الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» .
أما الذين فى قلوبهم مرض ونفاق، فإنهم لا يعجزهم العثور على العلل والمعاذير التي يقدّمونها للنبىّ والمسلمين، لتكون مبررا لتخلفهم عن الجهاد.
فهؤلاء هم الذين يجيئون إلى النبىّ بأعذارهم الكاذبة، ويستأذنونه فى التخلف، كما يقول سبحانه «إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ» .. والريب، هو الشك والارتياب، ورابه الأمر، فارتاب فيه، أي شك، ووقع فى حيرة وتردد بين الإقدام والإحجام.
الآيات: (46- 52)[سورة التوبة (9) : الآيات 46 الى 52]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَاّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَاّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
التفسير: فى هذه الآيات يفضح الله أولئك المنافقين ومن فى حكمهم، ممن تخلّفوا عن الجهاد فى غزوة «تبوك» التي جاءت الدعوة إليها عامة شاملة فى قوله تعالى:«انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ..
لأنها كانت غزوة ذات طابع خاص على ما سنرى:
فبعد أن فتح النبىّ مكة، ودخل الناس فى دين الله أفواجا، نظر إلى خارج الجزيرة العربية، فرأى على حدودها من جهة الشام قبائل عربية قد أقامت علاقات بينها وبين دولة الروم، كالعلاقة التي بين التابع والمتبوع.. ذلك أنه لكى يأمن الروم تسلل العرب إليهم، أو مفاجأتهم بالغارات على قراهم وزروعهم، أقاموا بعض القبائل العربية حرّاسا على تلك الحدود، وضمّنوهم سلامة هذه الحدود من كل مغير..
وكانت دولة الروم تنظر إلى الدعوة الإسلامية نظرة سياسية إلى جانب النظرة الدينية التي كانت تنظر بها إليها، وترى فيها أنها دعوة تهدد المسيحية التي تدين بها.
وفى مجال النظرة السياسية، رأى الروم أن الأمة العربية قد أصبحت بهذه الدعوة أمة واحدة، بعد أن كانت قبائل متنازعة متقاتلة.. وهذا ما يجعل من العرب قوة يمكن أن تهدد الروم، وتفتح طريق الحدود الذي أقامت من العرب حرّاسا عليه.
وقد تنبّه الروم إلى ذلك، وأخذوا يعدّون العدّة له، وجاءت الأنباء إلى النبىّ بذلك، وأن الروم يريدون أن يستميلوا القبائل العربية المتاخمة لهم إلى
دينهم، وأن يعقدوا معهم حلفا ضدّ دولة العرب الناشئة..
ولهذا بادر النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- إلى مبادأة القوم، وأخذ السبيل عليهم إلى الغاية التي أرادوها.. فدعا المسلمين إلى الجهاد، وأراهم الوجه الذي يقصده، والغاية التي يريدها، وقد كان- صلوات الله وسلامه عليه- إذا أراد الغزو لم يكشف عن الجهة التي يقصدها، ولا القوم الذين يقاتلهم..
أما فى هذه الغزوة، فقد كشف للمسلمين عنها، وأعلمهم أنه يريد حرب الروم..
وذلك حتى يأخذ المجاهدون الأمر عدّته، ويعملوا له حسابه، إذ كانت الشقّة بعيدة، والعدوّ كثير العدد والعدّة.
وكانت دعوة النبىّ إلى لقاء الروم فى أعقاب سنة شديدة الجدب، تخلّف فيها المطر، فأضرّ بالناس، والزروع والأنعام، وقد حضر بين يدى الناس ما نضج من ثمار النخيل والأعناب، على قلته، وشدة الحاجة إليه.. فكان ذلك ابتلاء.. لأنهم يدعون إلى القتال بعد سنة قاسية مجدبة، وفى موجات عاتية من حرور وسموم.. على حين قد حضرهم شىء من نضيج الثمار، وفىء الظلال.. فليس بعد هذا الابتلاء ابتلاء، ولا وراء هذا الامتحان، امتحان..
وتعالت حكمة الله، الذي أراد أن يمحّص ما فى صدور المؤمنين من إيمان، وليبتلى ما فى قلوبهم من ولاء لله ولرسوله.. فإن قسوة هذا الامتحان، هى التي تكشف عن معدن الإيمان، حتى يرى المؤمنون حظوظهم منه، وذلك بعد أن تمت الرسالة، وبلغت الدعوة غايتها.
وقد كشف هذا الامتحان فعلا عن أكثر من حقيقة:
فهناك مؤمنون لا يعرفون غير السمع والطاعة لله ولرسوله.. ولا يؤثرون على ولائهم لله ولرسوله، نفسا أو مالا أو ولدا..
