الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيات: (32- 35)[سورة الأنفال (8) : الآيات 32 الى 35]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلَاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَاّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
التفسير: «الواو» فى قوله تعالى: «وإذ قالوا» للاستئناف.
ومناسبة الآية لما قبلها أنها تعرض حالا من أحوال المشركين، وتكشف عن وجه كريه من وجوه ضلالهم وسفههم.. فإنهم بعد أن رموا النبىّ بالكذب على الله، وأن ما جاءهم به ليس إلّا من أساطير الأولين، استملاها من علماء أهل الكتاب، وأنهم لو شاءوا أن يجيئوا بمثل ما جاءهم به لما كان عليهم إلا أن يرجعوا إلى علماء أهل الكتاب، ويردوا المورد الذي ورده، فيجيئون بمثل هذا الذي معه- إنهم بعد هذا، لم يقفوا عند هذا الحدّ، بل أمعنوا فى الاتهام والتكذيب، بأن طلبوا إلى الله أن يمطر عليهم حجارة من السماء أو يأتيهم بعذاب أليم، إن كان هذا الذي جاء به محمد حقا من عند الله!؟
وليس أبعد فى الضلال، ولا أسفّ فى السفه، من أن يحملوا أنفسهم على هذا المركب المشحون بالبلاء، المحمول على صدر بحر متلاطم الأمواج، عاصف
الريح، وقد كان بين أيديهم أن يستقلّوا السفين القاصد إلى شاطىء الأمن والعافية، السابح فوق صفحة ماء رقراق، المسيّر بيد ريح رخاء!.
فماذا يدعوهم إلى هذا اللّجاج فى العناد، وإلى هذا التحدي لمنازلة البلاء؟
إنه لا شىء إلا الجهل الذي يعمى البصائر، وإلا الضلال الذي يطمس على القلوب! وماذا عليهم لو جعلوا دعاءهم إلى الله أن يهديهم سواء السبيل، وأن يقيمهم على طريق الحق، إن كان هذا الذي جاءهم به «محمد» هو الحق؟
إنهم لن يخسروا شيئا، لو كان الذي جاءهم به «محمد» هو قول تقوّله، أو أساطير اكتتبها.. فلو استجاب الله لهم لعافاهم من البلاء، ولصرف عنهم السوء..
وإنهم ليربحون الربح أعظم الربح، لو كان الذي جاءهم به «محمد» على غير ما ظنوا وتوهموا.. فكان الحقّ من عند الله، والهدى المحمول فى كلماته، والرحمة المرسلة مع آياته..!!
ولكن القوم عتوا عتوّا كبيرا، وضلوا ضلالا بعيدا، فسألوا الله أن يمطر عليهم حجارة من السماء، أو يسوق عليهم البلاء المبين والعذاب الأليم! «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» .
هكذا يقولونها بملء أفواههم.. وهكذا يفعل الجهل بأهله، ويلجّ الضلال بأرباب الضلال!.
ولو أنهم كانوا على شىء من الحكمة والروية، لأخذوا موقفا غير هذا الموقف المشرف بهم على مهاوى الهلاك، ولأخذوا بهذا الأسلوب الحكيم الذي رسمه ذلك الرجل المؤمن من آل فرعون، فى نصحه للضالين المعاندين من قومه، إذ يقول لهم هذا القول الذي حكاه القرآن عنه:
(28: غافر) وقد استحق القوم أن يدانوا بما دانوا به أنفسهم، وأن يأخذوا بما شاء الله أن يأخذهم به، وهو أن يمطر عليهم حجارة من السماء، أو يأتيهم بعذاب أليم، إذا كان هذا الذي جاءهم به «محمد» هو الحق من عند الله.. فكيف يكون حكم الله فيهم بعد هذا؟
لقد كان الله سبحانه وتعالى حفيّا بنبيه، الذي أرسله هدى ورحمة للعالمين، فلم يشأ- سبحانه- أن يأخذهم بالعذاب، وأن يعجل لهم العقوبة، والنبي الكريم بين أظهرهم، حتى لا يسوءه الله فيهم، ولا يحزنه بمصرعهم على يديه..
وفى هذا يقول سبحانه:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» وهكذا يفلت القوم من هذا البلاء الذي عرّضوا أنفسهم عليه، وألقوا بأيديهم بين يديه، فلم يعجل الله لهم العذاب، إكراما لرسوله الكريم، وحماية لحمى موطن تعطّره أنفاسه، ولأرض وطئتها قدماه! وأكثر من هذا، فإن هذا الفضل العظيم من الله سبحانه لا يرفع عن هذه
الأمة، بعد أن رفع نبيها إلى الرفيق الأعلى، بل إنه قائم فيها إلى يوم القيامة، ما دامت كلمة الاستغفار تجرى على شفاههم، كلما بعد بهم الطريق عن الله، وتغشاهم الجهل والضلال.. فإن طريقهم إلى الله مفتوح أبدا، ووجهتهم إليه مستقيمة دائما، إذا هم ذكروه، واستغفروا لذنوبهم، وعرضوا أنفسهم عليه، تائبين نادمين.
