا [1]
…
وكل غريب للغريب نسيب
وهذا الجبل يعلوه جبل أرجاش وهو الذي يضرب به الروم الأمثال لتساميه، وتتضاءل الجبال في جميع الدنيا العالية، لا تسحب ذيول السحاب إلا دون سفحه، ولا يعرف شتاؤه من صيفه من ثلوجه ولا لهيال الأبخرة المتصعدة، وعشاؤه من صبحه.
فلما كان يوم الأربعاء منتصف ذي القعدة، وهو يوم شرق الزهرة، ركبت العساكر المنصورة مترتبة، وملأت الفضاء (المخطوط ص 147) متسربة، فركب السلطان في زمرته، ودوى أمره وإمرته، يختال به جواده في أفسح ميدان ويصيح به مرحا وفرحا كأنه نشوان درى إنه سلطان.
تظل ملوك الأرض خاشعة له
…
تفارقه هلكى وتلقاه سجدا
وخرج أهل قيصرية وعلماؤها [2] وزهادها وتجارها ورعاياها ونساؤها وصغارها، فأكرم السلطان ممساهم وشكر مسعاهم، وتلقى قضاتهم وعلماؤهم ركبانا وحادثهم إنسانا إنسانا، وحصلت لجماعة من الفقراء والناس حالات جد مضطربة [3] وصرخات ذكر معجبة، وكان شعار السلطان غياث الدين صاحب الروم وخيامه، وشعار سلطنته قد بقى جميعه في وطأة قريب الجوسق والبستان المعروف بكيخسرو، فترجل الناس على اختلاف طبقاتهم في الركاب الشريف من ملك وأمير ومأمور، وارتفعت الأصوات بالتهليل والتكبير، ونزل السلطان في تلك المضارب، وضربت نوبة بني سلجوق على باب دهليزه على العادة.
[1] ههنا (ديوان امرئ القيس دار صادر بيروت 1958 ص 79) .
[2]
وردت بالمخطوط وعلمائها.
[3]
وردت بالمخطوط مطربة.
وإذن السلطان للناس في التقرب إلى شريف فسطاط، وحضر أصحاب الملاهي، فما ظفروا بغير النواهي، وقيل لهم: ارجعوا وراءكم، فالتمسوا وذهبوا إلى واد غير هذا الوادي فاقت سوءه هذه الهنات، لا تتفق هنا، وما هذا موضع الغناء بل موضع الغنى.
وشرع السلطان في إنفاق اللها وعين في كل جهة شخصا وقال: أنت لها، وحكم وحكم، وعلم وعلم، واعتمد على الأمير جاليش في النيابة وأعطى كلا بيمينه كتابه [1] وأقام الحجة على من نزح بالاستعطاف، وتأمين من خاف، فلما علم أنهم لا يفلحون، ولغير التتار لا يصلحون، وإنهم إن أصبحوا في الطاعة لا يمسون، وإن أمسوا لا يصبحون، عاد عن تلك الوعود، وأختار أن ما بدا إليه يعود، فركب يوم الجمعة سابع عشر ذي القعدة مستقبلا من الله الخير، ونصب خبر بني سلجوق على رأسه، فرأى الناس منه صاحب القنة والسّبع، وصاحب القبة والطير، ودخل قيصرية في بكرة هذا اليوم، وكانت دار السلطنة قد فرشت لنزوله، وتخت بني سلجوق قد هيئ لحلوله، وهي (المخطوط 148) منازل تزهو، ومفازة من يتعبد ويلهو، أنيقة المبتنى، تحف بها بساتين عذبة المجتبى، جدرانها بأحسن أصناف القاشاني مصفحة، وبأجمل نقوشه مصرحة، فجلس السلطان في مرتبة الملك في أسعد وقت ونال التخت بحلوله أسعد البخت.
«وما كان هذا التخت من حين نصبه لغير المليك الظاهر الندب يصلح» .
«مليك على اسم الله ما فتحت له صوارق البيض المواضي وتفتح» .
«أتته وفود الروم والكل قائل رأيناك تعفو عن كثير وتصفح» .
«فأوسعهم حلما وجادلهم ندى [2] وأمسوا على من وأمن وأصبحوا» [3] .
[1] إشارة لقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ
[الحاقة، الآية: 19] .
[2]
وردت بالمخطوط يدي.
[3]
من شعر المؤلف.
وأقبل الناس على السلطان يهنونه. وعلى كفه الشريف يقبلونه ثم حضرت القضاة والفقهاء والصوفية ودور الرواتب من أصحاب العمائم على عادة بني سلجوق في كل جمعة، ووقف أمير المحفل وهو كبير المعدلة عندهم، وله وسامه وفخامه، وله أوسع كم وأكبر عمامة.
وأخذ في ترتيب المحفل على قدر الأقدار، وانتصب قائما بين يدي السلطان منتظرا ما إليه به يشار، وشرع القراء يقرءون [1] جميعا وفرادي بأحسن تلحين وأجمل تحسين، فلما فرغوا شرح أمير المحفل صارخا، وبكور فمه نافخا، فأنشد وأورد بالفارسية، ما يعجب مدلوله، ويهول مقوله، وأطال وما أطاب، واستصوب من يعرف مقاله قوله، والله أعلم بالصواب.
ولما انقضى ذلك مدوا سماطا ليس يناسب همم الملوك، فأكل الناس منه للشرف لا للسرف، ثم عاد كل إلى مكانه فوقف، وقام السلطان إلى مكان الراحة، فأقام ساعة أو ساعتين، ثم عاد إلى مخيمه قرير العين، وكان بدار الملك حرم السلجوقية، على أبوابهم أسمال ستور حرير، ومشايخ خدام، يستحق لكل منهم أن يدعى بالكبير، فجبرهم السلطان، وآنسهم، وأحسن إليهم، وتوجه إلى صلاة الجمعة بقيصرية، وبها سبع جمع تقام فيها خطبا إلا أنهم كالأنعام فصلينا في جامع السلطان، وهو جامع لا يدل على (المخطوط ص 149) احتفال ملوكها ببيوت عباداتهم، ولا فيه دلائل الخير ما تقضى بحسن إرادتهم.
فحضر أهل المدينة وأكابرها، وجلسوا حلقا لا صفوفا وأجروا من البحث بالعجمية صنوفا، واجتمعت جماعة من حفاظ الكتاب العزيز فتخارجوا القراءة آية آية، وهي قراءة بعيدة عن الدراية بل إنها تبرزها أصوات مترنمة، والحان لتفريق الكلمات مقسمة، ينطقون بالحروف كيف اتفقت، ولا يتوقفون على مخارج الحروف إنها بها نطقت ولا نطقت، ولما آن وقت الآذان، قام صبي عليه قباء، من
[1] وردت بالمخطوط يقرون.
وسط جماعة عليهم أقبية، قعود على دكة المؤذنين، فابتدأ بالتكبير أولا وثانيا بمفرده من غير إعانة ولا إبانة، ولمّا تشهد ساعدوه جميعهم بأصوات مجمجمة ملعلعة، ونغمات متنوعة يحيكون له النغم بأطيب تلحين، ويترنمون بالأصوات إلى آخر التأذين، وفرغ الآذان، وكلهم قعود، ما منهم أحد غير الصبي قد وقف وما منا أحد لكلمة من الأذان عرف، ولما فرغ الآذان، طلع شيخ كبير السن يعرف بأمير محفل المنبر، فصعد ذروة المنبر، وشرع في دعاء لا نعرفه، وادعاء لا نألفه، كأنه مخاصم أو وكيل شرع أحضره لمشاورة خصمه خصم بين يدي حاكم، وطلع الخطيب بعد ذلك فخطب، ودعا للسلطان بغير مشاركة، وانفضت الجمعة على هذه الصورة المسطورة.