فهؤلاء السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.. ما إن سمعوا دعوة
الرسول، حتى كانوا جميعا الجواب الحاضر لها.. لم يتخلّف منهم متخلّف، ولم يبطّىء منهم مبطّىء.. وقد أنفقوا فى سبيل الله كل ما يملكون.. وكان عثمان بن عفان رضى الله عنه أكثر الناس إنفاقا في تجهيز جيش العسرة، حتى لقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ما رأى من عثمان قال:
«اللهم ارض عن عثمان فإنّي عنه راض» .
وهؤلاء معسرون يريدون الغزو والجهاد فى سبيل الله.. ولكن ليس هناك ما يحملون عليه إلى ميدان القتال.. فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه ما يحملون عليه، فلما أجابهم الرسول بقوله:«لا أجد ما أحملكم عليه» .. «تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» ..
وهؤلاء هم البكّاءون، كما سماهم المسلمون يومئذ..
ثم هناك أصحاب تعلّات كاذبة، ومعاذير واهية، جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ليستأذنوا فى التخلّف، فأذّن لهم النبىّ، أخذا بظاهر أمرهم ولكنّ الله سبحانه أخذهم بما أخفوا، فلم يقبل لهم عذرا.. فقال تعالى:
وقد عاتب الله سبحانه وتعالى النبىّ فى قبول عذرهم والإذن لهم، فقال تعالى:«عَفَا اللَّهُ عَنْكَ.. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» .
وهناك منافقون.. وأشباه منافقين.. اجتمعوا على الكيد للإسلام، وتوهين عزائم المسلمين الذين خفّوا للجهاد.. ومنهم عبد الله بن أبىّ بن سلول..
كان على رأس فريق من أصحابه، فى جانب من معسكر المسلمين الذين اجتمعوا ظاهر المدينة استعدادا للسير.. فلما تحرك النبىّ بركب المسلمين تخلّف عبد الله ابن أبىّ فيمن معه من المنافقين..
وهكذا.. تكشفت معادن المؤمنين، فكانوا فى منازلهم من الإيمان ظاهرا وباطنا، بعد أن كانوا على باطن لا يدرى إلا الله ما ينطوى عليه..
ثم سار النبي صلوات الله وسلامه عليه، بما اجتمع له من المسلمين، وكانت عدتهم ثلاثين ألفا، منهم عشرة آلاف فارس، كما يقول الرواة..
وقد وقعت فى الطريق أحداث.. منها:
أن بعض الذين تخلّفوا عن الركب، قد راجعوا أنفسهم، فرجعوا إلى الله، وآثروا ما عنده، فلحقوا بركب النبىّ، وهو فى الطريق، قبل أن يبلغ تبوك..
ومن الأمثلة الرائعة للنفس المؤمنة اللّوامة، التي تلفظ الغريب الوارد عليها من وساوس الشيطان- ما كان من أبى خيثمة من بنى سالم بن عوف..
فإنه كان ممن اعتذر لرسول الله، وقبل الرسول الكريم عذره.. فتخلف مع المتخلفين.. ولكن كان معه فى هذا التخلف ضمير ينخسه، وقلب موزّع بين داعية نفسه إلى الدعة والظل، وبين داعى إيمانه إلى اللحاق برسول الله، ومشاركته مرارة السفر وقسوة الهجير..
قالوا إنه بعد أن سار النبي أياما، دخل أبو خيثمة فى يوم حار إلى حائط (أي حديقة له) فوجد امرأتين له فى عريشين لهما، قد رشّت كل واحدة منهما عريشها، وبرّدت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما.. فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الضّحّ «1» والريح والحر، وأبو خيثمة فى ظل بارد، وطعام مهيأ، وامرأة
(1) الضح: بالكسر: الشمس وضوؤها، والمكشوف البارز من الأرض..
والمراد به هنا: التعرض للشمس فى العراء.
حسناء.. فى ماله مقيم؟ ما هذا بالنّصف «1» ! ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم خرج فى طلب رسول الله، حتى أدركه حين نزل تبوك!! قالوا: وكان يرافق أبا خيثمة فى الطريق عمير بن وهب الجمحي، يطلب اللحاق برسول الله.. حتى إذا دنوا من تبوك، قال أبو خيثمة لرفيقه: إن لى ذنبا! فلا عليك أن تتخلّف عنى حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل، حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نازل تبوك، قال الناس، هذا راكب على الطريق مقبل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«كن أبا خيثمة» فقالوا يا رسول الله.. هو والله أبو خيثمة.. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولى لك يا أبا خيثمة «2» » ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير.
هذا الموقف الرائع يقابله موقف منافق متخاذل كان من رجل يظهر الإيمان، ويضمر ما الله عالم به.. ذلكم هو الجدّ بن قيس من بنى سلمة.. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى التجهز للغزو، وقال له: «يا جدّ..
