الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس عشر في مملكة أزمناك
«1» وهي ثانية عشر النطاق الثاني، وصاحبها ابن قرمان، وكرسي مملكته أزمناك، وله نحو أربعة عشر مدينة، ومائة وخمسين قلعة وعسكره يناهز خمسة وعشرين ألف فارس، ومثليهم رجّالة، ومن مشاهير مدنه مدينة أرندة [1] ، وهي مدينة جليلة، ومدينة العلائية، وهي المسماة باعلايا [2] عند العوام، وموقع هذه البلاد شرقي بلاد الأرمن بشمال، وبلاد ابن شرف جنوبها، وأقرب مدن الأرمن جنوبها، إليها طرسوس واذنه، وهذه البلاد على ضفة البحر الملح، وقد تقدم ذكر هذه المملكة وما هم عليه، وموالاتهم لسلطاننا صاحب مصر خلد الله ملكه، وميلهم إليه، وما هم عليه من الجهاد في الأرمن، ومن ساكنهم من الكفار، وتجريد سيوف غزوهم آناء الليل والنهار، وبهذا تم ذكر ممالك الأتراك، وما هي عليه على ما بلغنا، وتبين لنا وقد أوضحنا طرق الروايتين على ما فيها من الخلاف (المخطوط ص 180) على أنني اجتهدت والعهدة على الناقل.
ونحن نذكر تتمة ما كنا أشرنا إليه من أحوال الروم عند غلبة التتار ودخول طوائفها هاتيك الديار.
فنقول أنه لما استقلت قدم التتار فيها وأستنهلت غمائم كتائبهم على جهاتها، بقى ملوك آل سلجوق معهم بالاسم لا غير لا لهم حكم ولا تصرف بل لهم ما يقيم بهم، وبيوتهم، وشعار ملكهم الظاهر ونفقاتهم اللازمة، والأمر كله لنواب التتار، وعنهم الإيراد والإصدار وباسم الملوك الجنكيز خانية يخطب ويضرب سكة الدرهم والدينار، فلما ضعفت الدولة السلجوقية، وآذنت أيامها بذهاب تلك البقية،
[1] مدينة اللارنده، مدينة حسنة كثيرة المياه والبساتين سلطانها بدر الدين بن قرمان (انظر: رحلة ابن بطوطة 196) (انظر: معجم الأنساب 236) .
[2]
باعلايا وهي العلايا: أول بلاد الروم، من أحسن الأقاليم وأجمل الناس حاكمها يوسف بن قرمان (رحلة ابن بطوطة 88) .
وكانت المغول لا تقدر على صعود تلك الجبال، ولا تعرف الحصار ومطاولة المعاقل والقلاع، فغلب طوائف الأتراك هنالك على كثير من تلك الممالك ولولا قوة شوكة التتار، وسطوتها التي عمت الأقطار، لاستولت على السهول مع الجبال، وأخذت بجنباتها من كل مكان.
مع أنها ملكت معظم البلاد إلا بقية حفظت المغل مطالع أفقها وأمسكت آخر رمقها، ودارت إذ ذاك طوائف الأتراك، ملوك المغل على ما غلبت عليه وبقى كل منهم يدخل في طاعتهم على أنه يسلم إليه، ولا يخرج بشيء من يديه، واستمرت أحوالهم معهم على الطاعة والعصيان، والتذكار والنسيان. حتى تهادت المدد، وخر رواق الدولة المغولية، أو وهي منه بعض العمد، فحينئذ ثبتت أقدامهم، ونبتت في مفارس الاستمرار أيامهم، ومنذ غلبوا على ما بأيديهم من الروم لصاحب كرمينان عليهم مزيد الفضل كما ذكرنا.
وكل واحد من هؤلاء الأتراك مستقل بمكانة مشتغل بشأنه وتبسطوا في جهاد من جاورهم من الكفار، وصار هذا دينهم، وبقى بينهم من التنافس ما يكون بين النظراء، ولهذا كاتبوا عظماء الملوك ليتقوا بمظاهرتهم ويطيروا بريح (المخطوط ص 181) سعادتهم وأكثرهم كاتبوا سلاطيننا ملوك مصر رحم الله من مضى منهم، وحفظ من بقى وأدام حياة سلطاننا مالك ملوك الأرض، صاحب الدولة الملكية الناصرية، وخلد سلطانه خلود الليالي والأيام، ولا ذوا بهذه الأبواب العزيزة، وتطيعوا بالميل إلى هذه الدولة القاهرة حتى صارت المولاة في طباعهم كالغريزة، فاتخذوا ملوك مصر، نصرهم الله، لهم ظهرا، وعدوهم للحوادث ذخرا، حتى أن منهم من رغب في تقليد يكتب له بالنيابة فيما هو فيه، فكتب إليه وجهز بالصناجق والألوية، والأعلام والتشاريف التمام، والسيف المحلي والحصان المركوب والسرج الذهب، والعدة الكاملة والجنائب الطائلة، وما منهم إلا من تدخل وترامي، وانشرح مراما والأنعامات تغمرهم، والصدقات الشاملة تعمهم، وهم إلى يومنا هذا
أهل ود وصفاء، وحسن عهد ووفاء، وبكثرة ما خلطهم به الامتزاج وصل منهم من اتخذ مصر والشام دارا، وأخذ بهما الإمرة والإقطاع وجرى فيهما تحت الأمر المطاع، ورسلهم حتى الآن لا تنقطع بصدق نية، وإخلاص طوية، والمكاتبات واردة وصادرة، والهدايا مقيمة وسائرة، ومع هذا كله كل واحد منهم غنى مما آتاه الله، وأمراء الأتراك على ما هم عليه من الامتناع، والتحصن بشوامخ الجبال والقلاع وبعدهم عن المغل، وقوتهم بكثرة العديد والعدد والسلاح، ووفور ذات اليد، تداري ملوك جنكيز خان، وتخدم ملوكهم، ومن يصل منهم ويتردد من جهتهم، وتهاديهم، وتعضد بالمقربين إليهم لكل واحد منهم في الأردو، ومن هو من ورائه ومتكفل بالمدافعة عنه، ويخطب في بلادهم للقائم من بيت هولاكو، وتضرب السكة بأسمائهم. وكتائب الروم عليهم ألطاف وتحف يتأقونه بها، ويتوقون من خلفه من قانات المغل بالأخذ بخاطر نائبهم. (المخطوطة ص 182) هذا لأنه جارهم المجاور لهم، وهم رهن ما يكتب به إلى الأردو وفي حقهم، ولما كان تمرتاش بن جوبان، قد استقل بهذه النيابة ورست فيها أعلامه، وفتح الفتوحات، وأباد المجاور لهم، وهم رهن ما يكتب به إلى الأردو وفي حقهم.