وضربت السكة باسم السلطان، وأحضرت الدراهم إليه في هذا اليوم فشاهدنا وجها متهللا باسمه الميمون، وأقرت الألسنة [1] بهذه النعمة، وقرت العيون، وشاهدت بقيصرية مدارس وخوانق وربطا، تدل على اهتمام بانيها، ورغبتهم في العلوم الشريفة، مشتدة بأحسن الحجار الحمر المصقولة المنقوشة وأراضيها بأجمل ذلك مفروشة، وأواينها وصففها مؤزرة بالقاشاني الأجمل صورة، وجميعها مفروشة بالبسط الكرخية [2] والقالية [3] ، وفيها المياه الجارية، ولها الشبابيك على البساتين الحسنة.
وسوق قيصرية طائف بها من حولها، وليس داخل المدينة دكان ولا سوق، والوزير في بلاد الروم يعرف (المخطوط ص 150) بالصاحب فخر الدين خواجا علي، وهو لا يحسن الكتابة، ولا الخط، وخلفه من مماليكه خاصة مائتا مملوك، ودخله غير دخل أولاده وغير الإقطاعات التي له ولأولاده وخواصه سبعة آلاف درهم
[1] وردت بالمخطوط الآستانة.
[2]
البسط الكرخية المصنوع في الكرخ إحدى ضواحي بغداد.
[3]
القالية من قالى وهي كلمة تركية بمعنى السجادة الكبيرة من الصوف بألوان ونقوش مختلفة (فرهنگ عميد 2/1566، فرهنگ رازي 655) .
سلطانية، ولقد شاهدت في مدرسته من خيامه وخركاواته شيئا لا يكون لأكبر الملوك، وله بر ومعروف وبالخير معروف.
وأما معين الدين سليمان البرواناه وزوجته كرجى خاتون فظهر لهم من الوجود البادي للعيون كل نفيس، واستولى السلطان من موجودهما على ملك سليمان [1] وعرش بلقيس [2] ولما أقام بقيصرية هذه المدة، فكر في أمر عساكره، ومصالحهم بما لا يعرفه سواه، ونظر في حالهم بما أراه الله، وذلك لأن الأقوات قلت، والسيوف من المضاربة ملت، والسواعد من المصارمة كلت. وأنه ما بقى بالروم من الكفار من يغزى، ولا بجزاء السوء يجزى، وما بقى في البلاد إلا رعايا كالسوائم الهاملة، ولا دية لكفر منهم على عاقل ولا عاقلة، وإن أقام بالبلاد لا تحمله، ومواد بلاده لا تصله، وأعشاب الروم بالدوس قد اضمحلت، وعلوفاتها قد قلت، وزروعها لا ترجى لكفاية، ولا ترضى خيول العساكر المنصورة بما ترضى به خيول الروم من الرعى والرعاية، وإن الحسام الصقل الذي قلت به التتار في يد القاتل، وإنه إن كان أعجبهم عامهم فيعودون إلى الروم من قابل.
فرحل يوم الاثنين العشرون [3] من ذي القعدة بعد أن أعطى أمراءه وخواصه كلما أحضر إليه من الأعنة والأزمة، وكلما يطلق على غولة اسم النعمة، فنزل في منزلة تعرف بقبر لولو، فيها وصل إليه رسول غياث الدين والبرواناه، يستوقفونه، وكان الأمر شائعا إنها إلى سيواس، فعدد السلطان عليه حسن وفاء عهده، وأنه أجاب دعاهم مرة بعد مرة، من أقصى ملكه مع بعده، وأنهم ما وقفوا عند الشرائط المقررة، ولا وفوا يمضمون الرسائل المسيرة، وأنه لما جاء الحق وزهق الباطل [4] طلبوا نظرة إلى ميسرة، وعلم (المخطوط ص 51) السلطان أن عساكر الروم أهل البداد لا
[1] نبي الله سليمان عليه السلام.
[2]
بلقيس ملكة سبأ باليمن.
[3]
وردت بالمخطوط العشرين.
[4]
إشارة إلى قوله تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً
[الإسراء، الآية: 81] .
أهل نفاذ، وأهل طرف لا أهل حرب، وأهل طيبة عيش لا قواد جيش فرد إلى سليمان البرواناه وهدده، وقال: قل له أني قد عرفت الروم وطرقاته، وأمه أسيرة معي وابن بنته وولده، ويكفينا ما جرى من النصر الوجيز، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز [1] ، ولا كل من قضى فريضة الحج تجب عليه المجاورة، ولا بعد هذه المهاجرة مهاجرة، ونحن فقد ابتغينا فيما أتانا الله من حقن دماء أهل الروم، وعدم نهب أموالهم، الدار الآخرة، وما كان جلوسنا في تخت مملكتكم لزيادة تنجح بتخت آل سلجوق إلا لتعلمكم أنه لا عائق لنا عن أمر من الأمور، يعوق، وأن أحدا لا ينبغي له أن يأمن لنا سطوة، وليتحقق كل أن كل مسافة جمعة لنا خطوة، وسروجنا بحمد الله أعظم من ذلك التخت حلالا، وأرفع منالا، وكم في ممالكنا كرسي ملك نحن آية ذلك الكرسي وكم لنا فتح، والحمد لله فوق الفتح القدسي.
واستصحب السلطان معه أكابر الروميين، ثم رحل فنزل قريب خان السلطان علاء الدين كيقباد، ويعرف بكرواصواي، وهذا الخان بنية عظيمة من تشبه خان قطراي، وعليه أوقاف عظيمة، من جملتها أغنام كثيرة، يذبح نتاجها للواردين عليه، ثم نزلنا في وطأة رويزان كودلوز كودلو، اسم جبال تلك الوطأة، ثم رحلنا فعارضنا نهر في وطأة خلف حصن سمند ومن طريق غير التي كنا توجهنا عليها بمكان يعرف بنهر قزل صو، وهو صعب المخاض، واسع الاعتراض، عالي المهبط، زلق المسقط، مرتفع المرتقى، بعيد المستقى، لا يجد السالك من أوحال حافتيه إلا صعيدا زلقا.
فوقف السلطان عليه بنفسه وجرد سيفه بيده، وباشر العمل هو وجميع خواصه، حتى هيأ المكان جميعه، ووقف راحلا يعبر الناس أولا فأولا من كبير وصغير وغلام، وهو في أثناء ذلك يكبر على من يزدحم، ويكرر التأديب (المخطوط ص 152) لمن يطلب بأذية رفيقة أنه يقتحم، فلما خفت البرور، ولم يبق إلا المرور،
[1] إشارة إلى قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
[الحج، من الآية: 40] .
ركب فرسه، وعبر الماء.
ونزل في واد هناك به مرعى ولا كالسعدان ومرائي ولا لشعب بوان، ثم رحل، فنزل عند صخرات قراجا حصار، وهي قرية كانت عامرة فيما مضى قبالة بازاربلو، وهذا البازار [1] هو الذي كانت الخلائق تجتمع إليه من أقطار الأرض، ويباع فيه من كل شيء يجلب في الأقاليم.
