الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيات: (9- 11)[سورة الأنفال (8) : الآيات 9 الى 11]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11)
التفسير: يتعلق الظرف «إذ» بقوله تعالى: «وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» أي إنّ إرادة الله بإحقاق الحق بكلماته، وقطع دابر الكافرين- قد رأيتم تحقيقها فى هذا الوقت الذي كنتم تستغيثون فيه ربكم، وقد التقيتم بالمشركين فى كثرتهم، وقلتكم..
وقوله تعالى: «فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» أي حين واجهتم العدو، وأفزعتكم كثرته، وفزعتم إلى الله أن يمدكم بنصره- استجاب لكم ربكم، وأمدكم بألف من الملائكة مردفين، أي يردف بعضهم بعضا، ويجىء بعضهم إثر بعض.
وقوله سبحانه: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» الضمير فى «جعله» يعود إلى هذا المدد السماوي.. أي ما جعل الله هذا المدد السماوي الذي أمدكم به إلا بشرى للنصر الذي وعدكم به، ولتطمئن به قلوبكم، فلا يهولنّكم العدو وكثرة عدده، بعد
أن علمتم أن الله معكم، وأن إشارات النصر وبشرياته قد جاءت إليكم، تحملها ملائكة الرحمن التي بعثها الله لتقاتل معكم.. فهل يغلب من كان الله معه؟ وهل يهزم من كانت جنود الرحمن تقاتل فى صفوفه، ولو كان فردا يقاتل الناس جميعا؟
وهذه الجند المرسلة من السماء، ليست إلا ألطافا من ألطاف الله بكم فى هذا الموقف الحرج، ترون منها بشائر النصر، وتجدون فيها ريح السكينة والطمأنينة- أما النصر فهو بيد الله وحده، فهو الذي كتب لكم النصر، وليست الملائكة التي قاتلت معكم.. «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» له سبحانه، العزة، يعزّ بها من يشاء، ويذل من يشاء، وينصر بها من يشاء، ويخذل من يشاء، حسب ما اقتضت حكمته..
هذا، وقد جاء المفسرون بكثير من الأخبار المروية عن الملائكة وقتالهم فى بدر، حتى لقد ذكر فى بعض الروايات، الصورة التي كان عليها الملائكة، وهم يقاتلون، والعمائم البيضاء التي يلبسونها، والخيل البلق التي يمتطونها، كما ذكرت روايات أخرى بعض أفعال الملائكة بالمشركين، وكيف كان بعض المقاتلين من المسلمين يهمّ بأن يضرب بسيفه رأسا من رءوس المشركين، فإذا به يجد هذا الرأس قد سقط عن جسده قبل أن يناله سيفه.. إلى كثير من تلك الأخبار التي يكثر فيها الخيال، حيث وجد القصاص مادة خصبة فى هذا الميدان الذي لم تشهد الحياة مثالا له.. فما أن أمسك القصاص بهذا الخبر السماوي الذي يحدث عن المدد الملائكى للمسلمين، حتى أطلقوا لخيالهم العنان، فنسجوا حول هذه الحقيقة العجيبة ما شاء لهم الخيال أن ينسجوه من عجائب وغرائب!.
وفى قوله تعالى: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ» ما يقطع بأن هذا المدد
الملائكى لم يكن- كما قلنا- إلا قوى من قوى الحق، تظاهر الذين آمنوا وتثبّت أقدامهم، وتربط على قلوبهم، وبهذا يصبح الواحد من المؤمنين برجح عشرة من المشركين، كما يقول الله تعالى:«إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» (65: الأنفال) .
فوجود الملائكة بين المؤمنين هو مما يشد أزرهم، ويريهم فى أنفسهم أنهم أكثر من المشركين عددا، وأقوى قوة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» (43: الأنفال) فالمسلمون بهذا المدد الروحي يرون المشركين فى كثرتهم قلة، وبهذا يطمعون فيهم، ويثبتون لهم، على حين يراهم المشركون قلة كما هم فى قلتهم، فلا يفرون من بين أيديهم، حتى تقع الواقعة بهم، ويقتل منهم من يقتل ويؤسر منهم من يؤسر:«لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» .
فلو أن الملائكة كانوا هم الذين قاتلوا دون المؤمنين- لما كان للمؤمنين فضل فى هذه المعركة، ولما كان لهم شرف هذا البلاء الذي أبلوه فى هذا اليوم، بل ولما كان من النبىّ هذا الحال الذي استولى عليه ساعة بدء القتال، وهو الذي تلقى وحي السماء بهذا المدد الملائكى.. فإنه عليه الصلاة والسلام يعلم أن هذا المدد لا يخلى المؤمنين من مسئولية حمل العبء فى لقاء المشركين، وإن كان من ورائهم تلك القوة السماوية التي تظاهرهم.. والله سبحانه وتعالى يقول:«إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» .
وقد جاءت هذه الآية فى غزوة أحد هكذا:
«وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» . (126: آل عمران) وبين الآيتين اختلاف فى النظم اقتضته الحال هنا وهناك.
ففى آية بدر، جاء قوله تعالى:«وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى» على حين جاء هذا المقطع فى آية أحد: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ» ، مقيدا هذه البشرى بأنها للمؤمنين، وقد جاءت مطلقة فى آية بدر!.