ولما كان تمرتاش بن جوبان، قد استقل بهذه النيابة ورست فيها أعلامه، وفتح الفتوحات، وأباد المخالفين له بها، خافت أمراء الأتراك بأسه، وكاتبت أباه جوبان، وتسترت بظله، وتترست من مواقع سيوف تمرتاش تجاهه، وقضت تلك المدة معه بهذا وأشباهه، ومع هذا كله يرميهم بالبوائق، ويترصد لهم غفلات الوقت.
وقال: غفلات بيت جنكيز خان ما قاله بهرام جوبين [1] في الأكاسرة [2] ، قال وما الله (تعالى) جعل حتما على العباد أن تبقى دولة آل ساسان [3] إلى آخر
[1] بهرام جوبين: قائد كسرى برويز، ثار على كسرى، وفر برويز إلى الروم واستعان بالروم لاستعادة ملكه، وتمكن كسرى من قبل بهرام جوبين (انظر: حاشية روضة الصفا ص 122) .
[2]
الأكاسرة جمع مفرده كسرى.
[3]
آل ساسان: آخر الإمبراطوريات الفارسية قبل الإسلام والتي قضى عليها المسلمون عند فتحهم لبلاد فارس.
الزمان، وأظهر ما كان يسره من هذا الأمر، وباح به وهم وما فعل، فبلغ ذلك أبا سيعد بهادر خان سلطان ذلك الوقت، فعتب على أبيه جوبان، فقرأ جوبان من فعل ولده تمرتاش، ونهض إليه في وقت شتاء لا طاقة لأحد بسلوكه، وقطع إلى الروم كل جبل ثلج نزل عنه النظر، وأراد تمرتاش أن يضرب معه مصافا، فلاطفه أبوه، وراسله حتى كف وأذعن، وأخذه أبوه وأحضره إلى الأردو في هيئة المأسور المقهور.
وجوبان يظهر هذا، ويسر خلافة، ويبطن مخادعة السلطان أبي سعيد في أمره، فلما مثل تمرتاش بين يديه، فك إساره، وخلع عليه وتركه بالأردو مدة، ثم أعاده إلى الروم على ما كان عليه، وزاد في تخويله والتنويه بقدره.
ثم لما آن لدولة جوبان وبنيه الزوال، وكان منهم ما كان قويت أمراء الأتراك بالروم، وانتعشت قواهم ثم هم إلى الآن على هذا الحال على كثرة اضطراب أمر المغل وتفرق أهوائهم.
في هذه المدد كلها مع هذا ما استطاع أحد من أمراء الأتراك إلى (أن) يلتفت إلى شيء مما بأيديهم من الروم (المخطوط 183) لا ولا ارتجاع شيء مما كان تمرتاش بن جوبان قد أبان ملوكه وافتتحه واستضافه إلى ما بيده.
وهذه جملة ما حمله مقدار هذا التأليف من أخبار الروم، ما تضمنه مما دخل فيه بدلالة اللزوم، وبالله نسترشد ونستهدي، وعليه نتوكل وإليه ننسب.
وأما ما هو بأيدي النصارى فقد قال بلبان الجنوي: أن ممالك الروم كلها تترامى إلى رومية، موضع الباب ثم مملكة القسطنطينية ثم طرابزون.
فأما مملكة طرابوزن [1] ، فهي من ممالك عباد الصليب مملكة جليلة القدر، وعلى ساحل البحر على خرجة ماء ينطش، وهي مملكة أخذت غربا بشرق على أطراف مملكة الأتراك في البر المتصل بنا، وهي في جنوبي الروم، دق طرفاها واتسع
[1] طربيزون وطرابزون مملكة واقعة بين بلاد الروس وبلاد اليونان (ابن الأثير 12/160) .
وسطها، كأنما دار على جانبها الفرجار [1] من خارج المركز، فجاءت على شكل الإهليلجة، وعلى هذا التصور صورها بلبان الجنوي.
وقال: وصاحبها ملك رومي عريق في الملك من أولاد قسطنطين، باني مدينة القسطنطينية، وهو صاحب تخت وتاج، ووظائف ملكية، وحاشية سلطانية، وقدر رفيع عند الباب، وهو وجميع أهله، الغابر منهم والباقي، أهل جمال فائق، وحسن فاتن إلا أن أهل هذا الملك القائمة بها الآن وإياه لكل منهما على عجم الصلب سلعة [2] رقيقة ممتدة بارزة، تكون طول الإبهام وعرضه كأنها ذنب خارج.
وقال: وفي هذه المملكة قوم فيهم مثل هذا، ولما قال لي هذا توقفت عن نقله عنه وشككت فيه حتى حدثني بمثل هذا بهادر الإيواني، وحكى مثل هذا آخر من أهل السير وآخر ثم آخر حينئذ نقلته في كتابي هذا والعهدة عليهم، والقدوة صالحة، والله سبحانه وتعالى فاعل مختار ويخلق ما لا تعلمون [3] فسبحان من بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون.
قال وأهل طرا بزون أهل نجدة وبأس وعليهم طريق مسلوك لمن أم بلاد القزم وصحراء القبجاق وطوائف سكان الشمال.
قال: ومملكة طرابزون أوسع من (المخطوط ص 184) مملكة الكرج، وأجل مقدارا عند ملوك النصرانية، وإنما أولئك أشد أيد وقوة.
قال: وملك طرابزون يسمى التكفور كما يسمى ملك الأرمن، وهو أعلى نسبا من ملك الروم القائم الآن في المملكة بها، وله عليه فخر لا يعلى على منصبه، ولا يعلى رداؤه عن منكبه، قالوا: وجنده ليسوا بذي عدد غالب ولا مدد مغالب، وإنما
[1] وردت بالمخطوط البيكار، ويعني اليركار وهو بالعربية الفرجار، آلة هندسية (فرهنگ رازي 96) .
[2]
أظنها صلعة.
[3]
إشارة إلى الآية 8 من سورة النحل 16.