اقرأ قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» - فإنك ستجد فيها أنسام الرحمة والرضوان تهب على هذه الأمة، فتدفع عنها كل بلاء، وتصرف عنها كل جائحة.
وهذا هو السر فى تخالف النظم بين قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» وبين قوله سبحانه: «وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» .
فإن الفعل «يعذب» مقيد بزمن معين، وهو حال حياة النبىّ فيهم.
أما اسم الفاعل «معذّب» فهو غير محدود بزمن، والقيد الوارد عليه هو قيد الاستغفار، وهو عتيد حاضر مع هذه الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
الاستفهام هنا تهديدى، فيه نذير لهؤلاء المشركين الضالين، الذين يمسكون بما هم فيه من شرك وضلال، لا يستجيبون لله، ولا يدعون المؤمنين
يلمّون بالمسجد الحرام، ويوجهون وجوههم إلى ربهم، بل يصدونهم عنه، ويحولون بينهم وبينه.
ثم إنهم من جهة أخرى، ليسوا أولياء الله، حتى يتجاوز لهم عن آثامهم تلك، شأن الولىّ مع من يتولاه، ويغفر له زلاته، ويلقاه بفضله وإحسانه..
فالله سبحانه وتعالى، لا يتولى إلا المتقين، الذين جعلوا لله ولاءهم، فآمنوا به وتعبدوا له، واستقاموا على شريعته:«إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ» .. و «إن» هنا نافية، بمعنى «ما» أي ما أولياؤه إلا المتقون، كما يقول سبحانه:«اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ» .
هذا، ويرى أكثر المفسرين أن الضمير فى قوله تعالى:«أولياءه» يعود إلى المسجد الحرام، أي وما كان المشركون أولياء المسجد الحرام، وأهل القوامة عليه.. ذلك أنه بيت الله، بل أول بيت وضع للناس، ومن هنا فإنه لا يستحق أن يكون قائما على خدمته، وحراسته، إلا أهل الإيمان والتقوى.. فكيف يدّعى هؤلاء المشركون القوامة على أمر هذا المسجد الحرام، وهم حرب عليه، وعلى الطائفين به، والمصلّين فيه من عباد الله المؤمنين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ» (17- 18: التوبة) .
فهل يعمر مسجد الله هؤلاء المشركون الذين يأتون المنكرات، ويصدون الناس عن سبيل الله، ويجعلون صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، كما يقول الله سبحانه وتعالى بعد هذه الآية؟ وهذا الرأى الذي يقول به أكثر المفسّرين يتسع له النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة، كما يتسع للمعنى الذي
ذهبنا إليه.. فالمشركون ليسوا أولياء الله، ولا أولياء بيت الله.
قوله تعالى: «وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» .
المكاء: الصفير، ومنه قول عنترة:
وحليل غانية تركت مجدّلا
…
تمسكوا فريصته كشدق الأعلم
أي تضطرب فريصته بالدم المتفجر، ويحدث من اضطرابها صوت كهذا الصوت الذي ينبعث من شدق البعير حين يرغو، وذلك من أثر الضربة النافذة، التي تشبه شدق البعير فى سعتها وعمقها.
والتصدية: التصفيق، الذي ينبعث له صدى.
والمعنى أن صلاة هؤلاء المشركين التي يؤدونها لأصنامهم عند البيت الحرام- هذه الصلاة ليست إلا ضربا من اللهو والعبث، حيث لا يجدون ما يقولونه لهذه الأحجار المرصوصة، وتلك الخشب المسندة! وإذ يعوزهم القول فى هذا المقام، وتنهزم فى كيانهم مشاعر الجدّ والوقار لهذه المعبودات التي يتعبدون لها- فإنه لكى يكون لصلاتهم تلك، صوت يسمع، وأثر يحسّ، وواقع يرى- فقد استجلبوا لها هذه الأصوات المنكرة، وتلك الجلبة العمياء، حتى حتى يداروا بها عوار هذه المظاهر الكاذبة، التي تفضح المستور مما يدور فى خواطرهم من هزء وسخرية، بتلك الآلهة التي يؤدون لها هذا الولاء الزائف، والذي لو انكشف مستوره لكان صفعا وركلا، ولكنه جاء صفيرا وتصفيقا، أقرب شىء إلى الصفع والركل.. (الصفع بالأيدى، والركل بالأرجل) .
وفى قوله تعالى: «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» إشارة إلى أن