الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن شيعة هذا السلطان طائفة تعرف بالإسماعيلية [1] مساكنهم «1» في مصياف [2] ، وما معها من قلاع الدعوة «2» على مسافة ما بين حمص وحماة، متصلة بالبحر الرومي إلى جانب طرابلس الشام [3] ، وهؤلاء هم الذين يسمون في بلاد العجم تارة بالباطنية وتارة بالملاحدة، وملخص معتقدهم التناسخ، وهم يسمون «3» أصحاب الدعوة الهادية، وهم شيعة الخلفاء الذين كانوا بمصر وتسموا [4] بالفاطميين [5] ، وكان قد انتهت رئاسة هذه الطائفة إلى راشد الدين سنان، وكان صاحب سماء «4» ، أراهم بها ما أضل به عقولهم من تخيل أشخاص، فمن مات على طاعة أئمتهم في جنات ونعيم، وأشخاص فمن مات على عصيان أئمتهم في النار والجحيم، وهم يعتقدون أن كل من ملك مصر كان مظهرا لهم، فلهذا تتوالاه هذه الطائفة، وترى ائتلاف نفوسها في طاعته لما ينتقل
[1] وهم الفداوية، وهم من اتباع الفرقة الصباحية الإسماعيلية وكان السلاطين يستأجرون هؤلاء الفداوية كما فعل سلطان مصر الناصر محمد بن قلاوون.
[2]
مصياف: حصن حصين مشهور للإسماعيلية بالساحل قرب طرابلس وهي مصياب (مراصد الاطلاع 3/1280) .
[3]
طرابلس الشام: إحدى قواعد الشام، وبلدانها الفخام، لها الأسواق العجيبة والمسارح الخصيبة، وهي تبعد عن البحر بميلين ويوجد طرابلس القديمة على البحر (انظر: رحلة ابن بطوطة 650، انظر: الضيا مراصد الاطلاع 2/882) .
[4]
الباطنية سموا بذلك لأنهم يفسرون القرآن الكريم تفسيرا باطنيا، وأن القرآن له ظاهر وباطن.
[5]
الفاطميون نسبة إلى فاطمة الزهراء، وقد أسسوا دولة في شمال أفريقية أمتدت إلى مصر والشام والحجاز وبغداد وانتهى أمرها سنة 557 هـ على يد صلاح الدين الأيوبي (انظر: روضة الصفا 219- 233، حركات الغلو والتطرف في الإسلام للمحقق 55 وما بعدها) .
إليه من النعيم الأكبر.
ولصاحب مصر بتشيع هؤلاء مزية يخافه بها أعداؤه لأنه يرسل من هؤلاء إليه من يقتله، ولا يبالي أن يقتل معه، ومن بعثه صاحب مصر إلى عدو له ليقتله فجبن قتله أهله إذا عاد، وإن هرب اتبعوه وقتلوه.
ولقد سألت المقدم عليهم والمشار إليه فيهم وهو مبارك بن علوان عن معتقدهم، وجاذبته في هذا الحديث مرات، فظهر لي أن هذه الطائفة ترى أن الأرواح مسجونة في هذه الأجسام المكلفة بطاعة الإمام المظهر على زعمهم، فإذا انتقلت على الطاعة كانت قد تخلصت وانتقلت للأنوار العلوية، وإن انتقلت على العصيان هوت في الظلمات السفلية وعقيدتهم أن عليا رضي الله عنه، كان المظهر ثم الانتقال منه، وليس هذا بمكان التطويل فيه «1» .
«2» وأكابر المدن المشورة بهذه المملكة قاعدة الملك الكبرى وهي القاهرة، وقد تقدم القول على أنها هي والقلعة والفسطاط ثلاث مدن صارت مدينة واحدة، وقوص والاسكندرية ودمياط، ودمشق وهي قاعدة الملك الثانية ثم بعلبك [1] ثم حمص «3» ثم حماه ثم حلب ثم طرابلس ثم صفد والقدس والكرك [2] وغزة [3]
[1] بعلبك: مدينة بينها وبين دمشق ثلاثة أيام، بها أبنية عجيبة وآثار عظيمة (مراصد الاطلاع 1/208) .
[2]
الكرك: قلعة حصينة جدا في طرف الشام من نواحي البلقاء، وهي على جبل عال (مراصد الاطلاع 3/1159) .
[3]
غزة: مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر، فيها مات هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم (مراصد الاطلاع 1/993) .
وتقدم القول على قلة والمدينة المعظمتين، وكيف دخولهما في المملكة على ما بيننا هناك.
أما قلعة الجبل فهي على نشز عال يسمى الجبل الأحمر من تقاطيع جبل المقطم «1» بناها قراقوش للملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب رحمه الله، ولم يسكنها حتى ملك أخوه العادل أبو بكر فسكنها، وهي مبنية على ذلك النشز، ترتفع في موضع منه وتنخفض في آخر، يدور بها سور حجر بأبراج وبدنات إلى أن ينتهى إلى القصر الأبلق الناصري المستجد بناؤه، ثم من هناك تتصل بدور الملك، ليست على أوضاع أبراج القلاع، يدخل إلى القلعة من بابين أحدهما؛ (المخطوط ص 237) بابها الأعظم مواجه القاهرة، والثاني ينفذ إلى القرافة، وبينهما ساحة فسيحة في جانبيها قبلة بشرق، وشمالا بغرب بيوت وبالقبلى سوق للمأكل، وينتهى من صدر الساحة إلى دركاه [1] جليلة يجلس بها «2» الأمراء حتى يؤذن لهم بالدخول «3» ، وفي وسطها باب القلعة يدخل منه في دهاليز فسيحة إلى ديار وبيوت ومساكن وإلى المسجد الجامع، وقد كان لا مسجد لضيق بنائه، فبناه هذا السلطان بناء متسع الأرجاء، متسع البناء، مفروش الأرض بالرخام، مبطن السقوف بالذهب، وفي وسطه قبة علية تليها المقصورة مستورة هي والرواقات بالشبابيك الحديد المحكمة الصنعة، ويحف صحنه رواقات من جهاته، ويمشي من دهليز باب القلة المقدم ذكره «4» في مدخل أبواب إلى رحبة فسيحة في صدرها الإيوان الكبير، المعد لجلوس أيام المواكب، وإقامة
[1] هي درگاه وتعني البلاط كلمة بهلوية) Dargah فرهنگ عميد 1/936) .