ثم سرنا حتى نزلنا وطأة الأبلستين، وعبر السلطان على مكان المعركة المتقدمة مع التتار، ورأى كيف تعاقبت عليهم من العقبان كواسرها، ومن النسور مناسرها، وكيف أصبحوا لا تندبهم إلا البوم، وكيف تحققوا أن التي أهلكهم زرق الأسنة لا زرق الروم، وشاهدهم والهوام في أجسامهم متصرفة، قد هزأ بهم كل شيء حتى الوحوش والرياح، فهذه من صديدهم متكرعة، وهذه عليهم متقصفة.
«قد سودت شجر الجبال شعورهم فكان فيه مسفه الغربان» .
وحضرت من أهل الابلستين هناك جماعة من أهل التقى والدين، فاستخبرهم السلطان عن عدة قتلى المغل، فقالوا: ما شأن العاديين، فاستفهم من كبيرهم عن عدة المغل كم من قتيل؟ فقال: قل الله أعلم بعدتهم، ما يعلمهم إلا قليل [2] ، فقال الذي عنده علم من الكتاب [3] أنا أعددت سبعة آلاف وسبعمائة وسبعين نفرا وضاع الحساب، هذا غير من آوى إلى جبل يعصمه من ماء السيوف [4] فما عصمه، ومن اعتقد أن فرسه يسلمه فما سلمه.
[1] السوق.
[2]
إشارة إلى قوله تعالى: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً
[الكهف، الآية 22] .
[3]
إشارة إلى قوله تعالى: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ
…
[النمل، الآية: 40] .
[4]
إشارة إلى قوله تعالى: قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ
…
[هود، الآية: 43] .
فنزلهم السلطان، ورسم بتقدير الأثقال والخزائن والدهليز على أمجاد ربند، ثم أقام يومين ينتظر صعيدا من العدو يعن أو دما من دمائهم إلى السيف يحن، فلما لم يجد أحدا، رحل من طريق غير التي حضر منها، فسلك على الأوعار طريقا يبسا، وطلع من قنن الجبال في هضاب كان كلا منها كف حملت من الأنجم قبسا، فقاس الناس في هذا اليوم من الشدة ما لا يدخل في قياس.
(المخطوط ص 153) وكاد الناس أن يهلكوا لولا أن الله تدارك الناس، فساقوا ولكن على مثل حد السيف، وتسللوا ولكن سل حوافر الخيل كيف، وهبطوا من جبال يستصعبها كل شيء حتى طارق الطيف، يستصحب الحجر المحلق وقوعه في عقابها ويستهول النجم الثاقب تعلقه بشعابها.
وعد بباكوك صو وهو النهر الأزرق، وبات السلطان هناك، وكان قضيم الخيل في تلك الليلة ورق البلوط إلا من أمست عناية الله له بيسير شعير محوط، ورحل السلطان ونزل كينوك المقدم ذكرها، وعدل إلى طريق مرعش فزال بحمد الله عقاب تلك العقاب.
وقالت الأنهار المتلقية لكل منا أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب [1] ، ونزلنا قريب قلعة خراب، تعرف بالاسكركيس إلى جانب نهر يعرف بالخان، ثم رحل السلطان قريب بركلوجا من بلاد مرعش ثم رحل فنزل عقبة مرى أحد دربندات سيس إلى جانب النهر الأسود، ورحل فنزل قبالة دريساك، ورحل فنزل قبالة حارم، فنزل قريب منزله الذي كان به فيما تقدم، وألقى عصا النسيان، وقال لأهل الخيام هذه الخيام ولأهل هذه الدرار هذه الدر.
هذه الرسالة كافية في كثير من أحوال الروم، وفيما ذكره عن دخل هذا الوزير ومن له المماليك غير بقية من لعله يكون له من الجند والأتباع ما يعرف به عظم
[1] إشارة إلى قوله تعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ
[ص، الآية: 42] .
شأن هذه المملكة ووفور دخلها ووفود السعود إلى محلها، وتستر أبناء الزمان من عين دهرها بظلها.
ولو قد اجتمعت هذه البلاد لسلطان واحد، وكفت بها أكف المفاسد، لما وسع ملوك الأرض إلا انتجاع سحابه وارتجاع كل زمان ذاهب في غير جنابه، وهذا الذي ذكره، دخله الملك الظاهر بيبرس من بلاد الروم، وهو بعض ما لبيت جنكيز خان وهو من جلالة المقدار، وكثرة المال، على ما قد أشرنا إليه، فكيف جميع ما هو الخليج القسطنطيني (المخطوط ص 154) إلى بحر نيطش.
الله أكبر أن ذلك فلك عقيم، وسلك نظيم وسلطنة كبرى ودنيا أخرى، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم [1] .
وأما ما نحن بصدد ذكره من ممالك الأتراك في الروم، فقد حدثني الشيخ حيدر العريان السبر حصري الرومي، وهو من أهل مدينة سبر حصر من بلاد الروم، مما هو في أيدي ملوك بيت جنكيز خان، قال: إن لهؤلاء أمراء الأتراك نقود ألا يخرج نقد واحد منهم في بلاد الآخر، ودرهمهم في الغالب في تقدير نصف وربع درهم من نقدنا، والرطل مختلف عندهم، وأكثرها بالتقريب زنة اثني عشر رطلا بالمصري، وأقلها زنة ثمانية أرطال.
قال: وأما الغلات فتباع بكيل لهم يعرف بالوط، وهو يجيء تقدير أردب ونصف بالمصري.
قال: وهذه البلاد بل الروم جميعه فيه من أنواع الفواكه. كلها إلا الحوامض كالليمون والنارنج وما لا يوجد في الصرود كالرطب والموز، وقد يوجد ما قل من الحوامض في بعضها مما هو على ساحل البحر.
[1] إشارة إلى قوله تعالى:
…
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
[الحديد، من الآية:
21] .
وأما الدواب والسوائم فأكثر من أن يقع عليها إحصاء أو حساب من الخيل والغنم والبقر، وأعظمها عددا وأنماها ولدا الغنم، فإنها تبسط فرش الأرض منها المعز الموغر ذوات الأوبار المضاهية لأنغم الحرير، وغالب قنية أهل الشام وديار بكر والعراق وديار العجم، وذبائحهم مما يفضل عنها، ويجلب إليها منها، وهي أطيب أغنام البلاد لحما، وأشهى شحما، وبها العسل المضاهي للثلج بياضا، والسكر في اللذاذة طعما، لا حدة فيه ولا إفراط حلاوة توقف الأكل.
والأسعار كلها بالروم رخيصة لأسباب منها قلة المكوس وكثرة المراعي المباحة، واتساع سبب التجارة، واكتتاف البحر.
قال: وقيمة الغلات بها دون قيمتها بمصر والشام.
وقيمتها أو مثلها في الغالب، فأما اللحم واللبن على اختلاف أنواعها فرخية رخيصة، أما الغنم فخيار رأس يكون لا يجاوز (المخطوط ص 155) اثني عشر درهما من دراهمهم، يكون بنحو تسعة دراهم من دراهمنا إلى ما دون ذلك.
وأما اللبن وما يعمل منه فما هو مما يسأل عنه بكيف؟ 1 لكثرته، وأما في زمن الربيع فإنه لا يوجد له من يشتري ولا من يبيع لأنه لا يكاد يخلو أحد في الروم من أغنام تحلب له اللبن فلا يحتاج ليشتريه، ولا يحتاج إليه فيبيعه له.
قال: وأما العسل فلا تتجاوز الرطل ثلاثة دراهم برطلهم وهو ذلك الرطل الكبير، ودرهمم وهو ذلك الدرهم الصغير، وأما الفواكه في أوانها حكم الألبان في زمان الربيع.
