الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكرهونكم إكراها على هذا العذاب الأليم، الذي يسوقونكم سوقا إليه، كما تساق السائمة، لا تملك من أمرها شيئا.. «يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» أي في هذا الذي كنتم فيه، وفى هذا الذي صرتم إليه، بلاء من ربكم واختبار لكم.. ففى الحال الأولى اختبار لصبركم على الضرّ، وفي الحال الثانية اختبار لقيامكم بالشكر.
الآيات: (142- 144)[سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 144]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
التفسير: الواو في قوله تعالى: «وَواعَدْنا» ، للاستئناف، حيث بدأت الآيات تعرض وجها آخر من وجوه قصة موسى مع بني إسرائيل..
وقوله تعالى: «وَواعَدْنا» المواعدة لا تكون إلا بين طرفين، والله سبحانه وتعالى هو الذي جعل لموسى هذا الموعد للقائه. ولكن لما كان موسى هو الذي تلقّى هذا الموعد وامتثله دون مراجعة، فكأنه كان عن اتفاق ورضى بينه وبين ربه على هذا الموعد، فصح أن يكون طرفا فيه.
وفي هذا تكريم لموسى، واحتفاء به!
وفي قوله تعالى: «ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» - فى هذا ما يسأل عنه، وهو: -لماذا جاء النظم هكذا: «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» ولو جاء من أول الأمر:
«وواعدنا موسى أربعين ليلة» لكان ذلك مؤديا المعنى، مع الإيجاز، الذي هو أسلوب القرآن الغالب فيه؟.
والجواب: أن الله سبحانه وتعالى ذكر ذلك الموعد في سورة البقرة بقوله تعالى: «وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» (51: البقرة) وسورة البقرة مدنية، وسورة الأعراف مكية.. أي أن ما ذكر هنا في سورة الأعراف هو الذي نزل به القرآن أولا، فجاء به مفصلا.. «ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ» ..
ثم لما جاء ذكر هذا الموعد مرة أخرى جاء مجملا: «وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» وذلك بإحالة المجمل على المفصّل..
وإذن فلا بد أن يكون لهذا التفصيل حكمة.. فما هى هذه الحكمة؟.
ونقرأ النصّ القرآنى: «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ» فنجد أن الثلاثين ليلة لم تكتمل لتكون موعدا تاما حتى أضيفت إليها الليالى العشر، فتمت حينئذ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَأَتْمَمْناها» .
والإتمام في مقام الفضل والإحسان، هو زيادة على المطلوب من الفضل والإحسان.. فضلا وكرما.. وهذا يعنى أن موسى- عليه السلام كان على موعد ليكون فى ضيافة ربّه ثلاثين ليلة.. وهذا ما أذن به لموسى في أول الأمر، فلمّا أنس بألطاف ربّه، ووصل نفسه بأنوار السماء، وأضاف وجوده إلى العالم العلوي- عزّ عليه أن تنقطع رحلته بعد هذه المدة، وأن يعود إلى عالم التراب والظلام، ولكن لمّا لم يكن بدّ من أن يعود إلى قومه، ويتمم رسالته التي بدأها معهم، فقد كان من لطف الله به، ومن تمام نعمته عليه أن مدّ ضيافته عشر ليال أخرى..! فكانت ضيافته أربعين ليلة.! وكان ذلك من تمام النعمة..
حيث أن هناك نعمة، وتمام نعمة!
والله سبحانه وتعالى قدّر هذا الموعد بأربعين ليلة في علمه الأزلى، ولكنه سبحانه أعطى منها موسى أولا ثلاثين ليلة، ثم أتمّ عليه وعده، بما كشف له من سوابغ فضله، ومزيد نعمائه، بهذه الليالى العشر، التي وقعت من نفس موسى أكثر مما كان للثلاثين ليلة من وقع في نفسه، إذا أنها جاءت على شوق ولهفة، ووقعت على غير انتظار وتوقع.. وهكذا يكشف الله لأوليائه، وأصفائه، من ألطافه التي قدّرها لهم في علمه، على هذا الأسلوب الذي يضاعف من آثارها، حين تجىء في أنسب الأحوال الداعية لها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى للنبى الكريم:«إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» .. وقوله سبحانه ليوسف على لسان يعقوب: «وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ (6: يوسف) فإتمام النعمة هو البلوغ بها إلى غايتها، من التمام والكمال..
فهذه الليالى العشر، هى إحسان، ونعمة إلى نعمة.. فإنها وإن بدت أنها نافلة هى أوقع من الأصل، لأنها- كما قلنا- جاءت على غير انتظار، ووقعت أكثر مما كان يؤمّل ويرجى..!
