المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيات: (27- 31) [سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 31] - التفسير القرآني للقرآن - جـ ٥

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌الآيات: (88- 93) [سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 93]

- ‌الآيات: (94- 99) [سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 99]

- ‌الآيات: (100- 102) [سورة الأعراف (7) : الآيات 100 الى 102]

- ‌الآيات: (103- 116) [سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 116]

- ‌الآيات: (117- 122) [سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 122]

- ‌الآيات: (123- 126) [سورة الأعراف (7) : الآيات 123 الى 126]

- ‌الآيات: (127- 129) [سورة الأعراف (7) : الآيات 127 الى 129]

- ‌الآيات: (130- 133) [سورة الأعراف (7) : الآيات 130 الى 133]

- ‌الآيات: (134- 137) [سورة الأعراف (7) : الآيات 134 الى 137]

- ‌الآيات: (138- 141) [سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 141]

- ‌الآيات: (142- 144) [سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 144]

- ‌الآيات: (145- 147) [سورة الأعراف (7) : الآيات 145 الى 147]

- ‌الآيات: (148- 150) [سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 150]

- ‌الآيات: (151- 152) [سورة الأعراف (7) : الآيات 151 الى 153]

- ‌الآيات: (154- 155) [سورة الأعراف (7) : الآيات 154 الى 155]

- ‌الآيات: (156- 159) [سورة الأعراف (7) : الآيات 156 الى 159]

- ‌رسالة الإسلام ونسخها للرسالات السابقة

- ‌الآيات: (160- 162) [سورة الأعراف (7) : الآيات 160 الى 162]

- ‌الآيات: (163- 167) [سورة الأعراف (7) : الآيات 163 الى 167]

- ‌الآيات: (168- 171) [سورة الأعراف (7) : الآيات 168 الى 171]

- ‌الآيات: (172- 174) [سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174]

- ‌الآيات: (175- 179) [سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 179]

- ‌الآيات: (180- 185) [سورة الأعراف (7) : الآيات 180 الى 185]

- ‌الآيات: (186- 188) [سورة الأعراف (7) : الآيات 186 الى 188]

- ‌الآيات: (189- 198) [سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 198]

- ‌الآيات: (199- 206) [سورة الأعراف (7) : الآيات 199 الى 206]

- ‌8- سورة الأنفال

- ‌الآيات: (1- 4) [سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 4]

- ‌الآيات: (5- 8) [سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 8]

- ‌الآيات: (9- 11) [سورة الأنفال (8) : الآيات 9 الى 11]

- ‌الآيات: (12- 19) [سورة الأنفال (8) : الآيات 12 الى 19]

- ‌الآيات: (20- 26) [سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 26]

- ‌الآيات: (27- 31) [سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 31]

- ‌الآيات: (32- 35) [سورة الأنفال (8) : الآيات 32 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 40) [سورة الأنفال (8) : الآيات 36 الى 40]

- ‌الآيات: (41- 44) [سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 44]

- ‌الآيات: (45- 48) [سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 48]

- ‌الآيات: (49- 54) [سورة الأنفال (8) : الآيات 49 الى 54]

- ‌الآيات: (55- 60) [سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 60]

- ‌الآيات: (61- 63) [سورة الأنفال (8) : الآيات 61 الى 63]

- ‌[الحرب والسلام.. فى الإسلام]

- ‌الآيات: (64- 66) [سورة الأنفال (8) : الآيات 64 الى 66]

- ‌المسلم.. وكم حسابه فى ميدان القتال

- ‌الآيات: (67- 71) [سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 71]

- ‌الآيات: (72- 75) [سورة الأنفال (8) : الآيات 72 الى 75]

- ‌9- سورة التّوبة

- ‌نزولها:

- ‌الآيات: (1- 5) [سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 5]

- ‌الآيات: (6- 15) [سورة التوبة (9) : الآيات 6 الى 15]