وقال: وبلاد الروم إذا غلت وأقحطت كانت بسعر الشام، وإذا أقبل أرخص.
قال: ومع نواب بيت جنكيز خان بالروم ثلاثة معادن فضة أحدها بأراضي مدينة لؤلؤة، والثاني بأراضي مدينة لبن، والثالث بأراضي مدينة باجرت.
قال: وهي إلي أن فارقتها في حدود سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، عماله
مستمرة تستخرج الفضة الخالصة بها.
قال: والروم شديد البرد، لا يوصف شتاءوه إلا أن سكانه تستعد له قبل دخوله، وتحصل ما تحتاج إليه، وتدخره في بيوتها، وتستكثر من القديد والأدهان والخمور، فتأكل طول مدة الشتاء تلك الأيام بهنية العيش عندهم ولا تخرج من بيوتها، ولو أرادت ذلك لما قدرت حتى تذوب الثلوج، فتخرج إلى معايشها.
وذكر هذا الشيخ حيدر العريان أن جملة ممالك الأتراك بالروم أحد عشر مملكة غير ما بيد بيت جنكيز خان، وهذا هو خلاف ما تبين على ما سنذكره نقلا عن يليان الجنوبي ويليان أدرى.
فأما ما عده العريان من ممالك الأتراك فهو مملكة انطاليا [1] ، وصاحبها خضر بن دندار [2]، وقال: أن لصاحبها مدينة افنيكا [3] ، وأميرها الذي هو بها الآن من قبله، وهو من أولاد منتشا، وقال: إن عدة عسكره نحو أربعين ألف فارس.
قلت: ولهؤلاء بني دندار إلى ملوك مصر انتماء، ولهم من (المخطوط ص 156) تحف سلاطينها نعما، وكان بمصر منهم من له إمرة فيها، ثم عاد إلى بلاده بعد مهلك تمرتاش بن جوبان [4] لأنه كان قد ترك بلاده لأجله، وفر هاربا من يده لعداوة كانت قد اضطرمت بينهما شرورها، واضطربت أمورها، فلما خلت من مجاورة
[1] انطاليا هي أنطاليه وهي من بلاد الروم من أحسن المدن، متناهية في اتساع المساحة والضخامة، أجمل ما يرى من البلاد، وأكثر عمارة وأحسنه ترتيبا، فيها البساتين والفواكه وعيون الماء وهي غير أنطاكية (رحلة ابن بطوطة 189- 190) .
[2]
خضر بن دندار: هو خضر بك بن يونس بك (رحلة ابن بطوطة 191)، حكم من سنة 728 هـ- 776 هـ (انظر: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 229) .
[3]
أفنيكا هي مدينة الفنيكة على ساحل الخليج القسطنطيني وهي صغيرة لكنها حسنة مانعة، وكنائسها وديارها حسان والأنهار تخترقها والبساتين تحف بها (رحلة ابن بطوطة 231) وهي فنكة (معجم الأنساب والأسرات الحاكمة، زامباور أخرجه زكي محمد حسن وآخرون، القاهرة: 1951 ص 230) .
[4]
هو دمرطاش بن جوبان: فر إلى مصر، فأكرمه ملكها الناصر، وأعطاه الإسكندرية، فأبى من قبولها وقال: إنما أريد العساكر لأقاتل أبا سعيد وأظهر أمورا أوجبت قتله (رحلة ابن بطوطة 153) .
تمرتاش تلك البلاد، عاد وأخبرني يليان الجنوبي الآتي ذكره، أنه قتل هناك، وما استقر له حال، ولا سلمت له بلاد.
ومملكة رملاش [1] بلاد ابن منتشا [2]، وقال: عسكره لا يزيد عن ثلاثة آلاف فارس.
ومملكة بركري [3] بلاد محمد بن ايدين [4] ، وأن عسكره نحو عشرة آلاف فارس، وهذا ابن آيدين ما أعرف بأن له من حوله من ملوك الممالك الماما، ولا أن له أخيارا ترد طروقا ولا لماما، بل هو في عزلة من كل جانب، ولا مخالط ولا مجانب.
ومملكة كاس برديك [5] بلاد صاروخان، قال: وعسكره إذا جمع بقارب ثمانية آلاف فارس.
ومملكة بالي كسرى [6] بلاد دمرخان بن قراشي [7] قال: وله مدينة كردما وبينهما يومان، وأمير كردما من قبيلة واسمه سبغا، قال: وهذه البلاد محصنة منيعة، ولها أقطار رخية وسيعة، ومع هذا فعسكره قليل ضئيل، لا يجاوز مائتي فارس، لكنه مطمئن بمنعة بلاده، ولا ينافسه فيها منافس.
[1] هي مملكة بيلاس ومدينتها ميلاس من أحسن بلاد الروم وأضخمها، كثيرة الفواكه والبساتين (رحلة ابن بطوطة 194) .
[2]
هو شجاع الدين أرخان بك بن المتتشا من خيار الملوك حسن الصورة والسيرة (رحلة ابن بطوطة 195) .
[3]
هي بركي (انظر: رحلة ابن بطوطة 199- معجم الأسرات الحاكمة 227) .
[4]
محمد بن آيدين من خيار السلاطين وكرمائهم وفضلائهم (رحلة ابن بطوطة 199) حكم في بركي وأربا وصرت وكوشك وآقجشهر وأماكن أخرى سنة 734 هـ (معجم الأسرات الحاكمة 227) .
[5]
وهي مملكة مغنيسة وسلطانها صارو خان من سلاجقة أوج أميرا (معجم الأسرات الحاكمة 226) ومغنيسة مدينة كبيرة حسنة في سفح جبل وبسيطها كثير الأنهار والعيون والبساتين والفواكه (رحلة ابن بطوطة 203) .
[6]
هي مملكة بلى كسرى وهي مدينة حسنة، كثيرة العمارات مليحة الأسواق (رحلة ابن بطوطة 204) وهي باليكسر وتابعة لبني قراس (معجم الأسرات الحاكمة 225) .
[7]
سلطانها دمور خان ولا خير فيه (رحلة ابن بطوطة 204) .
ومملكة بلاد أورجادين عمان قال: وعسكره خمسة وعشرون ألف فارس، وهو مجاور الخليج القسطنطيني، وبينه وبين صاحب القسطنطينية الغلب، ولها في صدور الروم سهام تشق صدور القلب، ولهذا يداريه ملك الروم على مال، يحمله إليه كل هلال، قال: ولقد جاز البحر مرة إلى بلاد النصارى، وعاش في نواحيها، وشد على بطارقتها [1] لا فلاحيها، وألقى علوجها بحيث تعتلج سيول الدماء، وتختلج سيوف النصر (المخطوط ص 157) من الأعداء، أمده الله بتأييده، وأذلّ رخم الكفر بعقبان صناديد.
ومملكة كرميان [2] بلاد أرغدشار [3]، قال: كرسي مملكة كوناي، قال:
ومالكها الآن كرميان بن غدشار، هكذا قال الشيخ حيدر العريان، وهو أمير مطاع، وقائد جيوش لبوارق سيوفهم متاع، وأمراء الأتراك تتقيه ببذل كل منهم في متاقاته ما استطاع، قال: وعسكره يقارب أربعين ألف فارس، وهم فوارس وغي، وفوارع عليا لا تبتغي.
مملكة كرداله [4] بلاد شاهين، قال: وعسكره نحو خمسة آلاف فارس.
ومملكة كونيك حصار بلاد أمير جاكو، قال: وعسكره ثلاثة آلاف فارس.
