الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ» فإن هذا معناه أنه لن يغفر لهم على أية حال..
سواء استغفر لهم النبي أو لم يستغفر لهم.. قلّ استغفاره لهم أو كثر! والخبر الذي يروى من أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال حين نزلت هذه الآية: «والله لأزيدنّ عن السبعين» هو خبر آحاد، لا يعوّل عليه هنا عند معارضته لصريح المفهوم من الآية الكريمة.. لأن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يعلم ما فى هذه الآية من القطع بأن الله سبحانه لن يغفر لهم، ولن يقبل شفاعة شافع فيهم. فلا يعقل- مع هذا- أن يقول النبي هذا القول، بعد أن تلقّى هذه الآية. وكذلك الشأن فى الخبر الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لو علمت أنه لو زدت على السبعين مرّة غفر الله لهم لفعلت» ..
فإنه خبر لا يصحّ عن رسول الله.. لأنه فيه ما يشبه التحدّى لحكم الله!!.
الآيات: (81- 85)[سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 85]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)
التفسير: تكشف هذه الآيات عن وجه أولئك المنافقين، الذين تخلّفوا عن رسول الله فى غزوة تبوك، وتفضح الأعذار الكاذبة التي كانوا يعتذرون بها، وترسم للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- الأسلوب الذي يعاملهم به، والموقف الذي يقفه منهم..
وفى قوله تعالى: «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ» تنديد ووعيد من الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الذين تخلفوا عن رسول الله فى تلك الغزوة، وأن هذه الفرحة التي شاعت فى نفوسهم حين بدا لهم أنهم أفلتوا من هذا البلاء الذي ابتلى به المؤمنون فى هذه الغزوة.. من قلّة الزاد، وبعد الشّقة، ووقدة الحرّ- هذه الفرحة لن يهنئوا طويلا بها، بل ستعقبها حسرة وندامة، وعذاب شديد.
والمخلّفون: جمع مخلّف، وهو الذي بقي خلف القوم، وترك وراءهم..
وكأنه بهذا هو المتروك لا التّارك، والمخلّف لا المخلّف.. وفى هذا إشارة إلى أن هؤلاء الذي تخلّفوا هم مخلّفون! قد تركهم المجاهدون، وسبقوهم إلى حظهم من الخير الذي أراده الله لهم..
والمقعد: مصدر ميمى للفعل «قعد» أي فرح المخلفون بقعودهم.
و «خلاف رسول الله» : الخلاف ظرف بمعنى خلف، ووراء.. ويجوز أن يكون مفعولا له، بمعنى: لأجل خلافهم لرسول الله.
وقوله سبحانه: «وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» معطوف على قوله تعالى: «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ» بمعنى فرحوا بقعودهم بعد رسول الله، وكرهوا، أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله..
وقوله تعالى: «وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ» معطوف على ما قبله، من فعلات هؤلاء المخلّفين.. بمعنى أنهم فرحوا بتخلفهم، وكرهوا أن يجاهدوا، وقالوا لا تنفروا فى الحرّ..
وقولهم: «لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ» قد يكون من حديث بعضهم إلى بعض، وتحريض بعضهم لبعض على ترك الجهاد فى الحرب، وذلك ليكثر عددهم، وتقوى جبهتهم، وليكون للمتخلف منهم وجه من العذر، بكثرة المتخلفين غيره.
وقد يكون هذا القول منهم على إطلاقه، يقولونه لكل من يلقاهم من المؤمنين، ليفتّروا به الهمم، ويكسروا العزائم، حتى لا يجتمع على دعوة النبىّ للجهاد، الجيش الذي يخرج به فى هذه الغزوة.. وبهذا لا ينكشف أمر المنافقين الذين عقدوا العزم على التخلّف عن الغزو، حيث لا يخفّ أحد للجهاد، إذا صحّ ما قدّروه، وعملوا له، من إشاعة الدعوة فى الناس، بألّا ينفروا فى الحرّ.
وقوله سبحانه: «قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ» هو ردّ مفحم على هذه القولة التي تنادى بها المنافقون بقولهم: «لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ» .. فإن تركهم النفير فى الحرّ يوقعهم فى حرّ أشد هولا من هذا الحرّ، الذي يعتبر بردا وسلاما إذا قيس بحر جهنم.. فلو أنهم عقلوا هذا، وفقهوه، لما اشتروا عذاب الآخرة بلفحات الهجير هذه، التي يخشون لقاءها فى طريقهم إلى الجهاد..
ولكنهم قوم لا يفقهون..