- ‌الآيات: (16- 18) [سورة التوبة (9) : الآيات 16 الى 18]

- ‌الآيات: (19- 22) [سورة التوبة (9) : الآيات 19 الى 22]

- ‌الآيتان: (23- 24) [سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24]

- ‌الآيات: (25- 27) [سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27]

- ‌الآيتان: (28- 29) [سورة التوبة (9) : الآيات 28 الى 29]

- ‌الآيات: (30- 33) [سورة التوبة (9) : الآيات 30 الى 33]

- ‌الآيات: (34- 35) [سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 37) [سورة التوبة (9) : الآيات 36 الى 37]

- ‌الآيات: (38- 41) [سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 41]

- ‌الآيات: (42- 45) [سورة التوبة (9) : الآيات 42 الى 45]

- ‌الآيات: (46- 52) [سورة التوبة (9) : الآيات 46 الى 52]

- ‌الآيات: (53- 57) [سورة التوبة (9) : الآيات 53 الى 57]

- ‌الآيات: (58- 60) [سورة التوبة (9) : الآيات 58 الى 60]

- ‌الزكاة والتكافل الاجتماعى

- ‌الآيات: (61- 63) [سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 63]

- ‌الآيات: (64- 70) [سورة التوبة (9) : الآيات 64 الى 70]

- ‌الآيتان: (71- 72) [سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72]

- ‌الآيتان: (73- 74) [سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74]

- ‌الآيات: (75- 80) [سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 80]

- ‌الآيات: (81- 85) [سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 85]

- ‌الآيات: (86- 89) [سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 89]

- ‌الآيات: (90- 92) [سورة التوبة (9) : الآيات 90 الى 92]

الفصل: ‌الآيات: (27- 31) [سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 31]

والأذى، فآواهم، وأيدهم بنصره، ومكّن لهم من عدوهم، وملأ أيديهم من المغانم..

وفى هذا ما يدعو المسلمين إلى الدعوة إلى الله، وإلى إصلاح الفاسدين، وإقامة المنحرفين، وهداية الضالين، حتى يكثر جمعهم، ويصبحوا أصحاب الكلمة فى مجتمعهم، فقد عرفوا القلّة، وما فيها من ذلة وهوان..

وهذا هو السرّ- والله أعلم- فى عطف هذه الآية على قبلها، إذ كانت الآية السابقة تدعو إلى التناصح والتواصي بالخير فيما بين المؤمنين، وكانت هذه الآية تذكيرا بما كان فيه المسلمون وهم قلة، وكيف صار بهم الحال بعد أن كثروا، وتضاعفت أعدادهم.. وهكذا كلّما ازدادوا كثرة، وازدادوا صلاحا وتقوى، كلّما مكّن الله لهم فى الأرض، وملأ أيديهم من طيباتها..

‌الآيات: (27- 31)[سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 31]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)

ص: 592

التفسير: نبّه الله المؤمنين فى الآية السابقة، ولفتهم إلى ما كانوا فيه من قلّة وذلّة، وما أصبحوا فيه من كثرة ومنعة وعزّة.. وذلك ليذكروا فضل الله عليهم، وليجعلوا ولاءهم خالصا له..

وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» دعوة للمؤمنين إلى القيام بأمر الله، والتزام طاعته وطاعة رسوله، والوقوف عند الحدود التي بينها الله تعالى، فيما أنزل على رسوله من آياته وكلماته..

فالخروج على أمر الله، والخلاف لرسوله، هو خيانة لله ولرسوله، بعد أن علموا، وتثبتوا مما أمرهم الله به، أو نهاهم عنه.. ثم هو خيانة للمرء نفسه، إذ نقض العهد، وخان الأمانة التي ائتمنه الله عليها..

وهذا مقابل لقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ» .

ففى هذه الآية دعوة إلى طاعة الله ورسوله، والاستجابة لما يدعوهم الرسول إليه، ويندبهم له، متى بلغت أسماعهم دعوته.. فالموقف هنا هو فيما بين المؤمنين والنبىّ، حال حياته منهم..