هم أقران فوارس وأعيان ليوث، لا يحلى لها فرائس، قال: وأحوالها كلها تشابه ما يليها من ممالك الأتراك.
قال بلبان الجنوي:
وأما مملكة القسطنطينية وهي الآن تسمى اصطنبول [1] وقديما ببرطانية، فإنها كرسي مملكة الروم، ولملوكها التقدم على جميع ملوك عباد الصليب، ومن أهلها الملك القائم القديم وكانت لهم اليد العليا على بني العمودية، وجميع طوائف العيسوية.
وهي مملكة قيصر [2] بها كان تخت الاسكندر وتداولتها دول الروم من أولاد قسطنطين، وخرجت عليهم خوارج، ثم هبت للفرنج بها ريح ملك، واشتعلت لهم بها ذؤابة دولة، واشتعلت لهم بها نار عليه، ثم عادت إلى الروم واستمرت إلى اليوم.
قال: والفرنج تزرى بالروم لخروج ملك الشام عنهم وتغيرهم بغلبة العرب عليهم، يعني في مبدأ الإسلام، وتعيبهم بهذا، وتوسعهم الملام.
قال: ومع هذا فلا يسع ملوك الفرنج إلا إجلال هذا الملك الرومي، وتوفيه حقه من التعظيم، وعساكره مائتا ألف فارس مديونه، ما فيهم إلا صاحب أقطاع أو نقد، وأرزاقهم لكل واحد منهم في السنة مائتا دينار إلى ألف وخمسمائة دينار، وفيهم من يبلغ ألفي دينار، والدينار اثنا عشر درهما، وهو درهم ينقص عن البندقي بقليل، والدينار ما هو دينار مسمى بل حقيقة دينار مسكوك من ذهب مغشوش، فلهذا نقص ثمنه، قال: واسم هذا الدينار برير.
[1] وردت اصطنبول وهي قسم من مدينة القسطنطينية بالعدوة الشرقية من النهر وفيها سكنى السلطان وأرباب دولته وسائر الناس، وهي بسفح جبل داخل في البحر نحو تسعة أميال (رحلة ابن بطوطة 233) وهي استانبول وأسطنبول وأسلامبول.
[2]
قيصر لقب ملوك الرومان يعادل القاآن عند المغول وتبع عند اليمن وكسرى عند الفرس وراجا عند الهنود.
وقال: وأما الإمرة عند الروم فإنها محفوظة في بيوت قديمة، يتقدم في إمرة كل واحد منهم يتوارثها كابر عن كابر (المخطوط 185) ويورثها أول لآخر.
قال: ولملك القسطنطنية قدرة [1] ، ليست لأحد من الملوك النصرانية سواه، قال: لأنه يركب في كل يوم إلى الكنيسة العظمى بها، ومعه البطريرك، ويقف على كل باب من أبواب الكنيسة على كثرة أبوابها [2] فرس للملك وبغلة للبطريرك.
وشعار سلطنته كامل بجميع ما يحتاج إليه الملك، بما لا بد للموكب الملوكي منه، فمن أي باب خرج من أبواب الكنيسة، هو والبطريرك ركبا، وسار الملك في أبهة الملك التمام، وشعار السلطنة الكامل بما كان معدا له على الباب الذي خرج منه دون ما كان معدا على بقية الأبواب وعلى كل باب منها نظير ما كان على الباب الذي خرج منه الملك، وسار بشعار الملك الكامل.
قال: وللملك ميزة يتميز بها، وهو أنه لا يلبس أحد في مملكته جميعها خفا أحمر غيره، وزي الروم في لباسهم من نوع زي الأتراك والمغل من الأقبية التترية والمحضرة، خلا أن الكبائس على رؤوسهم متسع مرحرح، كأنه الطبق، ويشدون في أوساطهم المناطق والسيوف، ومناطقهم ثقال، وسيوفهم كالسيوف المغربية، أخف من العربيات، وعلى أشكالها، ولباسهم الجوخ والصوف والحرير الأطلسي والديباج وسائر أنواع الحرير.
قال: وللملك داران معروفتان بدار المملكة، الواحدة قديمة من بناء الاسكندرية، خارجة في كبد البحر، ذات حارات طوال ودهاليز بعيدة نائبة، وفي جانبيها تماثيل نحاس على صورة الإنسان وسائر أنواع الحيوان، وفيها صوة فرسان على خيل وحيوانات وأشكال آخر، وكلها أكبر من الحيوانات المعروفة بما يزيد زيادة ظاهرة على الأشكال الطبيعية، وهي في غاية الصنعة الأحكام بالنقوش العجيبة
[1] هو تكفور ابن السلطان جرجيس (رحلة ابن بطوطة 232) .
[2]
ثلاثة عشر بابا (رحلة ابن بطوطة 234) .
والتخاطيط الغريبة، ولا يعرف هل عملت لظاهر الزينة أو لباطن من الحكمة وهي دار عظيمة هائلة البناء، بعقود منظمة وأبنية رفيعة واسعة رحبة مفروشة بالرخام الأبيض والجزع والملون وضروب من المسن الأخضر. (المخطوط ص 186) قال:
والملوك لم يسكنوها منذ عصر ميتشامون بها، ويقولون أنها مسكونة بمردة وفساق الشياطين، وأن فيهم من يتراءى [1] على مثال أصلة لا نطاق، والدار الأخرى هي التي يسكنها الآن الملوك، وتسكن إليها وهي على جلالة مكانها وفخامة قدرها لا تقارب دار الاسكندر ولا تدانيها في الإمكان والتشييد ورونق التأنيق والتنميق.
قال: ولقد كانت ملوك القسطنطينة تراقب ملوك القبجاق، وتؤدي إليهم القطيعة حتى تزوج هذا السلطان أزبك خان منهم فأمنهم ووضع عنهم أثقال تلك القطيعة، وأصر تلك الأتاوة وناموا الآن في مهاد الأمن، ورفعت عنهم غمم التكليف.
