الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على ظمأ، فى صحراء.. ومن هنا أيضا كان جبنهم فى مواقف القتال، وانحلال عزائمهم، وزيغان أبصارهم، وتطاير قلوبهم هلعا وفزعا.
هذا، على حين أن المؤمن يقاتل وهو على «فقه» بالموقف الذي يقفه، وأنه صائر به إلى إحدى الحسنيين، إما النصر الذي يكتب به للإسلام عزّا، وينال به عند الله أجرا، وإما الاستشهاد الذي ينتقل به إلى دار خير من داره، وإلى عالم أكرم وأطيب من عالمه، حيث ينطلق فى رحاب الله، ينعم بما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين، فى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
الآيات: (67- 71)[سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 71]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
التفسير: قوله تعالى: «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» .
نزلت هذه الآية فى غزوة بدر، وفى شأن الأسرى الذين وقعوا فى يد المسلمين من مشركى قريش، وكانت عدّتهم سبعين أسيرا..
وقد استشار النبىّ أصحابه فى شأنهم، إذ لم يكن قد جاءه أمر سماوى فيهم، فاختلف الصحابة فى المعاملة التي يعاملونهم بها.. فقال بعضهم بقتلهم، وذلك ليكونوا عبرة لغيرهم، وتوهينا لشوكة المشركين، بالقضاء على القوة العاملة فيهم، إذ كان هؤلاء الأسرى وجوه القوم وسادتهم.. وينسب هذا الرأى إلى عمر ابن الخطاب، وعبد الله بن رواحة- رضى الله عنهما.. وقال بعض الصحابة باستبقائهم وأخذ الفدية منهم، إبقاء على أواصر القربى، وإعانة للمسلمين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، بما يؤخذ منهم فدية.. وينسب هذا الرأى إلى أبى بكر الصديق.. رضى الله عنه.
وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالرأى القائل باستبقاء الأسرى وقبول الفدية منهم..
ثم أخذ- صلوات الله وسلامه عليه- الفدية من بعض الأسرى، ثم كان لا يزال ينتظر ما فرض على بعضهم منها، حين نزل قوله تعالى:«ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» ..
والإثخان فى الأرض: التسلط عليها والتمكن منها بالقوة.. يقال أثخن فلان أي جرح فى القتال جرحا شلّ حركته، وأبطل عمله فى الحرب، ومنه قوله تعالى:«فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» (4: محمد) وفى توجيه الخطاب إلى النبىّ توجيها غير مباشر فى قوله تعالى «ما كانَ لِنَبِيٍّ» تكريم ربانىّ للنبىّ الكريم، إذ لم يوجّه إليه سبحانه الخطاب فى صيغة محددّة، مباشرة هكذا.. «ما كان لك أيها النبي» مثلا..
وفى توجيه اللوم إلى المؤمنين بقبول الفدية فى قوله تعالى: «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا» تكريم بعد تكريم لمقام النبىّ، وعدم مواجهته بما يسوؤه..
والعرض: خلاف الجوهر، وعرض الدنيا، متاعها الزّائل.. والدنيا كلّها عرض زائل بالنسبة للآخرة.
وفى قوله تعالى: «لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» عتاب للنبىّ والمؤمنين، على ما كان منهم من قبول الفدية، وأنهم ما كان لهم أن يقبلوا فدية من هؤلاء الأسرى، بل كان ينبغى أن يكون حكمهم فيهم هو القتل.. لأنهم كانوا فى أول صدام لهم مع المشركين، وكان مكانهم فى الأرض لا يزال قلقا مهددا بقوى البغي المسلطة عليهم..
فكان من التدبير أن يضعفوا عدوّهم بقتلهم، ما أمكنتهم الفرصة فيهم، حتى تتراخى يد العدوّ عنهم، وتثبت أقدامهم على الأرض.. وعندئذ يجوز لهم أن يبقوا على الأسرى، وأن يقبلوا الفدية منهم..
ومن جهة أخرى، فإن المسلمين كانوا مع أول تجربة ذاقوا فيها طعم النصر على العدوّ، فلا ينبغى أن يكون أول ما يطعموه من هذا النصر هذا العرض الزائل، فذلك من شأنه أن يجعل للمغانم سلطانا على نفوسهم فى حربهم للعدوّ، الأمر الذي كان من تدبير الحكيم العليم معهم، أن يحرمهم منه أول الأمر، إذ جعل أنفال معركة بدر كلّها ليد النبىّ، يضعها حيث يشاء.
والسؤال هنا: هل من إنسانية الإسلام أن يقتل الأسرى، ويعمل فيهم السيف، وقد صاروا ذمّة فى يد المسلمين؟
والجواب على هذا: أن ذلك كان فى أول معركة من معارك الإسلام،
وأن هؤلاء الأسرى كانوا- فى جملتهم- معروفين للنبىّ والمسلمين، بكيدهم للإسلام، وعدوانهم على المسلمين، وتنكيلهم بهم حتى أخرجوا من ديارهم وأموالهم.. فهم- والحال كذلك- واقعون تحت حكم المفسدين فى الأرض، المحاربين لله ورسوله، وفيهم يقول الله تعالى:
«إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (33- 34: المائدة) وقد أهدر النبىّ دم بعض المشركين الذين كانوا على تلك الصفة، فقتل اثنين من الأسرى، صبرا، وهما عقبة بن أبى معيط، والنضر بن الحارث.