أما ما فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» فهو امتثال لأوامر الله، وما بيّنه الرسول الكريم للمؤمنين فى أقواله وأفعاله من أمورهم، وذلك فيما بينهم وبين أنفسهم، حيث لا يكون الرسول معهم، أو يكون الرسول قد أخلى مكانه من هذه الدنيا..

وحينئذ تكون أوامر الشريعة، وأحكامها أمانة أؤتمن الإنسان عليها، فإذا ضيع تلك الأمانة بخروجه على أحكام الشريعة، والعدوان على حدودها، فقد

ص: 593

خان الأمانة، وخان الله ورسوله، وخان نفسه، التي هى أمانة عنده، والتي يكون قد ضيّعها، حين عرضها فى معرض التهلكة، إذ عصى الله ورسوله..

قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ»

هو تنبيه للمؤمنين إلى مكمن الخطر، الذي تهبّ منه عليهم ريح السّموم، التي تعصف بإيمانهم، وتنحرف بهم عن الصراط المستقيم..

وفى الأموال والأولاد يكمن هذا الداء، الذي يجور على إيمان المؤمن، ويحمله على مركب الفتنة والضلال، إن لم يأخذ حذره، ويحرس نفسه من هذا العدو المتربص به.

فللمال سلطان على النفوس، وشهوة غالبة على القلوب.. حيث لا حدّ للمال الذي يبلغ عنده الإنسان مبلغ الرضا والشبع، بل إنه كلّما ازداد الإنسان جمعا للمال كلما ازداد نهمه وجوعه، بل ازداد سعاره وكلبه، بحيث يصبح جمع المال همّه وغايته، فلا يبغى المال لتحقيق رغبة، أو إشباع شهوة.. وإنما رغبته هو المال نفسه، وشهوته هو المال، لا شىء سواه.. ومن كان هذا شأنه فلن يملأ عينه مال الدنيا كلها، لو اجتمع ليده..

كالحوت لا يكفيه شىء يلقمه

يصبح ظمآن وفى الماء فى فمه

وهذا هو موطن الفتنة، ومهبّ الشر من جانب المال.. فإذا لم يأخذ الإنسان.. حذره، ويصحب المال على خوف ومحاذرة، جرفته شهوة المال إلى لحجج الفتنة والضلال، فلا يعرف شاطىء الأمن والسلامة بعد هذا أبدا..

ص: 594

وللأولاد مثل ما للمال، من سلطان على الوالد، ومن تمكّن فى قلبه، واستيلاء على مشاعره، بحيث يحمله ذلك على أن يؤثرهما على نفسه، وأن يسوق إليهما كل ما وسعه جهده وحيلته، من ألوان البرّ والخير..

وتلك غريزة طبيعية فى الإنسان، بل وفى الحيوان.. وليس مما يحمد فى الإنسان أن تخمد هذه الغريزة أو تضعف، ولكن الذي لا يحمد، هو أن تجنح هذه الغريزة إلى جانب المغالاة، وتعدل بالإنسان عن الطريق السّوىّ، فيحمله ذلك على أن يقتطع من حقوق الناس، ليملأ يد أبنائه مما يشاءون، أو يشاء هو لهم.

ومن هنا كانت لفتة القرآن الكريم إلى هاتين الشهوتين: شهوة المال، وشهوة البنين، وإلفات الناس إلى الحذر منهما، ومن الوقوع تحت سلطانهما..

وفى سبيل هذا الجهاد الذي يجاهد به المرء نفسه، فى مغالبة هاتين الشهوتين، يلقى المثوبة والرضوان من الله فى الآخرة، عوضا عما فاته من إشباع شهواته، فى الدنيا «وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» .

قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» .