وقال لي غيره وقد سألته عن عدد جيوش الروم، فقال: هم عدد بلا نفع، قلت:
وهذا هو المشهور عندهم في كل زمان ومكان والمأثور عنهم أنهم وإن كانوا ذووي عدل ليسوا من الشيء شيء وإن كانوا، وإن هان أقوى اعتدادهم المخمر والخمير وأوفى حبهم الديباج والحرير، ما فيهم ضارب إلا بجنك [2] أو عود، ولا طاعن إلا بين أعكان ونهود، ولا يشربون دما إلا من فم إبريق جريح، ولا يرون قتيلا إلا شخص زق طريح، ولا لهم وقائع إلا في طبقات الصحاف، ولا مواقع إلا بين فراش ولحاف.
لا يعرفون البيض الأبيض الدمى، ولا السمر إلا كل سمراء الدمى، ولا العجاج إلا من دخان عنبر، ولا أثر السيوف إلا في ثغر شنيب كأنه عقد جوهر ولا مقام إلا في مجلس راج، ولا اهتمام إلا بمجلس أفراح، ولا التماس إلا لغبوق أو اصطباح [3]
[1] وردت بالمخطوط تيرآاي.
[2]
جنگ: وهي آلة موسيقية وهي جنگ أو الصنج (فرهنگ رازي 564) .
[3]
الغبوق خمر المساء والاصطباح هو خمر الصباح ويسمى الصبوح.
ولا اقتباسه إلا مما تتوقد ناره في كأس أو يقتدح من أقداح ما منهم راكب جواد إلا اللذة، ولا صاحب جهاد إلا في فرصة مستلذة، ولا عوال تلعلع أسنتها غير الشمع، ولا عويل إلا مما يتخير من مآقى الغيد من الدمع.
قال بلبان: وطوائف الروم لا معروفة لهم بامتطاء البحر ولا عادة بركوب السفن، وأبعد سيارتهم فيه إلى مواضع النزهة، وإنما هم أصحاب خيل، ولا تعد خيالهم في جياد الخيل وإنما يجلب إليهم كرائمها (المخطوط ص 187) من بلاد الأتراك من قاطع الخليج، وإنما هم بغال تباع بغال.
ولهم تجمل دبر في الملابس والمراكب والفروش، وفي أهلها الجمال البديع والكمال التام، وفي المثل وجوه الترك وأجسام الروم وظرف العرب.
قال: فأما منابت القسطنطينية فكلها أرض جيدة صالحة للزروع والثمار، ولها نهر متوسط المقدار، عليه مساقي زرع وأشجار والأرزاق بها كثيرة الوجود والرطل القسطنطين نظير الرطل المصري وكيل الطعام بها المسمى مدني، وهو حمل جمل يكون أردبين ونصف بالمصري، وبه يباع الغلال الكثيرة، فأما القليل منها، فيباع بالرطل.
قال: وهذا الملك لا يفارق مجلسه الطرب، ويضرب له بالآلة المعروفة بالأرغل [1] وهي ذات وضع عجيب وألحان غريبة مطربة تأخذ بمجامع القلب، قلت: وقد رأيت هذا الأرغل بدمشق ثم بالقاهرة فقلت هذا للضارب به، فقال لي:
هذا أرغل صغير يفكك ويحمل وما معه أصوات تسير له الضرب، والذي يضرب به لملوك الروم البحر الكبير مستقر في مكان لا يزايله، وله عدة من أصحاب الأنغام المطربة، تسير له، وله بذلك رونق لا يكون في مثل هذا، وصورة الأرغل خشب مركب، وله بكر نحاس وأوتار شريط نحاس، ونحر بمثل كور الصائغ، ونغمه شبيه
[1] الأرغل هو الأرغول.
بالآلة التي تسمى القانون. ثم نعود إلى تتمة الحديث.
قال بلبان: والملك لا يمد الطعام إلا بين سماطين من المغاني وأصحاب الملاهي.
حدثني آقسنقر الرومي أحد أمراء العشرات بالأبواب السلطانية، وهو من بعض بيوت العشرة الآمرة القديمة بالقسطنطينية وكان قد حضر في جملة الرسل إلى الأبواب العالية، وأسلم وشمله التشريف والأنعام الشريف، والإقامة في الخدمة السعيدة السلطانية بمثل هذه الأحوال، وسمعته يبالغ في تعظيم شأن ملوكهم، ويصفهم بحسن الموافاة والمراعاة لمصالح (المخطوط ص 188) أولياء دولتهم ورعاياهم.
وقال: إن عادتهم جارية بأنه إذا من مات من أمراء الروم جرى على أكبر أولاده ما كان يجري على أبيه، فإن لم يكن له ولد كان على أكبر أهله، فإن انقرض تصرف الملك فيه برأيه، فإن ترك الميت أولادا لا يقوم بهم ما كان لأبيهم ولا يكفيهم إذا توزع عليهم جرى على الأماثل ما كان لأبيهم، ونظر في حال البقية.
قال: وعادة هؤلاء الملوك أن لا يعطى ولد أمير رزقا من جهتهم ما دام أبوه حيا يرزق، بل ارتزاقه مما لأبيه، وإن أراد الملك أن يعطيه شيئا أعطى لأبيه مقدار ما يريد أن يجعله لابنه، ثم أمره أن يجريه هو على ولده من جهة لا من جهة الملك.
قال: وهم أهل عدل فلا يظلم أحد منهم ولا يستحسن الظلم ولا يفسح فيه ولا يتطلع إلى شيء مما في أيدي الناس من أرباب دولته ورعايا مملكته، ولا يعرف هذا عندهم.
قال: وجميع من هو في خدمة ملوك الروم لا حجر عليهم ولا تضيق في الإكرام بحضور خدمة مرتبة ولا أخذ دستور في أمر من الأمور، فخلي بين نفسه وما يريد في الركوب والنزول والسفر إلى الصيد والتنزه وإلى جهات أملاكهم وأقطاعاتهم بل هو في ذلك كله مع رأيه يسافر متى أراد إلى جهة أراد، ويغيب ما يقدر له أن
يغيب بغير إذن لملك ولا لأحد ممن ينوب عنه، وفيهم من يغيب السنة فما فوقها، ولا يقال له لم سافرت؟ ولا كيف أبطأت؟ ولا لأي شيء انقطعت عن الخدمة؟ ولا يعتب ولا ينكر عليه، ولا لملك تشديد عليهم في أمر إلا في الإلزام بالتوجه إلى حرب أو المؤاخذة بحق.