وقوله تعالى: «فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» هو وعيد لهؤلاء المنافقين، الذين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، وقالوا لا تنفروا فى الحرّ.. إنهم لن يهنؤهم هذا الفرح، ولن يطول مقامهم فى ظل هذه العافية التي هم فيها.. فما هى إلا أيامهم الباقية لهم فى هذه الدنيا، ثم إذا هم فى العذاب الأليم الدائم، لا يفترّ عنهم وهم فيه مبلسون..
هو بيان من الله سبحانه للنبىّ، فى موقفه من المنافقين، إذا هو رجع من غزوته تلك.. فإن من هؤلاء المتخلّفين من تخلّف لا عن شك فى دينه، أو ارتياب فى عقيدته، ولكن قعد به فتور همته أن يلحق بالركب، وأن يجمع عزمه المشتت، ليقطع حبال التردد العالقة به، فلمّا أن فاتته الفرصة، ولم يعد فى استطاعته أن يلحق بالجيش المجاهد، استبدّ به الندم، واستولت عليه الحسرة، وضاقت عليه الأرض بما رحبت.. ومن هؤلاء المتخلفين من تخلّفوا عن نية فاسدة، وعقيدة منافقة، ودين مريض.. فهؤلاء هم المنافقون حقّا، وهم الطائفة التي أشار إليها قوله تعالى:«فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ» .. إنّهم يريدون أن يحتفظوا بمكانهم فى المسلمين، وأن يأخذوا موقفهم مع المجاهدين، وذلك بأن يتخيّروا الزمان والمكان اللذين يخرجون فيهما مع المجاهدين.. فإذا كانت الشقة بعيدة، والحرّ شديدا أو البرد قارصا، تبطّئوا، وجاءوا بالمعاذير والعلل، وإن كانت الشقة قريبة، والمغانم دانية، أخذوا مكانهم فى صفوف المسلمين.
وفيهم يقول الله تعالى: «لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (42: التوبة) .. وليست هذه سبيل المؤمنين المجاهدين، وإنما سبيلهم قائمة على نيّة منعقدة أبدا على الجهاد والاستشهاد فى سبيل الله، ومن كانت تلك سبيله، وهذه غايته، فإنه لا ينظر إلى نفسه، ولا يعمل حسابا لمغنم أو مغرم، وإنما حسابه كلّه مضاف إلى الانتصار لدين الله، والإعزاز لكلمة الله.
ولهذا ردّ الله سبحانه هؤلاء المنافقين، ومحا اسمهم من ديوان المجاهدين، وأمر نبيّه الكريم أن يبعدهم عنه، وأن يعزلهم عن مجتمع المسلمين المجاهدين،
وأن يكون ردّه عليهم إذا استأذنوه لقتال معه: «لن تخرجوا معى أبدا ولن تقاتلوا معى عدوّا» .. هكذا يلقاهم النبىّ بهذا الحكم القاطع، الذي لا استثناء فيه، ولا رجوع عنه.. «إنكم رضيتم بالقعود أول مرة» . أي أول مرّة دعيتم فيها للجهاد دعوة ملزمة لا تحل منها، وذلك فى غزوة تبوك التي ندب النبىّ لها المسلمين جميعا، كما أمره الله سبحانه وتعالى بذلك فى قوله:«انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..» (41: التوبة) . فهذه أول مرّة يدعى فيها المسلمون دعوة عامة للجهاد بكل ما يملكون من أنفس وأموال..
وفى قوله تعالى: «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ» - ما يكشف عن شناعة جرم هؤلاء المنافقين، وفظاعة الجناية التي جنوها على أنفسهم.. ولهذا، فإن الصلة التي بينهم وبين المؤمنين قد انقطعت انقطاعا تاما فى الحياة، وفيما بعد الحياة، حتى لو مات ميّتهم لم يلتفت المسلمون إليه، ولم تعطفهم عليه عاطفة رحم أو رحمة.. وقد نهى الله النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يصلى على أحد من موتاهم أو يقوم على قبره، داعيا له مستغفرا.. وهو نهى للمسلمين جميعا، فى جميع الأحوال والأزمان أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى.. أحياء أو أمواتا. «إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ» أي إنهم كانوا على كفر بالله وبرسوله، وقد ماتوا على هذا الكفر.. فلا ينالهم الله برحمته، ولا يرحمهم الراحمون..
وقوله سبحانه: «وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» - هو تحقير لهؤلاء المنافقين، واستخفاف بما كان لهم فى الدنيا من مال وأولاد.. فإن كثرة هذه الأموال، وهؤلاء