ومملكة كصطمونيه [5] بلاد سليمان باشا [6]، قال: وصاحبها الآن إبراهيم بن
[1] بطارقتها جمع مفرده بطريق وبطرك وبطريرك وهو مقدم النصارى ورئيس رؤساء الأساقفة (المعجم الوسيط 1/63) .
[2]
بكوتاهية واوشاق وقولا وبازار وصارى كيوك (معجم الأسرات الحاكمة 227) .
[3]
زكرزمباور إنه محمد بن يعقوب والذي حكم ما بين 706 هـ إلى 779 هـ (معجم الأسرات الحاكمة 227) .
[4]
كرده بولي (معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 223) .
[5]
وهي قسطموني وسينوب وبرغلد وحاكمها هو غياث الدين إبراهيم بن سليمان حكم 740 هـ وبعده يعقوب بن تمر 742 هـ (معجم الأنساب وكصطمونيه من أعظم المدن وأحسنها، كثيرات الخيرات، رخيصة الأسعار (رحلة ابن بطوطة 210) .
[6]
سليمان باشا السلطان المكرم، حسن الوجه، طويل اللحية صاحب وقار وهيبة يجالسه الفقهاء والصلحاء
سليمان باشا [1] ، وله مدن وقلاع، ومن مشهور ماله منية سنوب، وأميرها من قبله، واسمه غازي جلبى، وبودي وأميرها مراد بك.
قلت: وصاحب كصطمونيه ممن له بملوك مصر اتحاد، وبينه وبينهم مكاتبات ووداد ونحوه على ما يقال لنا ويبلغنا نحو ثلاثين ألف فارس أو يزيدون، وببلاده الخيل المخاص الرومية الفائقة، المفضل بعضها على كل سابق من الخيل العرّاب، وهي بيوت مشهورة مثل خيول العرب، بأنساب محفوظة وأحساب ملحوظة، ويغالى في أثمانها، خصوصا في مكانها حتى أن قيمتها لتبلغ قيمة ألف دينار ذهبا، ومنها ما يتجاوز هذا المقدار ويزيد قيمته على ألف دينار، ولا يستكثر من يعرفها فيها بذل مال، ولا يستغلى اشتطاط السوم، وإذا قصد في بلاد الروم بيع اكديش [2] خال منها بالثمن الغالي، قال: هذا كصطموني يشرفه بهذا الوسم، وينفقه في البيع تجاه هذه النسبة.
ومملكة أرمصال [3] وهي بلاد ابن قرمان [4] ، وصاحبها الأمير محمد بن قرمان، من أهل بيت توارثوا (المخطوط ص 158) هذه البلاد، ولا يخاطب قائم منهم إلا يأمره، وفي ساحل بلاده مدينة العلائية المعروفة على ألسنة الناس بالعلايا، وأميرها من قبله اسمه يوسف، وله مدينة وهي عنه على ثلاثة أيام، وأميرها من قبله واسمه إسحاق بك، ولأولاد قرمان عصبة ذات أيد ويد وجيوش كثيرة العدد، وهم أصحاب
(رحلة ابن بطوطة 211) .
[1]
إبراهيم بك ابن السلطان سليمان هو ولي عهد سليمان ووالي مدينة حينوب (رحلة ابن بطوطة 212، انظر: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 225) .
[2]
أكديش يجمع أكاديش وهي نوع من الخيول تجلب من آزاق ببلاد الروم، والأكاديش معروفة في مصر وهي كالغنم في تلك البلاد (رحلة ابن بطوطة 218) .
[3]
أرمصال هي بلاد العلايا، وهي أول بلاد الروم ومن أحسن الأقاليم، وجمع الله فيه ما تفرق من المحاسن في البلاد فأهله أجمل الناس وأنظفهم وأطيبهم مطاعم (رحلة ابن بطوطة 188) .
[4]
ابن قرمان هو والد يوسف وإسحاق وقد كانا في فترة رحلة ابن بطوطة (انظر: الرحلة ص 188- 189) وكانوا في لارنده وسيواس وقونية وأرمناك (معجم الأنساب 236) .
الحروب التي ضعضعت الجبال، وأنتجت الحرب الحيال، ولهم مع الأرمن وبلاد التكفور [1] وقائع لا يجحدها إلا الكفور، تتخطفهم عقبانه القشاعم، وتلتهم أسوده الضراغم.
ببلادهم معدن حديد، لهم به بأس شديد، ومنه درق مديد، وهم أهل بيت ألقى الله عليهم محبة منه، وإذا شاء أميرهم جمع أربعين ألفا، وهو ما هو عليه، يدارى ملوك التتار، وهواه هو ومن سلف من أهل بيته مع ملوك مصر، لا تغب المكاتبات بينهم، ولا ينقطع بذل خدمته لهم، وإقبالهم عليه، واعتدادهم بموالاة، وقد كان منهم من قد طلب تقليدا بمصر بإتيائه ما بيده من بلاد الروم، فكتب له، ثم أن سلامش الحاكم بالروم كان انحرف عن سلاطين بيت هولاكو، وكتب إلى الأبواب السلطانية بمصر يسأل تقليدا بملك حكم الروم أجمعه، وأن تكون أولاد قرمان ومن سواهم في طوعه، فكتب من إنشاء شيخنا أبي الثناء محمود بن سلمان بن فهد الحلبي الكاتب رحمه الله، ومنه وبعد فإن أولى من أصغت عزائمنا الشريفة إلى نداء إخلاصه، وأجابت مكارمنا العميمة دعاء تميزه بالولاء واختصاصه، وقابلت مراسمنا استنصاره في الدين بالنفير لإعانته على ما ظفر باقتلاعه من يد الكفر، واقتناصه (تكرار من أول وقابلت إلى اقتناصه) وتكفلت له مهابتنا بالأمن على ملك مذ وسمه باسمه الشريف، يئس العدو من استخلاصه، وأتت كتبه (المخطوط ص 159) في الاستنجاد ليرعان الكتائب، ولمعان القواضب، وتتابع إمداد جيوشا التي ستنوء بحملها كواهل المشارق والمغارب، وتدفق أمواج عسكرنا الذي ينشد طلائعها ملوك العدى أين المفر؟ ولا مفر لهارب وتألق بروق النصر، من خفق ألويتنا، الشاهدة بأن قبيلنا إذا ما التقى الجمعان أول غالب، وفوضت إليه مراسمنا الحكم بالعدل والإحسان، وقلدته أوامرنا من عقود النظر في تلك الممالك ما تود جباه الملوك لو حلت بدره معاقد التيجان، وعقدت به من الأوامر ما تنفذ بنا
[1] وهو تكفور بن السلطان جرجيس (رحلة ابن بطوطة 232) .