قال: وما أهل مملكة الملك فهم منه في أرغد عيش، لا يقوض له بناء، ولا يكف له إناء، قالوا: كلهم والبطريرك هو الحاكم على الملك، لأنه لا معول إلا على رأيه، ولا يفصل حكم إلا بقضائه وله رزق عظيم، يعدل معدلة دخل إقليم، وإليه أمر الكنيسة العظمى، وسائر الكنائس والديارات (المخطوط ص 189) ويحصل لها في كل سنة أموال جمة طائلة من الوقوف والنذور والقربانات والتحف، ومهاداة الملوك والكنود والتجار.
وفيما يزعم الروم أن بلاد مقدونية جميعها. وقف على الكنيسة العظمى التي لهم المسماة بالأوصفية [1] ، وبلاد مقدونية هي الاسكندرية، وما هي مضاف إليها، وكان ذلك في قديم الزمان مصر كلها بأسرها إلا الصعيد الأعلى، وعلى هذا جاء الفتوح في صدر الإسلام.
قلت: والروم تبالغ في تعظيم هذه الكنيسة وتعتقد في كرامتها، وينقل من التواريخ أن بها كان اجتماع قسطنيطين على التدين بدين النصرانية، وإن عقد الاتفاق كان على المذبح بها، وفيها ما يقول صليب الصلبوت وعصا موسى وزنار مريم ومسح المسيح مما يقال أنه صار إليها من طليطلة، وفي زمان الملك الناصر صلاح الدين قدس الله روحه، جاءت إليه رسل الفرنج تسأله في إرسال صليب الصلبوت إليها، وزعموا أنه قد صار إلى خزائن العبيدين واتصل إليه، ثم أن صلاح الدين
[1] الأوصفية: هي كنيسة أياصوفيا ويذكر أنها من بناء آصف بن برخيا وهو ابن خالة سليمان عليه السلام، وهي من أعظم كنائس الروم عليها سور يطيف بها، فكأنها مدينة، وأبوابها ثلاثة عشر بابا (رحلة ابن بطوطة 234) وهي الآن متحف آيا صوفيا في تركيا.
ظفر به في بعض حروبه بالرجل الذي كان حضر في طلب الصليب، فأمر به فصلب، وكتب الفاضل رحمه الله كتابا ذكر هذا فيه.
فقال: وحصل الظفر بمن كان تقدم حصون في طلب صليب الصلبوت، وأطلقه في ذلك الوقت، وعلم أنه لا يفوت، فلما ظفر به الآن آمر به أن يصلب، وجعله مثلة، وسمره على الصليب الخشب، وجعلة مثله (مثله) هذا ما ذكره في هذا المعنى.
وأما الشائع الذائع على ألسنة الناس وكلام المتجولين في الأرض، وطلبة الكنوز والخبايا، فهو أن علم الكنوز في كنيسة القسطنطينية، ثم صارت إلى القسطنطينية، ومنهم من يقول أن الروم لما خلت عن الشام وبلاد القبط، اكتنزت كثيرا من أموالها في مواضع كانت تعدها لذلك، وكتبا بها كتبا بإعلام مواضعها، وطرق الوصول إليها، وأودعت تلك الكتب مكانا في كنيسة القسطنطينية، وإن منها تستفاد معرفتها، ومنهم من زعم (المخطوط ص 190) أن سكان الشام من الروم، لم يكنزوا، وإنما ظفروا بكتب بمعالم كنوز من كان قبلهم من اليونان والصابئة والكلدانيين ومن تقدمهم من الأمم الأول، فلما غلبوا على الشام، واستصحبوا تلك المعالم فأودعوها الكنيسة، أنه لا يصل إليها إلا من خدم الكنيسة مدة معلومة عندهم، فإذا انقضت، أعطى ورقة واحدة بخطه، ونصيب فيما يدل عليه، ولهم في هذا ومثله حكايات بجنسها، وأنا لا أصدقها ولا أكذبها، وإنما ذكرت منها هذا هنا على سبيل الحكاية والتندير إذ كان هذا ما يدور ذكره في حديث الناس إذا ذكروا هذه الكنيسة، وهو مما لا يستبعد إما كله وإما شيء منه لدخوله في حيز الإمكان، ولأنه لا يخلو من فواضل أهل زمان.
وهؤلاء العرب [1] تكتنز أموالها في قدور بسلاسل طوال تدفنها في مواضع متغلغلة في البر، وتعلمها بأعلام لا تتغير من الجبال والربى، وما أشبه ذلك، فأما ما
[1] ربما يقصد الروم.
لا شك فيه فهو أن في القسطنطينية كتبا جليلة من كتب حذاق الحكماء والفلاسفة القدماء، ما لا خرج عن دار قومه ولا وصل إلى فلاسفة الإسلام منه شيء، لضنانة بطارقتهم [1] ، وسوء سهم به، ومحافظة خزانة على خزنة وحفظه، ويقال أن فيها دقائق الموسيقى مما لو عمل به أهل هذا الشأن والقوة على أصحاب الأصوات المطاوعة لاستغنوا به في معالجتهم به من العقاقير حتى يقال أن فيها ما يلين القاس، ويقاد الصعب، ويضحك ويبكي ويندم.
ويدعى أصحاب علم الكيمياء أن فيها كتبا جليلة فيها العلم الصحيح بأسهل الطرق وأقربها إلى الوصول، وتدعى أنه مما تلقى عن موسى صلوات الله عليه.
قال: ويقال أن فيها أثرا من علوم الخضر والاسكندر وذي القرنين تفتح به المغالق، وتتسلم المعاقل، وتملك النواصي، وتهزم الأعداء، فإذا حوجج أحد ممن يقول هذا القول وحوقق وقيل له (المخطوط ص 191) ، أنتم تلوون ضلوعكم على الداء الدقيق [2] ، غيظا على أخذ الشام منكم، فهلا أخذتم بتلك الآثار، وبلغتم المراد وكفيتم المهم ايلسوا وسكنوا، ولم تكن لهم حجة إلا أن يقولوا ما بقى من يعرفها أو ذهب زمانها أو تزيد طوالع أو باد من يعلمها أو ما تم من هو مشتغل بها.
وأما الذي هو الآن عندهم ظاهر من بقايا ذخائر العلماء الحكماء فهو الطين المختوم، ورأيت أطباء الزمان، ومنهم بالديار المصرية رؤساء أفاضل وعلماء لا تقصر عن درجات الأوائل، ما فيهم من يثبته على التحقيق، لكنها تستحسنه، وتقول هو طين مليح يحصل به القصد، ويتوقف، ولا يجزم بأنه هو الطين المختوم، ويقول الطين المختوم طين عمل وطبع وختم على عهد جالينوس.