«هل لك العام فى جلاد بنى الأصفر؟» (يعنى الروم) فقال: يا رسول الله:
«أو تأذن لى ولا تفتنّى!! فو الله لقد عرف قومى أنه ما من رجل بأشدّ عجبا بالنّساء منى، وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر ألا أصبر!!» فأعرض عنه رسول الله، وقال «قد أذنت لك..» .. وفى الجدّ بن قيس
(1) النّصف: بفتح الصاد: الانصاف، والعدل.
(2)
قوله صلى الله عليه وسلم: أولى لك يا أبا خيثمة.. هو مدح لأبى خيثمة، وأن ما فعله هو الخير الذي هو أهل له، وجدير به.
نزل قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ..»
وحين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيش، أقام على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وخلّف رسول الله على أهله علىّ بن أبى طالب- كرم الله وجهه- فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلّفه إلا استثقالا له، وتخفّفا من صحبته!! فلما بلغ عليا مقالة المنافقين فيه، أخذ سلاحه، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله.. زعم المنافقون أنك إنما خلفتنى استثقالا وتخففا من صحبتى، فقال: «كذبوا، ولكنى خلّفتك لما تركت ورائي، فارجع واخلفني فى أهلى وأهلك.. أفلا ترضى يا علىّ أن تكون منى بمنزلة هرون من موسى.. إلّا أنه لا نبىّ بعدي؟ فرجع علىّ بهذه الخلعة التي خلعها الله ورسوله عليه، وكبت الله المنافقين، وملأ قلوبهم حسرة..
وفى الطريق إلى تبوك مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر من ديار ثمود، فأمر أصحابه ألا يشربوا من مائها، وألا يتوضئوا منه للصلاة.. ثم سجّى- صلى الله عليه وسلم ثوبه على وجهه، وحثّ راحلته، ثم قال:
«لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون، خوفا من أن يصيبكم مثل ما أصابهم» .
وكان أبو ذر- رضى الله عنه- ممن تخلف عن ركب رسول الله، إذ لم يكن قد أتمّ جهازه، وأبطأ به بعيره عن اللحاق بالركب..
وكان الناس يذكرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا تخلفوا فى الطريق.. فيقولون فلان تخلف.. فيقول الرسول: «دعوه.. فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه.» .
وكان من أمر أبى ذرّ أن بعيره قد كلّ عن السير، فأخذ متاعه وحمله على ظهره، وسار يتبع الرسول.. ونزل الرسول فى بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين، فقال يا رسول الله إن هذا الرجل يمشى على الطريق وحده..
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أباذرّ» فلما تأمله القوم، قالوا يا رسول الله:«هو والله أبو ذرّ» فقال صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أباذر..
يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» .
وفى تبوك أقام النبي صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة، انجحر فيها الروم إلى مسالحهم وقراهم.. وفتح الرسول، دومة الجندل، فتحها له خالد بن الوليد، وجاء بصاحبها مستسلما لرسول الله، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية..
وسنعرض بعض أحداث هذه الغزوة عند تفسير بعض الآيات التي نزلت فيها..
هذه الآية تكشف عن وجه من وجوه الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك، وقدّموا بين يدى رسول الله أعذارهم الكاذبة..
فهؤلاء الذين تخلّفوا لم يكونوا على نيّة الجهاد فى سبيل الله، وأنهم لو كانوا على تلك النية لأعدّوا للجهاد عدّته، ولأخذوا له أهبته، حتى إذا دعا الداعي إليه، كانوا وكان بين أيديهم أدوات الجهاد وعدّته.. ولكنهم لم يكونوا أبدا على نية الجهاد، بل كانوا على كره قائم فى نفوسهم له، فكره الله انبعاثهم، وانطلاقهم مع المجاهدين، ولهذا ثبّطهم عنه، وحلّ
عزائمهم دون الجهاد، وإذا هم دعوة مستجابة لكل ناطق وصامت، يدعوهم بلسان المقال أو لسان الحال، ساخرا مستهزئا:«اقعدوا مع القاعدين» .
والانبعاث: الانطلاق فى خفّة ونشاط، وفى التعبير عن كراهية الله سبحانه وتعالى لخروج هؤلاء المنافقين، للجهاد- فى التعبير عن ذلك بالانبعاث، وهو الانطلاق، إشارة إلى أن ذلك هو الذي ينبغى أن يكون من المجاهدين فى وجهتهم نحو العدوّ، وهؤلاء المنافقون لم يكن منهم مجرد الحركة، فضلا عن الانبعاث، ولو كان منهم ذلك لما رضيه الله منهم، ولا جعلهم فى المجاهدين، لفساد نياتهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:«لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» .
