الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأولاد، لم تكن مبعث سعادة ورضى لهم فى دنياهم، كما يبدو ذلك من ظاهر الحال، ولكنها كانت مثار قلق دائم، وإزعاج متصل لهم، لأن عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر أراهم كلّ الذي بين أيديهم، هو فى معرض الهلاك والزوال، لا يلتقون به بعد هذه الحياة، بل ولا يلتقون بأنفسهم بعد أن تحتويهم القبور، ويشتمل عليهم التراب.. فهم فى هذه الحياة، يختطفون اللذات اختطافا، ويختلسونها اختلاسا، بلا أمل فى غد، ولا رجاء فيما بعد غد.. وأنهم كلّما كثرت أموالهم وأولادهم كلّما ازدادت همومهم، وثقلت عليهم مئونة حراستها، ودفع غائلة العدوّ الراصد لها ولهم، وهو الفناء الأبدى، والقطيعة القاطعة بينها وبينهم.
وقوله تعالى: «وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» هو من البلاء المسلط عليهم من أموالهم وأولادهم، إذا كانت هذه الأموال والأولاد من الأسباب التي مدّها الله لهم، لتحجبهم عن الإيمان، وتقيمهم على طريق الكفر، فيعيشون به، ويموتون عليه. إذ كان شغلهم بأموالهم وأولادهم مما أعمى بصيرتهم عن النظر إلى ما وراء الأموال والأولاد..
وفى قوله سبحانه، فى هذه الآية:«وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» وقوله فى الآية التي قبلها: «وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ» - إشارة إلى أن الكفر والفسق من واد واحد، وأن الكافر فاسق، والفاسق كافر.. إذ الفسق هو الخروج عن طريق الحقّ، والمشاقّة لله ولرسوله وللمؤمنين، وذلك هو الكفر كله.
الآيات: (86- 89)[سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 89]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
التفسير: قوله تعالى: «وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ» .
أولو الطول: الطول: من طال الشيء بطوله، أي قدر عليه وتمكن منه.. وأولوا الطول: هم أصحاب القدرة التي تمكن لهم من بلوغ ما لا يستطيع غيرهم بلوغه، يجاههم، وسلطانهم، وأموالهم..
والآية الكريمة، تكشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين، وتفضح طائفة أخرى من طوائفهم، وهم أصحاب الرياسة، والسيادة، والقدرة فيهم..
هؤلاء المنافقون «إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ» أي إذا أنزل قرآن يحمل إلى المؤمنين أمرا من الله سبحانه وتعالى، يذكرهم بالإيمان بالله، ويدعوهم إلى الجهاد مع رسول الله.. «اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ» أي بادر أصحاب الطول هؤلاء، إلى التحلل من هذا الأمر، بالاعتذار إلى رسول الله، واستئذانه فى أن يعفيهم من إجابة هذه الدعوة، والجهاد فى سبيل الله..
وفى قولهم «ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ» ما يكشف عن استخفافهم بأمر الله، واسترواحهم للتحلل منه، حتى ليهنؤهم المقام، وتطيب لهم الحياة، فيقعدون مع القاعدين، ويسمرون مع السامرين.. وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى:«رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ»
أي قد سولت لهم أنفسهم أن يكونوا مع الخوالف، ممن لا طول لهم ولا حول، من المرضى، والزّمنى، وأصحاب العاهات والعلل، والأطفال، والنساء، والإماء، والعبيد- رضوا أن يكونوا مع هذه الطوائف من الناس، وهم أصحاب طول وحول، لم يكن يرضيهم أبدا أن يكون بينهم وبين هذه الطوائف أمر جامع، أو صفة مشتركة.. فكيف وهم أصحاب الحول الطول ينزلون إلى هذا المستوي الذي يضيفهم إلى مجتمع الصبيان والعبيد؟ ولكن هكذا أرادوا أن يكونوا، وهكذا صنعوا بأيديهم هذا الثوب الذي لبسوه..
ثوب الصّغار والامتهان.
وفى قوله سبحانه: «وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» إشارة إلى أنهم وقد لبسوا ثياب المهانة والخزي بهذا الموقف الذي وقفوه- لا يدركون ما وقع عليهم من ذلة وهوان، إذ كانت أعينهم فى عمى، وقلوبهم فى غفلة، وعقولهم فى ضلال.
وقوله تعالى: «لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» هو عرض للوجه الآخر المشرق الوضيء من وجهى هذا الموقف.. من أمر الله بالإيمان، ودعوته إلى الجهاد..
فإذا كان المنافقون، وأصحاب الطول فيهم، قد نكصوا على أعقابهم، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف، فإن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- والذين آمنوا معه، جاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله.. فما أن دعاهم الله ورسوله إلى الجهاد حتى طاروا إليه سراعا، ونفروا خفافا وثقالا.
وإذا كان المخلّفون قد ألبسهم لله بتخلفهم ثوب الخزي ولذلة، فإن رسول الله والمجاهدين معه، قد تلقاهم الله حفيّا بهم، موسعا لهم فى رحاب فضله ورضوانه، فملأ أيديهم من المغانم، وكتب لهم النصر على عدوهم، ومكن لهم فى الأرض،