ويقال كانت امرأة في جزيرة في البحر تجلس على هيكل على قراره أو بركة
[1] بطارقتهم وبطاركتهم جمع مفرد بطريك وبطريرك.
[2]
وردت بالمخطوط الدوين.
يأتيها السيل، فتذبح هناك التيوس على سبيل القربان في وقت معلوم من السنة، ويؤخذ من التراب مما جف عنه السيل وجمد عليه الدم، وقالوا: إنه يجبل بالدم في طالع مخصوص، ويقرص أقراصا، ويطبع بطابع متخذ لها، ومنهم من يقول إن فعله إنما هو لخاصية تلك البقعة، ومنهم من يقول للطالع المخصوص، ومنهم من يقول بل لشيء أفيض عليه في الهيئة الاجتماعية.
وهذا الطين المختوم المجلوب الآن هو على نوعين أبيض ونوع أحمر، فأما الأبيض فمنه أغبر ومنه شديد البياض، أما الأحمر فمنه وردي ومنه ما يشوبه سواد كأنه لون المغرا أو طوابعه مختلفة، وهذا الاختلاف مما أوقف الأطباء عن الجزم به، أنه هو هو ولأنه لم يجدوا فيه كل ما ذكرت القدماء في أوصافه.
وقال لي الرئيس أمين الدين سليمان بن داوود المتطبب رحمه الله، وقد رأيته منه هذا ما هو الطين المختوم، والطين المختوم عمل على عهد جالينوس، وكان مقدارا ليس بالكثير ثم لم يعمل بعده، وغطى البحر على تلك الجزيرة، والناس منذ عمل تستعمل منه، ولهذا زمان طويل ولولا كان (المخطوط ص 192) بقدر ما عمل أضعافا مضاعفة لكان قد فرغ، وإنما هو شيء يشبه، وليس به.
وأكثر ما يحمد الأطباء من هذا الطين المشتبه بلون المغرا، ثم أن الوردي، فأما الأبيض فما رأيت أحدا [1] منهم يقدمه، إذا رآها في وصف، ولا يعبأ به، فأما جلابته من القسطنطينية فتذكره وتصف صفاته الروم، والذين جربت منه، فحمدت من أنواعه هو المشبه بالمغرا وقد ذكرت هذا المحل الفائدة، ثم نعود إلى الكلام على القسطنطينية.
قال آقسنقر الرومي وبلبان الجنوي وعلي بن بلبان الجلبي قالوا كلهم، وقال غيرهم: إن القسطنطينية على جزر من البحر، يدخل منه ماء إلى الميناء في جانب
[1] وردت بالمخطوط أحد.
القسطنطينية، ويدخل مسورها والتجار والسفارة من سائر الأقطار من المسلمين والنصارى وغيرهم، يأتي إليها وينزل بها، ويبيع ويشتري فيها، ولا حرج عليهم ولا تضييق.
والمسلمون فيها على جانب أعزاز وإكرام، فيها سكان من المسلمين يسكنونها إلى اليوم، لا يمسهم ولله الحمد ذل ولا هوان، ولهم مساجد وأئمة تصلي بهم الجماعة، فتظاهر فيها بشعائر الإسلام، وللملك اهتمام بكف الأذية عنهم، وإذا شكى المسلم إليه على أحد من النصارى، ولو أنه من عظماء البطارقة، أشكاه وأنصفه منه، ولا اضطهاد، ولا ضيم في جميع مملكة هذا الملك عليهم ولو تغيرت الملوك، واختلفت الأحوال، لا يقدر الملك على تغيير حاله في هذا، ولا مخالفة لمن تقدمه فيه لأنها عادة تدين بها ملوكهم، وسارت بها في ملوك النصرانية سيرهم، فلو عدل الملك عنها، لمنعه البطريرك، وو آخذه به وآخذه بالرجوع إلى عادة أسلافه، واشتد في منعه، فإن رجع، وإلا كان السبب بتحريمه، فإن رجع، وإن كان السبب لخلعه.
والروم أسخى من جميع الطوائف النصرانية، واسمك في الكرماء نفوسا، وأمسك ناموسا، ومع هذا فما فيهم من يداني العرب في كرم، ولا يقاربهم في جود، والشح غريزة في طباع النصارى، لا ينفق إلا فيما (المخطوط ص 193) يتنغم به، فينفقه في اللهو والطرب، والنخوة فيهم قليلة، وهذه جملة ما ذكروه من أخبارهم، وفهم من كلامهم.
ومما أقوله أن أول دليل على عظم القسطنطينية ومالها من الممدود غزوة هارون الرشيد إياها سنة خمس وستين ومائة، كان أبوه المهدي قد وجهه إليها وهو إذ ذاك ولي عهد أبيه المهدي، فخرج يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة [1] غازيا إلى بلاد الروم، وضم إليه المهدي الربيع مولاه، فتوغل هارون الرشيد
[1] وردت بالمخطوط جمدى الآخرة.
في بلاد الروم، فافتتح ماجده ولقيه خيول بقطياقوس القوامسة فبارزه يزيد بن مزيد، فأرجل يزيد ثم سقط بقطيا، فضربه يزيد حتى أثخنه، وانهزمت الروم، وغلب يزيد على عسكره، وسار هارون الرشيد بمن معه في مائة ألف ألف دينار وثلاثة وسبعين ألف ألف وأربعمائة وخمسين دينارا ومن الورق مائة ألف ألف وإحدى وعشرين ألف ألف وأربعة عشر ألف وثمانمائة درهم، وسار هارون الرشيد حتى قطع خليج القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ عسطه امرأة النون وذلك أن ابنها كان صغيرا، قد هلك أبوه وهو في حجرها، فجرت بينها وبين الرشيد السفراء في طلب الصلح والموادعة، وإعطاء الفدية فقبل ذلك منها هارون الرشيد، وشرط عليها الوفاء بما أعطت، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في طريقه، وذلك أنه دخل مدخلا ضيقا تخوفا على المسلمين.
قال أبو جعفر الطبري [1] : وسار هارون في خمسة وتسعين ألف وسبعمائة وثلاثة وسبعين رجلا من المرتزقة سوى المطوعة ثم ذكر مثل هذا، وقال: إنه جرت بينها وبين هارون الرسل والسفراء في طلب الصلح فشرط عليها الوفاء وأن تقيم له الأولاد والأسواق في طريقه فأجابته، والذي وقع عليه الصلح بينه وبينها سبعون ألف دينار تؤديها في نيسان [2] الأول (المخطوط ص 194) في كل سنة، مثله في حزيران [3] ، وقيل ذلك منها، وأقامت الأسواق في منصرفه، ووجهت معه رسلا إلى المهدي بما بعثت له وربما بذلت على أن تؤدي ما يتيسر من الذهب والفضة والعرض، وكتبوا كتاب الهدنة إلى ثلاث سنين، وكان الذي أفاء الله على هارون إلى أن أذعنت الروم بالجزية خمسة آلاف رأس وستمائة وثلاثة وأربعون رأس، وقتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسون ألف وقتل في الأساري صبرا ألفان وتسعون
[1] الطبري: محمد بن جرير من الفقهاء والمؤرخين الكبار في القرن الثالث والرابع الهجريين له جامع البيان في تفسير القرآن وله تاريخ الرسل والملوك مات سنة 310 هـ.
[2]
أبريل.
[3]
يونيو.
أسيرا، وبيع البرذون بدرهم، والبغل بأقل من عشرة دراهم، والدرع بأقل من درهم، وعشرون سيفا بدرهم.
فقال مروان بن أبي حفص يمدح الرشيد [1] .
«لطفت بقسطنطينية الروم مسندا إليها القنا حتى أكتسى الذل سورها» .
«ومارمتها حتى أتتك ملوكها بجزيتها والحرب تغلى قدورها» .
«وجزت إليهم مالح البحر لم تنل به ووفود الموج دان سيرها» .
«وأخرجت منها من خزائن قيصر ألوف قناطير عظيم يسيرها» .
«فبورك هارون الندى ابن محمد ودام على الأعداء منه منيرها» .
«لقد جرد المهدي منه مهندا يعض به يوم اللقاء صدورها» .
«على سمته سرا ينوه لائح من وجهه الوضاح أشرق نورها» .
«لقد أصلح الرحمن أمة أحمد لمسعاهما حتى استقامت أمورها» .
«أيمتد عدل حيث حلت بلادها وكل سرير للملوك سريرها» .
وقد ذكر الطبري هذه الواقعة في أحداث هذه السنة بهذه المقاصد، وقد الحقت هذه الفصل بشيء مما ذكره الحافظ أبو القسم ابن عساكر [2] في تاريخه [3] في ترجمة أبي محمد البطال [4] .
قال عبد الله بن يحيى الأنطاكي [5]، كان ينزل انطاكية قال: وكان ممن خرج
[1] مروان بن أبي حفصة شاعر مخضرم مدح المهدي والرشيد ومعن بن زائدة عاش ما بين 724- 298 م (المنجد في الأعلام ط 15 ص 530) .
[2]
الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الشافعي المتوفى 571 هـ.
[3]
تاريخ مدينة دمشق ص 256.
[4]
عبد الله أبو يحيى المعروف بالبطّال (تاريخ مدينة دمشق 39/356) .
[5]
أبو مروان الأنطاكي (تاريخ ابن عساكر 39/356) .
مع مسلمة بن عبد الملك بن مروان إلى بلاد الروم، قال: لما أراد عبد الملك أنه يوجه مسلمة إلى بلاد الروم، قال: قد أمرّت (المخطوط ص 195) عليكم مسلمة بن عبد الملك، قال: وولى على رؤساء أهل الجزيرة والشام البطّال، وأمره، فليعس بالليل العسكر، فإنه ثقة أمين شجاع مقدام، فخرج مسلمة، وخرج عبد الملك يشيعه إلى باب دمشق.
وذكر الحافظ [1] بسنده عن الوليد بن مسلمة، قال: حدثني بعض شيوخنا أن مسلمة بن عبد الملك عقد للبطّال على عشرة آلاف من المسلمين، فجعلهم سيادة ما بين عسكر المسلمين وما يليهم من حصون الروم، ومن يتخوفون اعتراضه في نشر المسلمين وعلاقاتهم، ويخرج المسلمون يتعلقون فيما بينهم وبين العسكر، فيصيبون ويخطئون فيأمن بهم العسكر [2] .
وقال الوليد بن مسلم: حدثني أبو مروان الأنطاكي عن البطال أنه قال: سألني بعض ولاة بني أمية عن أعجب ما كان من أمري فيهم، فقلت، خرجت في سرية ليلا، وخرجنا إلى قرية، وقلت لأصحابي: أرخوا لجم خيولكم، ولا تحركوا أحدا بقتل ولا سبى حتى تشحنوا [3][4] القرية، فإنهم في نومة، قال: ففعلوا، وتفرقوا في أزقتها، ودفعت في ناس من أصحابي إلى بيت يزهر سراجه، وامرأة تسكت ابنها من بكائه، وهي تقول، لتسكتن أو لأدفعنك إلى البطّال ثم انتشلته من سريره، فقالت: امسك يا بطال، فأخذته.
وقال الوليد حدثني أبو مروان أنه سمعه يحدث، قال: خرجت ذات يوم متوحدا على فرسي لأصيب غفلة مسمطا مخلاة فيها عليق فرسي، ومسربل فيه خبر وشواء، فبينما أنا أسير إذ مررت ببستان فيه بقل طيب فنزلت، فعلقت على
[1] انظر: تاريخ مدينة دمشق (لابن عساكر 39/357) .
[2]
انظر: تاريخ مدينة دمشق (لابن عساكر 39/357) .
[3]
تفتحوا القرية.
[4]
انظر: تاريخ مدينة دمشق 39/358.
فرسي، وأصبت من ذلك الشواء يتصل البستان، إذ أسهلني بطني، فاختلفت متواريا، فأشفقت من دوامه، وضعفي عن الركوب، فبادرت، فركبت، ولزمت طريقا، واستفرغني على سرجي كراهية أن أنزل، وضعفت عن الركوب حتى لزمت عتق فرسي، خوفا أن أسقط عنه وذهب لي لا أدري أين يذهب لي، إذ سمعت وقع حوافره على بلاط، ففتحت (المخطوط ص 196 عيني فإذا دير فوقف بي في وسط الدير، وإذا نسوة يتطلعن من أبواب الدير.