ففى بشارة الله سبحانه وتعالى لامرأة إبراهيم بالولد، بعد اليأس منه، جاءت إليها البشرى، لا بالولد وحده، بل بالولد، وولد الولد، حيث يقول الله تعالى:«فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» .. ومع أن مولودها هو «إسحق» وهو غاية ما كانت تتمنىّ على الله.. فإنّ مما يضاعف من فرحتها أن ترى لإسحق ولدا.. وهذا الولد هو- فى الواقع- الذي وجدت فيه ريح الولد، الذي تنسى به أنها عاقر، وأنها قد بلغت من الكبر عتيّا.. فهى بهذا الولد الذي يولد لإسحق، يردّ إليها اعتبارها بأنها أنثى كاملة، وأنها تستقبل أول حياتها كأنثى ولود، يكون لها أولاد وحفدة!.
وهذا الذي كان من الله سبحانه لامرأة إبراهيم كان لإبراهيم، إذ يقول الله سبحانه:«وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً» (72: الأنبياء) ..
أي زيادة في الفضل والإحسان. فكلمة «نافلة» حال من يعقوب قوله تعالى: «وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» هو بيان لما كان عليه الموقف في بنى إسرائيل بعد أن ذهب موسى لموعده مع ربّه.. فلقد جعل موسى أخاه هرون خليفة عليهم من بعده:
إذ يقول له «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي» ووصّاه بما ينبغى أن تكون عليه سيرته فيهم، فقال «وأصلح» وهرون عليه السلام، نبىّ كريم، لا يكون منه إلا ما هو صالح، ولكنه توكيد لرسالته، وتحذير له مما يقع من القوم من مفاسد وشرور، فالقوم- كما يعرفهم موسى- لا يستقيمون على حقّ، ولا يصبرون عليه، ومن هنا كان تحذيره لأخيه بقوله:«وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» .
الميقات: الموعد الذي أقّت له وقت، فهو مكان وزمان معا.. مكان معلوم، ووقت محدود..
وحين سمع موسى كلام ربّه، كلاما مباشرا من غير واسطة، اشتاقت نفسه أن يرى ربّه الذي أسمعه صوته، وأطمعه ذلك في أن يطلب مالا يطلب، وذلك حين قدّر أن الذي يسمعه بأذنه يمكن أن يراه بعينه، على أيّة حال تكون هذه الرؤية..!
ولهذا لم يطلب موسى الرؤية إلا بعد أن سمع الكلام.. فقال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» وهذا ما يشير إلى أن موسى لم يكن يطلب رؤية كتلك الرؤية التي تقع له من عالم الأشياء.. وإنما هى رؤية من نوع فريد، كما أن الكلام الّذى سمعه
كان على صورة لم يعهدها فيما يسمع من أصوات.. فمعنى قوله «رَبِّ أَرِنِي» أي بيّن لى طريق النظر إليك، فإن بيّنت لى أنظر إليك، وإلّا فلا سبيل إلى النظر.. ومثل هذا قول إبراهيم عليه السلام:«رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى» .
وقد أجاب الله موسى بقوله: «لَنْ تَرانِي» .. هكذا حكما قاطعا مؤبدا..
إذ أن ذلك أمر مستحيل..
ثم كشف الله- سبحانه- لموسى عن وجه الاستحالة هذه فقال له:
«وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي» ..
وينظر موسى إلى الجبل..
«فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً» .
وهكذا يرى موسى بعينيه، الشاهد الذي يكشف له وجه الاستحالة في رؤية ربّه.. إن الجبل، فى ضخامة كونه، وشدة أسره، لم يتحمّل لمحة من لمحات تجلّى الذات الإلهية له.. لقد استشعر هذا الحجر الأصمّ جلال الله وعظمته، فتهاوى، وتفتت، وصار حطاما.. فكيف بالإنسان وضالة جسمه، وما فيه من مشاعر وأحاسيس؟ أيحتمل شيئا من هذا الجلال وتلك الخشية التي تصدّع لها الجبل، وتشقق، ثم هوى؟ لقد صعق موسى مما رأى من الجبل، ومن تصدعه وتشققه وتهاويه.. فكيف لو كان ما نزل بالجبل نزل به؟.
وهنا يدرك موسى أن ما طلبه كان أمرا فوق المستحيل.. فيفزع إلى الله تائبا من تلك الجرأة التي دعته إلى هذا الطلب.
«فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» بك، وبجلالك وعظمتك..
قوله تعالى: «قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» .