الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حشرات، وهو امّ، ودواب، ونحوها.. المهمّ عندهم هو أن يعيشوا، وليس من المهم عندهم فى شىء، الصورة التي يكون عليها العيش!
الآيات: (58- 60)[سورة التوبة (9) : الآيات 58 الى 60]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
التفسير: النفاق ضروب كثيرة، والمنافقون وجوه متعددة.. وعلى طريق النفاق أنماط مختلفة من المنافقين، كل له لون، بل ألوان، يعيش بها فى الناس، ويلقاهم باللون الذي يناسب الحال الداعية إليه.. فالمنافق هو أمة وحده، بكثرة ما يلبث من وجوه، وما يتخذ من صور وأشكال.
ولهذا نجد القرآن الكريم، يقلّب هؤلاء المنافقين على وجوههم المختلفة، ويعرضهم فى ألوانهم وأزيائهم المتعددة.. فيقول جل شأنه فى أكثر من موضع..
«ومنهم» مشيرا بذلك إلى طائفة من طوائف المنافقين، وفاضحا لفعلة من فعلاتهم.. فهم أكوان وليسوا كونا واحدا، وهم أبعاض من هذا الجسد المتضخم من الفساد والعفن، الذي يضمهم، ويشتمل عليهم.
وفى قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ»
بيان لضرب من نفاق المنافقين، وكشف لوجه من وجوههم المنكرة..
فهذا واحد منهم يرى النبىّ صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم «هوازن» بعد غزوة حنين، ويتألف بها من يتألف من الذين دخلوا فى الإسلام بألسنتهم، ولمّا يدخل الإيمان فى قلوبهم.. يرى ذلك فلا يستطيع أن يغالب نفاقه، ولا أن يمسك ما انطوت عليه نفسه من اتهام لرسول الله، فيقول- والرسول بين صحابته، وعلى رأس الجيش الظافر الغانم- يقول له:«يا رسول الله اعدل» ! ..
وهل يتفق قوله: يا رسول الله، ثم قوله لرسول الله: اعدل؟ وهل يكون من رسول الله غير العدل؟ ولكنه جهل الجاهلين، وضلال الضالين! وقائل هذه القولة الفاجرة الآثمة- كما يقول الرواة- هو ذو الخويصرة، واسمه حرقوص بن زهير التميمي..
ولا يجد الرسول ما يقوله لهذا السفيه، إلا تلك الكلمة الوادعة المشرقة:
«ومن يعدل إذا لم أعدل؟» .. فأى عدل يبقى فى هذه الدنيا إذا لم يكن إلى يد الرسول ميزان العدل كله؟ وإذا لم يعدل الرسول فمن يعدل بعده؟.
ويهمّ بعض أصحاب رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- بتأديب هذا السفيه الأحمق الجهول..
فيقول لهم الرسول الكريم: «دعوه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم.. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة» !.
وليس ذو الخويصرة هذا- الذي يقال إنه صاحب هذه الكلمة المهلكة- ليس وحده هو الذي كان على هذا الضلال الذي أنطقه بما نطق به، وإنما كان
هناك غيره كثير من الذين يرون ما يرى، ولكنهم لم يظهروا ما بأنفسهم، وطووا صدورهم على ما فيها من زيغ وضلال..
وإنما نظم ذو الخويصرة وأمثاله فى سلك المنافقين، مع أنّه صرّح بما كان يضمر من كفر وضلال- على حين أن النفاق إنما يكون نفاقا إذا كان صاحبه على ظاهر هو خلاف الباطن- نقول إنه عدّ فى المنافقين هو وأمثاله، لأن النفاق فى الواقع هو كفر مضمر، وكون المنافق يفضحه نفاقه بين الحين والحين، فينكشف منه بعض ما أضمره، لا يرفع ذلك عنه صفة النفاق، فإنه إذا أظهر بعضا من كفره، فإن ما أخفى من هذا الكفر أكثر وأعظم.. وفى مثل هؤلاء المنافقين يقول الله تعالى:«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ» (118: آل عمران) .. فالمنافق منافق وكافر معا.