دار العدل، وبجانب الرحبة ديار جليلة، وفي محنته ممر إلى باب القصر الأبلق تليه رحبة صغيرة، يجلس هناك خواص الأمراء قبل دخولهم إلى الخدمة الدائمة، ويمشى من باب القصر في دهاليز إلى قصر عظيم البناء شاهق في الهواء بإيوانيين أعظمهما الشمالي يطل منه على الاصطبلات السلطانية ويمتد النظر إلى سوق الخيل والقاهرة وحواضرها إلى بحر النيل وما يليها من بلاد الجيزة وقراها.
وفي الإيوان الثاني القبلي باب خاص لخروج السلطان وخواصه منه إلى الإيوان الكبير في أيام المواكب، ويدخل من هذا القصر إلى ثلثه قصور جوانية منها واحد مسامت الأرض هذا القصر الكبير، واثنان مرفوعان يصعد إليهما بدرج في جميعها شبابيك حديد تخترق إلى مثل منظر القصر الكبير، وفي هذه القصور مجاري الماء مرفوعا من النيل بدواليب تديرها الأبقار من مقره إلى أخرى حتى ينتهي إلى القلعة ثم يدخل إلى القصور (المخطوط ص 238) السلطانية ودور أكابر الأمراء الخواص المجاورين للسلطان يجرى في دورهم، وتدور به حماماتهم وهو من عجائب الأعمال لرفعته مما يقارب خمسمائة ذراع من مكان إلى مكان، ويدخل من القصور الجوانية إلى حرم الحريم وأبواب الستور السلطانية. وهذه القصور جميعها من ظاهرها بالحجر الأسود والأصفر، مؤزرة من داخلها بالرخام والفص المذهب والمشجر بالصدف والمعجون والطرقات «1» وأنواع الملونات والسقوف المبطنة بالذهب واللازورد يخرق الضوء في جدرانها بطاقات من الزجاج القبرسي الملون كقطع الجوهر المؤلفة في العقود، وجميع الأرض بها مفروشة بالرخام المنقول إليها من أقطار الأرض مما لا يوجد مثله، فأما الأدر السلطانية فعلى ما صح عندي خبرة ذوات بساتين وأشجار وساحات للحيوانات البديعة والأبقار والأغنام والطيور والدواجن «2» وباقي داخلها يعني
القلعة للمالك السلطانية وخواص الأمراء بنسائهم وحرمهم ومماليكهم ودواوينهم وطشت خاناتهم وفراش خاناتهم وشراب خاناتهم ومطابخهم ووظائفهم.
والقلعة بها مساكن لأكابر الأمراء ومن كبر من الطبلخانات والعشرات، ومن خرج عن حكم الخاجكيه إلى طبقة البرانيين، ودار الوزارة ودار كاتب السر وديوان الإنشاء وديوان الجيوش وديوان الأموال والنقباء والزردخاناه والحبوس «1» والأسرى وما يجري في هذا المجرى، مقسمة المساكن، فيها المساجد والحوانيت والأسواق في جهاتها، هذه جملة العمارة.
ثم نذكر بقية ما يتعلق بالقصر السلطانية فنقول: أنه ينزل منه في جانب إيوان القصر إلى الإصطبلات السلطانية ثم إلى ميدان ممرج بالنجيل الأخضر فاصل بين الاصطبلات وبين سوق الخيل، في غربيه، فسيح المدى يسافر النظر في أرجائه، يركب السلطان من درج يلي قصره الجواني (المخطوط ص 239) وينزل إلى الاصطبل الخاص ثم إليه راكبا وخواص الأمراء في خدمته لعرض الخيول في أوقات طعم الطير، وربما وقف به راكبا، وربما نزل فيه، ولم ينصب عليه خيام وربما نصب عليه الخيام إذا طال مكثه، وكان زمان حر أو برد، وربما مد به السماط ثم يطلع راكبا إلى قصره.
وبهذا الميدان أنواع من الوحش المستحسن النظر، وتربى [1] به خواص الخيول للتفسح، وفي هذا الميدان يصلى السلطان وخواصه ومن لا يقدر يفارقه من ذوي الخدم، صلاة العيدين، ونزوله إليه وطلوعه، منه من باب خاص من دهليز القصر غير هذا المعتاد النزول منه لما قدمنا ذكره، وللسلطان عدة أبواب سر إلى القرافة وإلى غيرها، لا حاجة لنا إلى ذكرها.
[1] وردت بالمخطوط تربا.
قلت: هذه القصور والأيوان الكبير، والميدان الأخضر، والجامع، وغالب العمائر الضخمة بالقلة، والقلعة عمارة هذا السلطان، وبناؤه مطرزة الطرز فيها بألقابه واسمه، ترد الطرف كليلا بأنوارها، وترف القلوب على ما تفتح من نقوش نوارها، تقر الملوك بها، لعلو هممه وسعة إنفاقه وكرمه، تقف عليها الأبصار ويعرف من رآها أنه هان عليه العدو والدينار «1» .
الباب السادس