وحكمة هذا- والله أعلم- أن إطلاق البشرى فى «بدر» كان حيث لا حساب لأحد غير المسلمين فى هذه البشرى، إذ هى خالصة لهم، إذ كانوا جميعا فى وجه العدوّ صفّا واحدا، ويدا واحدة.
أما فى «أحد» فقد انقسم المسلمون على أنفسهم، وهمّت طائفتان منهم أن تفشلا، وانحاز عبد الله بن أبى بن سلول بشطر كبير من المسلمين، وكانت قولته هو وأصحابه:«لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ» .. فجاءت البشرى هنا على غير إطلاقها للمسلمين جميعا، وإنما هى للذين واجهوا العدوّ فى أحد، والتحموا معه فى القتال.. فكان قوله تعالى:«وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ» إشارة إلى هؤلاء المؤمنين الذين وجّهوا وجوههم إلى لقاء العدوّ، دون هؤلاء الذين نكصوا على أعقابهم.
وفى آية بدر جاء قوله تعالى: «وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» وفى آية أحد:
«وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ» وذلك لأن حاجتهم فى بدر إلى مجرد الاطمئنان كانت هى مطلبهم الذي يطلبونه فى تلك الحال، وينتظرونه من الأفق الذي سيطلع منه.. فالمطلوب أولا هو هذا الذي يبعث فيهم الطمأنينة، وقد جاءهم فى هذا المدد السماوي من ملائكة الرحمن..
وفى آية أحد كانوا قد عرفوا هذا الذي يطمئنهم، وعرفوا الأفق الذي
يجىء منه، فلم يكن ثمّة داع يدعو إلى تقديمه فى النظم، ليفصل بين الفعل وفاعله، فجاء النظم على الأسلوب المألوف.
وفى آية بدر جاء قوله تعالى: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» وجاءت آية أحد: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» حيث جاء الخبر مؤكدا، فى آية بدر، على حين جاء مطلقا من غير توكيد فى آية أحد.. وذلك أن المسلمين فى بدر كانوا يواجهون أول وعد لله سبحانه لهم بالنّصر، فحسن أن يؤكد لهم هذا الوعد.. أما فى أحد فقد كانوا على يقين ثابت بوعد الله، الذي رأوا عزّته، وحكمته، رأى العين، فيما تحقق لهم من نصر يوم بدر..
وقوله تعالى: «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ» .
الظرف «إذ» هنا متعلق بقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» أي من مظاهر عزّة الله وحكمته فى هذا اليوم أن أرسل عليكم النّعاس، فغشيكم، وطرق عيونكم، ولبس أجسادكم، فكان ذلك من بواعث الأمن والطمأنينة لكم..
إذ لا يطوف النوم إلا حيث تكون السكينة، ويكون الاطمئنان.
والأمنة: بمعنى الأمن، ولكنها قطعة من الأمن، وليست كلّ الأمن والضمير فى «منه» يعود إلى الله سبحانه وتعالى.
وفى الحديث عن النعاس الذي غشّى المؤمنين يومئذ بأنه كان نعاسا، ولم يكن نوما، أو استغراقا فى النوم- إشارة إلى واقع الحال الذي كان يشتمل جوّ المعركة، من اضطراب النفوس، وجزع القلوب، وحيرة العقول، وأن من نعم الله الجليلة فى هذه الحال أن يطوف بالإنسان طائف من الأمن، بحيث يطرقه
النعاس، الذي يذهب بكثير من خواطر الجزع والقلق، ويكسب على كيان الإنسان الجسدى، والنفسي راحة وروحا، يستقبل بهما العدوّ، وهو أكثر نشاطا، وأثبت قدما، مما لو كان قد بات ليلة الحرب يعالج الهموم، ويحارب فى غير حرب، حتى يبدّد قواه، ويستهلك نشاطه، فيلقى العدوّ مهدّما محطّما..
وهذا النعاس- الذي غشى المسلمين- إنما كان ليلة الحرب، لا فى ميدان القتال، كما يرى ذلك بعض المفسّرين.. فإن النعاس مطلوب قبل الالتحام فى القتال، لا ساعة الالتحام، لأنه إعداد «للمعركة» وزاد من الاستجمام والنشاط يتزود به المقاتل.. أما وقوعه والمعركة دائرة والقتال محتدم، فهو عامل من عوامل الخذلان، لا عدّة من عدد النّصر..
والذي يؤيد أن هذا النعاس كان ليلة الحرب، وأنه كان نعمة من النعم التي ساقها الله للمؤمنين فيما ساق إليهم من نعم- الذي يؤيد هذا، أنه وصل بنعمة أخرى، صحبته، أو جاءت بعده، وهو نزول المطر فى تلك الليلة، كما يقول الله تعالى:«إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ» .
وقوله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ» .
هو بيان لما ساق الله إلى المسلمين يوم بدر من أمداد نصره وتأييده..
فإلى جانب الملائكة المرسلة إليهم، كان النعاس الذي غشّاهم الله به، فطرقهم جميعا.. ثم كان هذا المطر الذي نزل عليهم، فتطهروا به من الحدث الأكبر والأصغر، فكانوا على طهارة ظاهرة، تلتقى مع طهارة نفوسهم، وصفاء