والكتاب المشار إليه فى قوله تعالى: «لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» - هو ما قضى الله به سبحانه وتعالى فى سابق علمه، وهو العفو عن الذنب إذا لم يكن قد جاء حكم إلهى بتحريمه، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى:«وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» (115: التوبة) .
ولهذا جاء قوله تعالى بعد هذا العتاب، حاملا الصفح الجميل، مزكّيا ما فعله النبىّ والمؤمنون، فقال سبحانه:«فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً» فهو الحلال الذي لا حرمة فيه، الطيّب الذي لا خبث معه.. وكان هذا إيذانا للنبىّ صلى الله عليه وسلم بأن يمضى فيما قضى به فى شأن الأسرى، وأن يقبل فداء من لم يأخذ منه فدية بعد، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ
مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً..»
الآية.. فهذا يعنى أنه إلى حين نزول هذه الآيات كان بعض الأسرى فى يد المسلمين لم يطلق سراحهم بعد..
وفى قوله تعالى: «إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - فى هذا عزاء ومواساة من الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الأسرى، الذي أصيبوا فى أهليهم، بمن قتل منهم فى بدر، وها هم أولاء يصابون فى أموالهم بما يؤخذ منهم من فدية.. وفى هذا العزاء ما يذهب بكثير مما فى نفوسهم من أسى ومرارة، وما فى قلوبهم من ضغينة وحقد على الإسلام والمسلمين، إذ يرون فى هذا العزاء الإلهى دعوة إلى التصالح والتفاهم والالتقاء بالإسلام، والمواخاة للمسلمين، وأن الله سبحانه وتعالى ليس ربّ المسلمين وحدهم، بل هو ربهم، وربّ العباد جميعا، وربّ كل شىء، وخالق كل شىء، وأن الإسلام ليس من حظ هؤلاء المسلمين الذين آمنوا بالله ورسوله، وكان لهم من الله هذا النصر الذي رأوه بأعينهم رأي العين فى بدر- بل إنه حظ مشاع بين الناس جميعا، من سبق منهم ومن لم يسبق، وأن الناس جميعا مدعوون إليه فى كل وقت إلى يوم القيامة! وعلى هذا التقدير، وبهذا الحساب- تكون معركة بدر ليست نصرا للمسلمين الذين قاتلوا فيها، وإنما هى نصر للإسلام، ونصر لكل مسلم دخل أو يدخل فى الإسلام، لأنها ليست لحساب شخص أو قبيلة، وإنما هى لحساب هذا الدّين الذي يرتفع بمبادئه فوق الأشخاص والقبائل، ويتخطّى بشريعته حدود المكان والزمان..
وفى قوله تعالى: «إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ..» .
فى هذا يسأل عنه وهو: كيف يعلّق علم الله تعالى بما فى قلوبهم، على شرط؟
وهو سبحانه وتعالى يعلم ما فى القلوب قبل أن توجد القلوب وأصحاب القلوب؟
والجواب- كما قلنا فى أكثر من مرة- أن تعليق علم الله بأفعال العباد لا يعنى بحال ما ماهو واقع فى علم الله مما سيفعله العباد، ولكن المراد بهذا التعليق هو العلم الواقع على الأفعال حال وقوع هذه الأفعال من المكلفين..
فعلم الله سبحانه بهذه الأفعال علم متصل بها فى جميع أحوالها وأزمانها، فهو عالم بها قبل أن تحدث وتقع من أصحابها، وعالم بها بعد أن تقع وتحدث، وتعليق علم الله سبحانه بحدوثها ووقوعها، هو إلفات لأصحابها، وإلى علم الله بهم وبأفعالهم وهم متلبسون بها، ومحاسبون عليها.
وفى قوله تعالى: «يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو وعد كريم لمن ينظر لنفسه من هؤلاء الأسرى، ويخلص بها إلى الله، ويدخل فى دين الله، وعندئذ سيشارك المسلمين فيما سيفتح الله به عليهم، وما يقع لأيديهم من غنائم.. وأكثر من هذا، فإن الله سبحانه وتعالى سيقبلهم فى المقبولين من عباده، ويغفر لهم ما كان منهم من عداوة للإسلام، وأذى للمسلمين.
قوله تعالى: «وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» هو وعيد لأولئك الذين لم يستجيبوا لهذا النداء الكريم، وهذا الصفح الجميل من رب العالمين، فأمسكوا على ما فى قلوبهم من عداوة وضغينة وطووا صدورهم على الثأر والانتقام- فهؤلاء إن يخونوا الرسول، فإنهم قد خانوا الله من قبل، بأن كفروا به، وهو ربهم، وخالقهم، ورازقهم، فإذا خانوا الرسول بعد هذا، فليس ذلك بالشيء الغريب عليهم، فكفرهم بنعم المنعم