مواقعه، وكذا الأمور المعتبرة ما تنفذ إلا بسلطان من ألقى الله الإيمان في قلبه وهداه إلى دين الإسلام، فأصبح على بينة من ربه، وأراد به خيرا فنقله من حزب الشيطان إلى حزبه، وأيقظه من طاعتنا التي أوجبها على الأمم لما أبصر به رشده، ورأى قصده، وعلم به أن الذي كان فيه كسراب بقيعه [1] ولم يجده شيئا، وأن الذي انتقل إليه، وجد الله عنده وأنهته من موالاتنا بما حتم به النهوض على من كان مسلما وأخرجه بنور الهدى من عداء أعدائه الذين تركهم خوفنا، كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما، وأراه الرشد ما علم به أن الله تعالى أورثنا ملك الإسلام، فبطاعتنا يتم الانتماء إليه، وأعطانا مقاليد البسيطة، فمن اغتصبت منها شيئا [2] ، انتزعه الله بجنوده المسومة من يديه فلجأ من أبوابنا العالية إلى الظل الذي يلجأ إليه كل ذي منير وسرير، ورجاء من كرمنا الاعتصام بجيوشنا التي مارمينا بها عدوا إلا ظن أن الرمال تسيل (والجبال تسير [3] ) وتخير منا إلى فئة الإسلام، وانتصر بسيوفنا التي هي تعلم كيف يسلمها على الأحلام، ومتّ إلينا بذمة الإسلام، وهي أبر الذمم، وطلب تقليده الحكم منا من معادنه إذا رأته النظرات الصادقة أن كان يسحب الشحم فيمن تحمه ورم، وعقد بنا رجاؤه، وهل لمسلم من ملك الإسلام من معدل (المخطوط ص 160) وأنزل بنا كتائب آماله، وهل تعد راحة لرام من منزل فتلفت نغمها كرائم قصده بالترحيب، وأحلت وفادة انتمائه بحرمنا الذي شاءه بعيد ونصره قريب، وتسارعت إلى نصرته جنودنا التي هي مشهورة في عددها، وآثارها، مشكورة في رواحها وغدوها، وأعلامها منصورة في انتزاحها ودنوها، وتوالت تبايع بعضها بعضا، تتابع الغمام المتراكم، والموج المتلاطم، وتقدم غلبه بالنصر القريب من الأمد البعيد، وتعلم بوادرها أن طلائعها عنده، وبانيها
[1] إشارة إلى قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ
[النور، الآية: 39] .
[2]
ترد بالمخطوط شياءا.
[3]
ما ورد بين القوسين جاء بالهامش.
بالصعيد، ولما كان فلان هو الذي أراد الله به الخير، ما أراد، ووطد له بعنايته أركان الرشاد وشاد وجعل له بعد الجهل به علما، وتداركه برحمته فما أمسى للإسلام عدوا، حتى أصبح هو ومن معه سلما، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، وبكرمه العميم فليستفتحوا صدورهم ويشرحوا وبإرشاده الجلي وهدى نبيه فليدعوا قومهم إلى ذلك وينصحوا، وحين وضحت له هذه الطرف أرشدته من خدمتنا الشريفة إلى الطاعة، وبادلته على مولاة ملك الإسلام التي من لم يتمسك بها فقد فارق الجماعة، فإن الله تعالى قرن طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بطاعة ولي الأمر، وحث على ملازمة الجماعة في وقت يكون التمسك فيه بدينه كالقابض على الجمر [1] وهذا فعل من أراد الله به خيرا وسعى من يحسن في دين الله سيرة وسيرا، ولذلك اقتضت آراءونا الشريفة إمضاء عزمه على الجهاد بالانجاد، وانقاذ سهمه في أهل العناء بالإسعاف الإسعاد، وأرسلها الجيوش كما تقدم شرحه يطأون الصحاصح، ويستقربون المدى النازح ويأخذون كل كمى، فلو استطاع السماك لم يتسم بالرامح، ويحتسبون النفقة في طلب علو الإسلام علما أنهم لا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم به عمل صالح، فرسم بالأمر الشريف لا زال يهب (المخطوط ص 161) الدول ويقلد أجياد العظماء ما تود لو تحلت ببعض فرائده تيجان الملوك الأول، أن يفوض إليه نيابة المملكة الرومية تفويضا، ليصون قلاعها ويصول به على من حاول انتزاعها من يده، واقتلاعها، ويجرها على ما ألفت ممالكنا، من أمر لا يروع سربه، ولا يكدر شربه، ولا يوحد فيه باغ يخاف السبيل بسببه، ولا من يجرد سيف بغى وإن جرده قتل به، وليحفظ من الأطراف ما استودعه، وهذا التقليد حفظه، وليعمل في قتال مجاوريه من العد [2] ،
[1] إشارة إلى الحديث النبوي الشريف: «القابض على دينه كالقابض على الجمر» (انظر: الحديث في مسند أحمد بن حنبل 2/290) .
[2]
وردت بالمخطوط بالعدى.
بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً
[1]
، وليعلم أن جيوشنا في المسير إليه متى قصد عدوا، سابقت خيولها خيالها، وجادت جيادها طلاها، وأنفت سنابكها أن تجعل غير جماجم الأعداء نعالها، وها هي قد تقدمت وأقدمت، ونهضت لإنجاده، فلو سامها أن تخوض البحار في سبيل الله لخاضت، أو قصد الجبال لصدمت، والشرع الشريف مهمة المقدم، وأمره السابق على كل ما تقدم، فليعل مناره، وليستشف في أموره وأنواره، وينقذ أحكامه، ويعضد حكامه، ومن عدل عن حكمه معاندا، أو ترك شيئا من حكمه جاحدا فقد برئت الذمة من دمه، حتى يفيء إلى أمر الله، ويرجع عن عناده وينيب إلى الله، فإن الله يهدى إليه من أناب وهو الذي يقبل التوبة عن عباده.
[1] جزء من الآية 123 من سورة التوبة 9.
(وكان من حديث هذا اسلامش المذكورة) إن السلطان محمود غازان قصد أعداءه [1] فأراد الانحياز إلى الشام، وكاتب الملك المنصور لاجين [2] ، فأرسل شخصا من جهته يعرف بالمخلص الرومي، فأقبل السلطان وأرباب الدولة عليه، وقيل إنّا لا نكره من هاجر إلينا، واتصل بالسلطان محمود غازان مراسلة المصريين، فبعث إليه عسكرا لمحاربته، فالتقوا معه ببلاد الروم، فلما التحم القتال خامر عليه (المخطوط 162) بعض من كان معه، فبقى في قل من أصحابه، وحقت عليه الهزيمة فالتحق بالشام في قل من جيشه، فلما أتى حلب جهز معه من يحضره إلى الأبواب السلطانية بمصر، فلما وصل عومل بالإكرام، وعوجل بالإنعام وخير في المقام بمصر إن شاء أو الشام، فذكر أنه ترك وراءه ماله وأهله وأولاده، وسأل تجريد عسكر لإحضارهم ليقيم بالبلاد الشامية، مقطوع الالتفات عما سواها، فجهز معه من العسكر الجلو [3] طائفة مع بكتمر الجلمى، دخل بهم بلاد الروم على بلاد الأرمن.
وبلغ متملك سيس الخبر، وكان عنده طائفة من التتار فأمسكوا عليهم الدروب، وعاجلوهم باللقاء فما كان بأسرع من أن قتل الجلمى، وفر سلامش، ولجأ إلى قلعة من قلاع الروم، فأرسل السلطان محمود غازان في طلبه، فأحضر إليه، فقتله شر قتلة، وذبحه على غير قبلة.
وكان سلامش قد خلف بالأبواب السلطانية بمصر أخا له اسمه قطقطو والمخلص
[1] وردت بالمخطوط أعدائه.
[2]
المنصور حسام الدين لاجين المنصوري، نائب السلطان قلاوون بدمشق سنة 678 هـ تولى السلطنة سنة 698 هـ ولمدة سنتين (انظر: فضل الله بن أبي الفخر الصقاعي في تالي وفيات الأعيان تحقيق جاكلين سوبلة من منشورات المعهد القرنسى للدراسات العربية دمشق 1974 ص 132، المنجد في الأعلام، الشيخ عبد الله العلايلي وآخرون بيروت 1987 طبعة 15/ص 546) .