فلما رأين حالي وضعفي عن النزول [1] ، فأتتني جارية صاحية منهن حتى وقفت عليّ، ونظرت في وجهي، ورطنت لهن، فنزعن ثيابي وغسلن ما بي، ودعت بثياب فالبستنيها، وترياق أو دواء فشربته، ثم أمرت بي، فجعلت على سرير لها ودثار، وأمرت بطعام تهىء لي فأتت به وأقمت يومي وتلك الليلة لا أدري ما أنا فيه، ومكثت يومين وليلتين حتى ذهب عني السبات، وأنا ضعيف عن الركوب.
فلما كان اليوم الثالث [2] جاءها من يخبرها أن فلانا البطريق قد أقبل في موكبه.
فأمرت نفرسي فغيب، وأغلق عليّ باب بيتي الذي أنا فيه، ثم أنزلت البطريق وأصحابه، وكان قد جاء خاطبا لها، فبينما هو على ذلك، إذ جاءه من يخبره عن موضع فرسي، وإغلاقهم عليّ فهم أن يهجم عليّ، فأقسمت إن هو تعرضني، لأنال حاجته، فأمسك وأقام قائلة ذلك اليوم، ثم تزوج، وخرجت فدعوت بفرسي فخرجت إليّ، فقالت [3] :
إني لا آمن أن يكمن لك، دعه يذهب، فأبيت عليها، وركبت فقفوت أثره
[1] قارن: تاريخ ابن عساكر. مع اختلاف يسير في الألفاظ 39/359.
[2]
قارن: تاريخ ابن عساكر 39/359.
[3]
تاريخ ابن عساكر 39/359.
حتى لحقته وشددت عليه، فانفرج عنه أصحابه فقتلته وطلبت أصحابه فهربوا عني، وأخذت فرسه وسمطت رأسه، ورجعت إلى الدير فألقيت الرأس، ودعوتها ومن معها من نسائها وخدمها.
فوقفت بين يدي، وأمرتها بالرحلة، ومن معها على دواب الدير وسرت بهن إلى العسكر، حتى دفعت بهن إلى العسكر حتى دفعت بهن إلى الوالي فجعل نفلي منهن، فتنفلت المرأة بعينها، وسلمت سائر الغنيمة في المقسم واتخذتها أم أبني.
قال: أبو مروان، وكان أبوها بطريقا من بطارقة الروم له شرف يهاديه ويكارمه ويكاتبه.
وقال الوليد: سمعت عبد الله بن راشد الخزاعي يخبر عمن سمعه من البطال:
يخبر أن هشاما أو غيره من خلفاء بني أمية كان قد (المخطوط ص 196) استعمله على ثغر المصيصة وما يليها، وأنه ران عليه خبر الروم، فوجه سرية لتأتيه بالخبر، فتوجهوا واجلتهم أجلا، فاستوعبوا الأجل.
قال: فأشفقت من مصيبتهم، ولائمة الخليفة، فخرجت متوحدا حتى أوغلت في الناحية التي أمرتهم بها، فلم أجدلهم خبرا، فعرفت أنهم أخبروا بغفلة أهل الناحية الأخرى، فتوجهوا إليها، وكرهت أن أرجع لهم، ولم استنقذهم مما هم فيه، إن كان عدوا يكاثرهم، وأعرف من خبرهم ما أسكن إليه، فلم أجد أحدا يخبرني بشيء، فمضيت حتى أقف على باب عمورية فضربت بابها، وقلت للبواب أفتح لفلان سياف الملك ورسوله، وكنت أشبه به [1] .
فأعلم ذلك صاحب عمورية، فأمره بفتح الباب ففعل وأدخلني، فلما صرت إلى بلاطها، وقفت وأمرت من يشتد إلى بيت يدي إلى باب بطريقها ففعل، ووافيت باب البطريق قد فتح، وجلس لي ونزلت عن فرسي، وأنا متلثم بعمامتي فأذن لي،
[1] تاريخ ابن عساكر 39/360.
ومضيت حتى جلست إلى جانبه فرحب بي فقلت له: أخرج من هنا لكلام حملت إليك، فأخرجهم وغلق الباب، وعاد إلى مجلسه، فاخترطت سيفي وضربت على رأسه، ثم قلت له: قد وقعت بهذا الموضع، فأعطني عهدا حتى أكلمك بما أريد، ثم أرجع من حيث جئت، ولا يتبعني منك خلاف، ففعل.
فقلت: أنا البطال، فأصدقني عما أسألك عنه، وأنصحني وإلا أتيت عليك [1] .
فقال: سل عما بدا لك، فقلت: السرية.
فقال: نعم وافت البلاد غارة لا تدفع أهلها يد لامس، فوغلوا في هذه البلاد، وملأوا أيديهم غنائم، وهذا آخر خبر جاءني، إنهم بوادي كذا، فغمدت سيفي.
وقلت: أدع لي بطعام فدعا، فأصبت منه، ثم قمت فقال لمن حوله: كونوا معه حتى يخرج، ففعلوا ثم قصدت السرية حتى أتيتها وخرجت بها، وبما غنمت فهذا من أعجب ما كان مني [2] .
ثم قتل رحمه الله شهيدا في غزاة غزاها، وقتل معه خلق كثير من المسلمين وفيها يقول الشاعر:[الوافر]
(المخطوط ص 198)
ألم يبلغك من أنباء جيش
…
باقرن غودروا جثثا رماما
تقودهم حتوف لم يطيقوا
…
لها دفعا هناك ولا خصاما
معارك لم تقم فيها بشجو
…
نوائح يلتزمن به التزاما
ولم تهمل على البطّال عين
…
هناك بعبرة تشفى الهياما
[1] تاريخ ابن عساكر 39/360.
[2]
تاريخ ابن عساكر 39/361.
عشية باشر الأهوال صبرا
…
بخيل تخرق الجيش اللهاما
إذا ما خيله حملت عليهم
…
تداعوا من مخافته اهتزاما [1]
فلا تبعد هنالك من شهيد
…
فإنك كنت للهيجا حساما [2]
[1] انهزاما (تاريخ ابن عساكر 39/363) .
[2]
كنت: سقطت من الأصل، وأضيفت من تاريخ ابن عساكر. القصيدة وشرح بعض ألفاظها بتاريخ ابن عساكر 35/363.