الفرقان: ما يفرّق به بين الشيئين، والمراد به هنا، القوة التي يفرق بها بين الحق والباطل.. وهذه الفرقان، أو تلك القوة إنما يمدّ بها الله أولئك الذين يتقونه، ويحرسون أنفسهم ويراقبونها من أن تتعدى حدوده..

ومن تقوى الله، حراسة النّفس من الشهوات المسلطة عليها، كشهوة المال والبنين، التي نبّهت إليها الآية السابقة..

ص: 595

وفى تقوى الله قوّة يجد منها الإنسان العون على مغالبة الأهواء، ودفع الشهوات أو كسر حدّتها..

وفى تقوى الله نور يهتدى به الإنسان، إلى مواطن الحق والخير، حيث يبدو له وجه الحق واضحا وضيئا، يدعوه إليه، ويغريه بالإقبال عليه، على حين يرى وجه الباطل كاسفا كئيبا، فيعرض عنه، ويفرّ منه.

ومن هنا كان مع تقوى الله دائما، الهدى والنور، والمغفرة والرحمة، والفضل العظيم من رب العالمين.. حيث يكون الإنسان فى صحبة التقوى، على نور من ربّه، يميز به الحق من الباطل، فلا تتفرق به السبل، ولا يضل الطريق إلى الله أبدا..

قوله تعالى: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» .

الواو، هنا للاستئناف.. والخبر الذي بعدها مستأنف..

ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن تقوى الله تعين الإنسان على اجتياز الصعاب، ومغالبة النزعات، واحتمال الأرزاء.. وقد كان هذا هو موضوع الآية السابقة.

وفى هذه الآية، المثل الكامل فى التزام طريق الحق، حيث يتصدّى النبيّ- وهو سيد المتقين- لما يسوق إليه المشركون من ألوان البلاء، وما يرمونه به من صنوف الإعنات والكيد، فيلقى ذلك صامدا صابرا، لا يثنيه الإغراء، ولا ينهنه الوعيد، حتى ليلقى قومه بتلك الكلمة الحاسمة الفاصلة، حين عرضوا عليه ما عرضوا من مال وسلطان:«والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته، أو أهلك دونه» !! فقد صمد

ص: 596

النبىّ الكريم أمام تلك الفتن العاصفة، التي كانت تهب من آفاق المشركين، ولم ينحرف عن طريقه القويم قيد شعرة.

ومن مكر الذين كفروا بالنبيّ ما كشفه الله تعالى فى تلك الآية، وهو أنهم أرادوا به أكثر من شر، فإمّا أن يثبثوه، أي يفسدوا عليه أمره، ويعجزوه عن القيام بدعوته. أو يقتلوه إن هو أبى إلا أن يمضى فى طريقه، ويستمر فى دعوته، وأعجزتهم الوسائل المتاحة لهم عن الإمساك به دون أن يتحرك.. وإما أن يحملوه على أن يخرج من بينهم، ويترك موطنه الذي نشأ فيه..

هذا كان مكرهم، وذلك كان كيدهم.

وقد أبطل الله هذا المكر، وأفسد هذا الكيد.. فجاء أمر النبىّ على خلاف ما أرادوا وقدّروا..

لقد حملوه على أن يهاجر من بينهم، ففاتهم بذلك حظّهم من نور الله، الذي جعله الله إلى قوم هم أولى به وأحق منهم.. ثم إن من دخل منهم فى الإسلام من بعد هذا، لم يكن فى المنزلة التي أخذها الذين سبقوا إلى الإسلام وهاجروا، أو أولئك الأنصار، الذين آووا ونصروا..

وفى قوله تعالى: «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إنما أخذهم بمثل فعلهم، وقتلهم بالسلاح الذي حاربوا الله ورسوله به..

والمكر: التدبير للأمر، وأخذ الوسائل المحققة له.. وقد يكون المكر شرّا، حيث يراد للشر والضلال، وقد يكون حسنا، إذا أريد به إحقاق حق، أو إبطال باطل.. وفى هذا يقول الله تعالى:«وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» .