[3]
العسكر الجلو: عسكر الطليعة وجلو هي الطليعة من اللغة الفارسية (فرهنگ رازي 200) .
الرومي، فاستقرا بها، وأقطعا إقطاعا بها، وأجرى عليهما راتبا فيها.
وإنما ذكرنا حديث سلامش في هذا المكان لتعلقه بالروم، ولأن أمراء بني قرمان هم كانوا المؤلفين بينه وبين المنصور لاجين، والداخلين معه أولا وآخرا فيه وهؤلاء أولاد قرمان هم الذين لا يرتاب في رأيهم، ولا يظن في دينهم، فمهما ورد من جهتهم تلقى بالقبول، وحمل على أحسن المحامل.
وكذلك طلب ارتنا [1] تقليدا ناصريا بنيابة الروم، وتردد في هذا سراج الدين قاضي قيسارية فكتب له، فخلص الموالاه، وأقام دعوة الخطبة الناصرية. على منابر البلاد الرومية، وضرب السكة بالاسم الشريف وجهز معه الدراهم المضروبة وذلك كله أظهر طاعة لا إذعان لحكم، ولقد حدثني من تردد إليهم، وعرف ما هم عليه، أنهم رجال صدق، وقوم صبر لا يستخف لهم حفيظة، ولا يرد بحنقها لهم صدور مغيظة، ولهذا أمراء الروم لا يطأون لهم موطئا بغيظ، ولا يواطئون لهم عدة شهور (المخطوط 163) مشتى ولا مغيظ، وما أحد ممن يحسدهم على ما أتاهم الله من فضله إلا من يستجيش عليهم بالتتار، ويعدد عليهم عظائم الذنوب الكبار، ووقاية الله تكفيهم، وحياطته عن عيون القوم تحفظهم.
ولقد كان السلطان محمود غازان يقول أنا أطلب الباغي [2] شرقا وغربا، والباغي في ثوبي، عن أولاد قرمان، ومع هذا لم يسلط عليهم.
وحكى لي الصدر شمس الدين عبد اللطيف أخو النجيب أنه قال يوما لولا الأكراد وأولاد قرمان وتركان الروم دست بخيلي مغرب الشمس، قال: وكان لا يريد
[1] أرثنا: أمير بلاد التركمان المعروفة ببلاد الروم أيضا (رحلة ابن بطوطة 154) وبنو أرثنا كانوا بسيواس وقيصرية ونيكده وأماسية وقراصار وكمش وقد حكم علاء الدين أتنا بن جعفر سنة 736 هـ واستقل بسيواس بعد موت أبي سعيد بهادر وخلفه غياث الدين محمد أرثنا سنة 753 هـ (معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 232) .
[2]
الياغي كلمة تركية بمعنى المتمرد (فرهنگ رازي 1034) .
بعد الشام إلا هم، ومع هذا ما قدر عليهم، ولولا خلا وجهه لما انصرف إلا إليهم.
ولما استفحل أمير جوبان بك [1] بمملكة إيران، وكان هو حقيقة السلطان، واستولى ابنه تمرتاش [2] على الروم، وانتزع به عدة ممالك، وجد في طلب الباقي، رأت أولاد قرمان مصافاة أبيه جوبان، واستدفعت به شرايينه طول ذلك الزمان مع ما كان لهم من العناية الإلهية، والإعانة من سلطاننا أعز نصره، ولولا هذا لأتى عليهم، وسلبوا النفس والنفائس لما كان عند جارهم الجائر من الاستعداد، لموالاة التكفور متملك الأرمن، لرفع الشكوى عليهم في كل وقت، وتضرره مما ينوب أهل بلاده منهم، وتضرره مما ينوء به من ثقل وطأتهم، وكانوا في تلك السنين خائفين، يترقبون المصابحة والمماساة، وينتظرون البيات والمقيل.
قلت: ولأهل هذا البيت روعة في قلوب التكفور والأرمن، وفي كل بيت يبعث التكفور يسأل بروز المراسم المطاعة إلى أميرهم بالكف عن بلاده، وهو لا يتعمد سيف جهاده، لا يرعى للأرمن حق جواره، ولا يدخل في سمعه لضجيجهم جواءر، يشن عليهم في كل وقت غاراته، ويجوس خلال ديارهم جيوشه وسراياه، وكرسيه مدينة أرمناك على ذروة جبل.
أرزاقه متسعة وجيرانه كثيرة، وبينها وبين العلاية ثلاثة أيام، وقد يحكى عن أميرهم القائم الآن بدر الدين أنه افتض ألف بكر (المخطوط ص 164) .
ويوصف من كرمه أنه يطلق على كل ما يملك من صامت وناطق حتى أنه لا يدع له شيئا البتة، ثم يتحول فإذا أثرى أطلق كل ما يملكه حتى لا يدع له شيئا،
[1] كان جوبان أمير الأمراء في عهد السلطان أبي سعيد بهادر خان، وقد استولى على الأمر، وحجر على تعرفات السلطان حتى لم يكن بيده من الملك إلا الاسم، وكان ابن جوبان المسمى خواجه يفتك بحريم والد السلطان، فقتل أبو سعيد ابن الجوبان وثار جوبان وأولاده وقتل والي خوارزم جوبان وولدا له (رحلة ابن بطوطة 152- 153) .
[2]
هو دمرطاش بن جوبان وكان قد فر إلى مصر وقتل هناك (رحلة ابن بطوطة 153) .
هكذا دأبه، وبهذا يعرض على الله حسابه.
قلت: ولقد وصل من سنين أخواه الأمير بهاء الدين موسى ابن قرمان إلى الحضرة السلطانية، وأقام مديدة بالباب الشريف ثم توجه لأداء فريضة الحج، وعاد إلى الحضرة، وحرك العزائم الشريفة على الأرمن، وارتجاع ما يلي الممالك الإسلامية من نهر جهان، ثم عاد إلى بلاده، وعومل بالجميل في إصداره، وإيراده، وأجلس أكابر الأمراء، أمراء المشورة، وأجرى في تكبير القدر مجراهم، وطلب منشورا سلطانيا ببلاد من مملكة التكفور، تولى سيفه انتزاعها واستعاد ضالتها من أيديهم وارتجاعها فكتب له على ما طلب، وما أخذها إلى الآن، ولكنه في الطلب.
هذه جملة بمعنى ما ذكره العريان وما انساق في تبيانها من أمور هذه البلاد.
وأما ما ذكره بلبان الجنوى عتيق الأمير الكبير بهادر المعزى، وهو ممن له الخبرة التامة بما يحكيه، وهو الذي أفاد كيفية تصوير هذه البلاد، واسم هذا بلبان في بلاده دوما نوكين دور بابن بادا دور بار هو من بيت حكيم في جنوة [1] ، اتفق أنه جمعت بيني وبينه المقادير في الاعتقال وعنه أحدث ما قال.
حدثني أن هؤلاء أمراء الأتراك الذين بالروم الآن أبناء أمرائها الأول، وممن تأخر عن سالف تلك الدول، وهم فيها إلى يومنا هذا من بقايا تلك البقية وممن فصحت عنهم برود الأيام السلجوقية، استقر بأيديهم الجبل، وبأيدي بيت هولاكو السهل، وجميع هؤلاء الأمراء الأتراك تقر لصاحب كرمان، وتذعن له بعض الإذعان، وتجريه في كثير من أحوالها مجرى السلطان، وتعترف له بالتقديم، وله على بعضهم مقرر لا ينقص، وعلى بعضهم هدايا بحسب الأوقات.