ففى هذه الآية ما يكشف عن الحكمة فيما كان لله من تدبير، فى تثبيط هؤلاء المتخلفين، وعزلهم عن جماعة المجاهدين.. فلو أنهم خرجوا مع المسلمين، وهم يحملون هذا الداء الخبيث المتمكن فيهم، لأفسدوا على المسلمين أمرهم، ولأدخلوا عليهم الوهن والضعف فى لقاء عدوهم:«لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا» أي اضطرابا وفسادا، «وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ» أي لسعوا سعيا حثيثا بينكم بالفتنة.. والإيضاع: ضرب من السير السريع للإبل، وخلال الشيء:
الفجوات التي فى كيانه.
وفى قوله تعالى: «ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا» إشارة إلى أن الجماعة الإسلامية التي ضم عليها ركب المجاهدين إلى تبوك، لم تكن كلها على السلامة والعافية فى إيمانها، وعزمها على الجهاد، بل كان فيها عدد غير قليل من المنافقين وأشباه المنافقين، ومن فى قلوبهم مرض.. خرجوا مع المجاهدين على كره..
فكانوا عبثا على المسلمين، وموطن ضعف فيهم.. فلو انضم إلى هؤلاء أعداد أخرى من المتخلفين الذين ثبّطهم الله عن الجهاد- لما فى قلوبهم من نفاق- لزادوا المؤمنين خبالا واضطرابا.. إلى ما كان ينبض به جيشهم من نبضات الخبال والاضطراب.. ويشهد لهذا قوله تعالى بعد ذلك:«وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ» إذ يشير هذا إلى ما فى صفوف المسلمين من خلخلة ومن فروج وفجوات، يمكن أن يتحرك فيها المنافقون كيف يشاءون، يلقون فى أسماع المسلمين بكلمات السوء، للوقيعة بينهم، وتثبيط عزائمهم عن لقاء العدو..
وفى قوله تعالى: «وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ» إشارة إلى ما كان فى جيش المسلمين من أصحاب النفوس المريضة، والقلوب الفاسدة، حيث يعطون أسماعهم لقالة السوء، ويمنحونهم الثقة والاطمئنان، وحيث يصادف نفاقهم هوى عندهم.
وفى قوله سبحانه: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» تهديد ووعيد لمن كان على نفاق ومكر بآيات الله.. حيث لا يخفى على الله ما تكنّ صدورهم من نفاق، وما تنعقد عليه نياتهم من سوء، وإنهم بهذا قد ظلموا أنفسهم، وأوردوها موارد الهالكين.
إشارة إلى ماضى هؤلاء المنافقين، وأنهم لم يستقيموا على طريق الإسلام أبدا.. وأنهم فى كل موقف يتعرض فيه الإسلام لامتحان، كانوا حربا خفية عليه، إلى جانب الحرب الظاهرة التي يلقاه بها أعداؤه لقاء مباشرا.. فكانوا يضربون فى جبهة المسلمين بالفتنة، وتقليب الأحداث، وإثارة الدّفين من الثارات القديمة فى الجاهلية..
وفى كل مرة كانوا يرجعون بالخيبة والخسران، حيث يضلّ سعيهم، وتسوء عاقبة من يعملون لهم، ويكتب الله للنبى وللمسلمين النصر والغلب.
وقوله سبحانه: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» .. يكشف عن وجه من وجوه المنافقين، الذين دعوا إلى الجهاد فى سبيل الله، فقال قائلهم معتذرا بهذا العذر الصبيانى الكذوب:«لا تفتنّى» بالغزو فى بلاد الروم، وبما يقع تحت نظرى من نساء الروم.. «أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا» حين خرجوا بهذه القولة الكاذبة عن أمر الله، فحق عليهم غضب الله.. وتلك هى الفتنة، وذلك هو البلاء، الذي ليس لصاحبه من نجاة.. «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» .. وهؤلاء المنافقون هم كافرون، بل أشد كفرا من الكافرين.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» .
وهذه حال من أحوال المنافقين مع المؤمنين.. إنهم يتربصون بالمؤمنين وهم على طريق الجهاد، فإذا عاد المسلمون بالنصر والغنيمة اغتمّوا، وحزنوا، وعلاهم الخزي والهوان.. وإن وقع بالمسلمين سوء فرحوا فرحتين: فرحة لأن المسلمين قد أصيبوا، وفرحة لأنهم هم لم يكونوا فى هذا الوجه الذي وقع للمسلمين فيه ما وقع من بلاء.. ثم يدعوهم هذا إلى أن يحمدوا لأنفسهم بعد نظرهم، وتقديرهم للأمور.. حيث سلموا وكان من شأنهم أن يعطبوا لو أنهم استجابوا لما دعوا إليه.. «وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ» .. أي أخذنا حذرنا، ونظرنا إلى عواقب الأمور، ورأينا بحسن تقديرنا ألا نشارك فى هذه الحرب التي يتجه إليها