ص: 597

فالمكر الذي مكره المشركون بالنبيّ، هو من المكر السيّء، ولا حاجة إلى وصفه بالسوء، لأنه مما أبطله الله، وقلب على أهله تدبيرهم الذي دبروه..

وكفى بهذا شناعة وسوءا له.

وقوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .

أي إن هؤلاء الكافرين الذين يمكرون بالنبيّ هذا المكر، ويدبّرون له هذا التدبير، لا يستمعون لكلمات الله ولا يعقلونها، ولو أنهم سمعوها وعقلوها لما كان منهم هذا الضلال الذي هم فيه، ولرأوا أن النبىّ لا يحمل إليهم إلا الهدى، ولا يدعوهم إلا للخير..

فهؤلاء الكافرون، إذا تتلى عليهم آيات الله لم يعطوها آذانا صاغية، بل تقع الكلمات على آذانهم كأنها أصوات لا مفهوم لها، ولهذا إذا قيل لهم استمعوا إلى كلمات الله، قالوا: قد سمعنا ما يكفى، ولسنا فى حاجة إلى أن نسمع جديدا، فما هذا الذي نسمعه إلا كلام من كلامنا، ولو أردنا أن نقول مثله لقلنا، وما يقصّه علينا من قصص: إن هو إلا أساطير الأولين، وخرافات السابقين، وإن عندنا من هذا شيئا كثيرا.. فليس يعجزنا- والأمر كذلك- أن نقول مثل هذا الذي يسمعنا إيّاه محمد من هذا الكلام الذي يقول إنه من عند الله، أو إنه من كلام الله!.

والأساطير: جمع أسطور، وأسطورة، وهو ما كان من واردات شتّى، للخيالات والخرافات، وأصلها مما سطّره الأولون، وخلّفوه وراءهم مكتوبا فى ألواح مسطورة.. ولأن الأولين كانت لهم نظرة إلى الحياة وإلى الوجود

ص: 598

غير نظرة من جاءوا بعدهم، والذين رأوا فيما كان للأولين من علوم ومعارف، أنها أوهام وخيالات، لا تثبت لتجربة، ولا تستقيم على منطق.

وقد وقع فى تقديرهم الخاطئ أن الله سبحانه إذا خاطبهم بكلماته، جاءت هذه الكلمات على غير الكلام الذي ألفوه، حتى يكون كلام الله شيئا يخالف منطق البشر! ولو فكروا قليلا فى هذا المنطق السقيم، لعرفوا أن أبلغ الخطاب ما جاء مطابقا لمقتضى الحال، وأن من أولى مقتضيات الحال فى مخاطبة الإنسان، أن يجىء الكلام على مستوى فهمه ومدركاته، وعلى حدود تصوراته وتخيلاته، وقبل هذا كله أن يكون باللسان الذي يحسن الفهم والإفهام به.

ولو أنهم فكروا قليلا فى هذا الكلام الذي خاطبهم الله به، لوجدوا أنه وإن صيغ من لغتهم، ونظم من كلماهم، فإنه ينفرد وحده من بين كل ما نطقوا به من كلام، وما تحدثوا به من لغة، وأنه- وهو كلام، وكلام معروف لهم وجهه، وجار على ألسنتهم التعامل به- هو معجز مفحم، يتحدّى على الزمن كلّه، أرباب البلاغة، وسادة البيان أن يأتوا بسورة من مثله..

وقد نازلهم القرآن فى هذا الميدان، ودعاهم مرة بعد مرة، أن يلقوه على هذا الطريق، وأن يجيئوا بسورة أو بعض سورة من تلك الأساطير التي يقولون إنها مادة هذا الكلام، ونظام عقده، وقد ردّ الله تعالى عليهم بقوله:

«أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ» (33- 34: الطور) .

وقد خرسوا، وخرس معهم كل بليغ منطبق إلى يوم القيامة!.

ص: 599