(المخطوط ص 165) وهو في ظاهر الحال فيهم الملك المطاع، والبقية له أتباع، أو كالاتباع، تكاتبه في معضلات الأمور، وتتيمن برأيه ويقوي بعضهم على بعض
[1] كان أهل جنوه أهل سفر وترحال لهم حي في القسطنطينية.
بمعاضدته [1] ، وتسر بخلعه وإنصافه وتقاليده وتكريماته، وهو وإن لم يقدر على إمضاء الولاية والعزل فيهم، فإن له عندهم مكانة لا يجهل مقدارها، وغاية لا ينازع فيها، ومع هذا ففي أمره معهم شبه بأواخر الخلفاء مع ملوك البلاد، يلزم معه قاعدة الأدب في مخاطبتها لتعظيم، وهو مع من غلب أو كحال آل سامان في آخر الزمان، وهو أوسع الكل بلادا أو أكثر الكل رعايا وأجنادا.
وأما ما هو لبيت جنكيز خان فإنه لم يزل بأيدي نوابهم مع بقايا السلاجقة من غير زيادة عليه، ولا نقص منه، وبينهم وبين هؤلاء الأتراك مداهنة لا مهادنة، حتى حكم تمرتاش بن جوبان فاستضاف من ممالك الأتراك إليه، ما يلفت قدرة سيوفه، وهو جانب كبير، وممالك لها قدر جليل فمن ذلك
…
مملكه ابن شرف [2] وموقعها في شمال الروم غربي مملكة أولاد درندار [3] ، وجنوبي بلاد ابن قرمان، وشرقي بلاد بيت جنكيز خان بشمال، وكانت مستقلة بذاتها، وكرسيها بكسرى، وعساكرها تتناهز سبعين ألف فارس هم إلى الآن.
وتجمع هذه المملكة خمسة وستين مدينة ومائة وخمسة وخمسين، أمسك تمرتاش [4] صاحبها، وقتله، ومثل به، وقطع ابنيه، وعلقهما في عنقه.
وكذلك مملكة ابن طرغت، وهي غربي ابن أشرف وكرسيها قراصار [5] ، وله مدينة سكنجر، وعسكره خمسمائة فارس.
[1] وردت بالمخطوط بمعضادته.
[2]
وكانت في آقشهر وسيدي شهرى بكشهري (معجم الأنساب ب 231) .
[3]
كانت مملكة أولاد درندار في مدينة أكريدور وهي على مسافة يومين من آقشهر وكان سلطانها في عهد ابن بطوطة القريب من عهد ابن فضل الله هو أبو إسحاق بك بن الدرندار بك (رحلة ابن بطوطة 191) .
[4]
رواية ابن فضل الله العمري تختلف عن رواية ابن بطوطة، فعند العمري صار تمرتاش صاحب مملكة، وعند ابن بطوطة أنه قتل في مصر.
[5]
قرا حصار استولى عليها أحمد بن محمد سنة 730- 750 هـ (معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 223) .
وكذلك بلاد شجاع الدين أعزلو، ومدنها لوليا وكمش سار، وعسكره يزيد على عشرين ألف فارس، وموقع بلاده هذه غربي ابن طرغست، وبلاد عزلو هذه لم ينتزعها منه، بل أبقاها بيده، كأنه من قبله، وهذه كمسر سهرهى ذات معدن يخرج منه الفضة هذا ما ذكره هذا (المخطوط ص 166) بلبان.
وأما ما ذكره العريان، فإنه قال: يخرج من لوليا وقد تقدم ذكره
…
وكذلك أخذ بلاد طوعان جق وهي غربي طرابزون وجنوبي بلاد سليمان باشا، وبين كرمبان في مشاريق كرميان، ومغاريب سليمان باشا.
وكذلك أخذ بلاد يعقوب، وهي قيراسارى، وجار على كل مجاور، وكان تارة يصالب بالسيف وتارة يداور بالخديعة حتى دوخ الممالك، وفتح المعاقل، وامتدت أعماله، واتسعت شعوبه وكثر جباياته، وعظم خراجه، وقويت شوكته في ذلك الإقليم، وطلب في وقت الاستقلال بالملك.
وخطب لنفسه وضرب السكة باسمه، وهوى مثل ملك آل سلجوق أو أجل، وقام بهذا العبء واستقل، وقرر به تسع تومانات [1] من المغل، ومن التركمان مثلهم أو أكثر، وصار لا يقاوم ولا يقاول، ولا يحارب ولا يحاول، وما هذا موضع ذكره، وإنما ذكرناه لذكر ما بأيدي بيت جنكيز خان من الروم، وقد ذكرناه في موضعه.
وأما نفوذ هذه البلاد ومعاملاتها لتختلف في بلادها باختلاف حكامها، واعتيادها، والذي نذكره الآن ما هو بيد الأتراك الآن خاصة، وهو ست عشرة مملكة على ما ذكره بلبان الجنوي، وأجلها مملكة كرميان، وهي أقربها إلى ما بيد بيت جنكيز خان، وموقع كرميان منها شمالا يمتد شرقا بغرب، وما بأيدي بيت جنكيز خان جنوبها، وقد دارت عليها ممالك الأتراك من شرقها. فطاقت نطاقا وراء
[1] وردت بالمخطوط تمانات.
نطاق، فالنطاق الأول وهو الأقرب إليها المماس لحدودها من شرقيها ثلاث ممالك، أخذت من الجنوب إلى الشمال كأنها قوس، تفصل بينها وبين بلاد كرميان جبل ممتد على هذه الهيئة.
وأول هذه الممالك الثلاثة مما يلي الجنوب جبل القسيس وهو جبل عظيم منيع مشجر بأنواع الفواكه، وكل أشجاره مثمرة وفيه هذا الجبل وسفوحه مسكونة، ويمشي في طوله عدة أيام بغير زاد ولا ماء، فيه من كل الثمرات (المخطوط ص 167) رزقا من عند الله، لا بغرس غارس، ولا باحتجاز مالك، بل هو مباح لمن أكل وحمل، من سبق إليه اجتنى، ومن وضع يده على شيء من شجرة اقتنى، هو من عجائب الوجود، وغرائب ما من به إلا له المعبود، وفي أخريات هذا الجبل مملكة طغرلو في شماليه، ثم يليها في شماليها مملكة تواز، ثم يليها في شماليها مملكة عميد لي ثم تنتهي مملكة الأتراك هناك إلى ما كان بيد ابن أشرف وآخذة بيت جنكيز خان.
ثم يلي هذه الممالك على شرقيها النطاق الثاني، وهو اثني عشر مملكة آخذة عنها من الجنوب إلى الشمال كأنها قوس، يفصل بينها وبين تلك جبل ممتد على هذه الهيئة، فهذه خارج تلك الممالك الثلاثة، وتلك الممالك الثلاثة خارج كرمينان، وكرمينان خارج بيت جنكيز خان، وهذه الممالك الاثنا عشر التي أشرنا إليها أولها مما مال إلى الجنوب مملكة كصطمونية ثم يليها مملكة فاديا ثم يليها مملكة بعرشا، ثم يليها مملكة اكيرا، ثم يليها مملكة نيف، ثم يليها مملكة مغيسا، ثم يليها مملكة مرمرا، ثم يليها مملكة برلي، ثم يليها مملكة توله، ثم يليها مملكة انطاليا، ثم يليها ملكة قراصار، ثم يليها مملكة ازمناك، وها نحن نذكرها مفصلة.