واللمز: الغمز الخفيف، وذلك يكون بالإساءة باللسان، بالكلمة الجارحة، تجىء فى خبث ومورابة.. والمنافق لا يأتى البيوت من أبوابها، وإنما يدخل متلصصا..
وفى الذي صنعه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بغنائم هوازن ما خفى على كثير من المسلمين حكمته، فكان لذلك وسواس فى كثير من الصدور، وهمس على الشفاء، وتغامز بالعيون.. حتى لقد عرف ذلك فى الأنصار، الذين هم ما هم فى حساب الإسلام، وفى مجتمع المسلمين.. ولقد قال قائلهم حين أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى للمؤلفة قلوبهم، كأبى سفيان، ومعاوية بن أبى سفيان، وعتيبة بن حصن الفزاري، وغيرهم- قال قائلهم: لقى والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه!!.
ولم تكن هذه القولة من بعض الأنصار شكّا فى دين الله، ولا اتهاما
لرسول الله، ولكنها كانت إشفاقا من أن يكون ذلك تحولا بمركز الدعوة الإسلامية من المدينة إلى مكة، وعودة برسول الله إلى بلده الذي أخرج منه! حيث كان المؤلفة قلوبهم جميعا من مكة وما حولها..
هذا هو الشعور الذي كان مستوليا على الأنصار فى مجموعهم، وإن كان قد حمل عند بعضهم ممن نافقوا فى الإسلام، كعبد الله بن أبىّ بن سلول- على غير هذا المحمل، فكان اتهاما صريحا للرسول، بتعصبه لقومه، وميله إليهم، وإيثارهم على الأنصار، بعد أن دخلوا فى دين الله، وآمنوا برسول الله، وبعد أن دخل الناس فى دين الله أفواجا، ولم يعد الأنصار وحدهم هم حماة هذا الدين وأنصاره، كما يبدو ذلك فى ظاهر الحال.
ولهذا، فقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار إليه، وجمعهم حوله، واستخلصهم من بين المسلمين جميعا.. ثم خطبهم- صلوات الله وسلامه عليه- قائلا:
«يا معشر الأنصار! ما قالة بلغتني عنكم، وموجدة وجدتموها علىّ.. حتى لقد قلتم لقى رسول الله قومه! «أوجدتم يا معشر الأنصار فى لعاعة من الدنيا «1» تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام.
«افلا ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير إلى رحالهم، وترجعون أنتم برسول الله إلى رحالكم..؟
(1) اللعاعة: الشيء القليل التافه.
«فو الذي نفسى بيده، لو أن النّاس سلكوا شعبا، وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار..
اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار» .
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا رضينا برسول الله قسما وحظا.!»
وهكذا قرت عيون الأنصار، وامتلأت قلوبهم سكينة وأمنا، إذ عرفوا أن رسول الله لن يخلى مكانه من بينهم، ولن يحرمهم هذا الخير الذي ساقه الله إليهم، وأنهم هم أهل الرسول وأنصاره، وأن بلدهم هى بلده وموطنه! وحسبهم هذا.. ولساعة من رسول الله بينهم خير لهم من الدنيا وما فيها.
وهكذا، كان بيان الرسول صلوات الله وسلامه عليه، شفاء لما فى الصدور، وجلاء للبصائر، فسكنت الوساوس، وقرّت العيون، ولهجت الألسن بالحمد لله رب العالمين.. وهذا البيان الذي كشف به الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ما خفى على الناس أمره، هو مصداق لقوله تعالى:«وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» .. فإن من رحمة الله بعباده المؤمنين إذا طاف بهم طائف من الريب- جاءهم بما يكشف الطريق لهم إليه، ويرفع عن بصائرهم ما تغشاها من شكوك وريب.
هو بيان لما ينبغى أن يكون عليه المسلمون جميعا، إزاء كلّ ما يقول الرسول أو يعمل.. وهو الرضا المطلق، والتسليم المطلق، بكل ما يقضى به، فهو- صلوات الله وسلامه عليه- الأمين الذي ائتمنه الله على دين الله، والقيّم الذي أقامه الله على عباد الله، وأنه- صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن