الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيتان: (23- 24)[سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)
التفسير: فرّق الإيمان بالله، بين المؤمنين والمشركين، وجعل ولاء المؤمن للمؤمنين عامّة، أيّا كان لونهم وجنسهم، وأيّا كانت درجة القرابة فى النسب بينهم وبينه، على حين قطع ولاءه لأهله، وأقرب المقربين إليه إذا لم يكونوا من المؤمنين بالله وبرسول الله.
وقبل فتح مكة كان المهاجرون بعضا من أهليهم المشركين فى مكة..
فمنهم من آمن وهاجر، وترك وراءه أبا، أو أمّا، أو إخوة، ما زالوا على شركهم، وما زالت علائق القرابة تشدّه إليهم، وتذكره بهم، وتبعث أشواقه وحنينه نحوهم.. ثم بعد فتح مكة، دخل النّاس فى دين الله أفواجا، وأسلم أهل مكة ومن حولهم، ولكن لم يكن كثير منهم مؤمنا بقلبه، مطمئنا إلى الدين الجديد الذي دخل فيه، بل لقد ظل بعضهم يحمل الحقد والعداوة للإسلام، الأمر الذي دعا الرسول الكريم إلى أن يتألّفهم.. ولهذا جاء قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا
الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ»
- جاء منبّها المسلمين إلى ما قد يدخل عليهم من مشاعر القرابة نحو أهليهم الذين خلّفوهم وراءهم من المشركين.. تلك المشاعر التي قد تبلغ حدّ الجور على حقّ المسلمين على المسلم، من إخاء وموالاة.
وفى الآية الكريمة أمران، نحبّ أن نقف عندهما:
أولهما: أن النهى ورد مقصورا على الآباء والإخوان، ولم يذكر غيرهم من ذوى القربى، وخاصة الأبناء، الذين هم أقرب قرابة من كل قريب.. فلم هذا؟
وما حكمته؟
والجواب على هذا- والله أعلم- أن المخاطبين بهذه الآية هم المهاجرون والأنصار، الذين سبقوا إلى الإسلام، وخلّفوا وراءهم أهلا وعشيرا..
وهؤلاء الذين سبقوا إلى الإسلام- من المهاجرين والأنصار- لم يتخلّف وراءهم غالبا إلا آباؤهم وإخوانهم.. إذ أبى الآباء أن يتابعوا أبناءهم، أنفا وكبرا، كما أبى الإخوة أن ينقادوا للسابقين من إخوانهم، حمية وحسدا.. أما الأبناء فقلّ منهم من أسلم آباؤهم ثم لم يتابعونهم ويقفوا أثرهم.. فلما دخل هؤلاء المتخلفون فى الإسلام، دخله كثير منهم بقلب مريض، ونفس متكرهة.
وعلى هذا، فإن الصورة التي كان عليها المؤمنون يومئذ، هى: أن كثيرا منهم دخل فى الإسلام تاركا وراءه أبويه وإخوته، أو أحد أبويه وبعض إخوته، وقليل منهم من دخل فى الإسلام، ولم يدخل معه أبناؤه.. ومن أجل هذا كان النهى عن موالاة هؤلاء الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم- كان النهى متجها إلى هؤلاء الآباء والإخوة، دون الأبناء، الذين كانوا- بصفة عامة- مع آبائهم..
وثانى الأمرين: أن النهى لم يتناول المشاعر، والأحاسيس التي يجدها المسلمون نحو آبائهم وإخوانهم من المشركين، وإنما جاء واقعا على الولاء والإيثار، وتغليب مصلحتهم على مصالح المؤمنين، فهذا هو الذي نهى عنه
الإسلام، وذلك أن النهى عن المشاعر والأحاسيس أمر لا تحتمله النفوس، وإن كانت تحتمله بعض النفوس، فإن ذلك لم يكن إلا عن مشقة ومعاناة وحرج..
الأمر الذي برئت منه الشريعة الإسلامية السمحاء.
هذا، وفى الآية إشارة على أن الشبان أقرب من الشيوخ استجابة للدعوات الجديدة، والتجاوب معها، حيث كان السابقون إلى الإسلام من الشبان غالبا.
قوله تعالى: «قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» فى هذه الآية وضع للمسلمين فى مواجهة التجربة والاختبار لإيمانهم، واختيار ما يحبون وما يؤثرون..
فالإيمان فى جانب.. والآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والديار.. فى جانب آخر..
وعلى المؤمن أن يختار بين الإيمان بالله ورسوله والجهاد فى سبيله، وبين أهله، وماله ودياره.
والاختيار هنا يمكن أن يجرّ به الإنسان بينه وبين نفسه، حين يورد على مشاعره هذين الطرفين المتنازعين فى كيانه، وأن يستعرضهما واحدا بعد الآخر، وأن يفترض أنه إذا لم يكن من الممكن الجمع بينهما، فأيهما يؤثر أن يمسك به، ويعيش معه؟
فإذا آثر الإيمان على الولد والأهل والمال والموطن، كان على الصفة التي يتحقق بها الإيمان الذي يقبله الله منه، ويرضاه له.. وإن كان العكس، وآثر
الولد والأهل والمال والموطن، على الإيمان بالله ورسوله والولاء للمؤمنين، والجهاد فى سبيل الله، فهو أقرب إلى الجبهة المعادية للإسلام، منه إلى الجبهة الموالية له.. «والمرء مع من أحبّ» .
وفى وصف الأموال، بأنها أموال مقترفة إشارة إلى أن المال غاد ورائح.. وأنه أشبه بالمنكر، إذ كان أكثر ما يجىء المال من حصيلة الصراع بين الناس والناس.
وفى قوله تعالى: «وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها» إشارة إلى ما قد يصيب السّوق التجارية من كساد، حين تقوم القطيعة بين المؤمنين والمشركين.
وفى قوله تعالى: «فتربصوا» تهديد ووعيد لأولئك الذين يؤثرون علاقاتهم الدنيوية، على الإيمان بالله ورسوله والجهاد فى سبيل الله.. والتربص:
الانتظار.. ووراء هذا الانتظار ما يسوء أولئك الذين آثروا الآجلة على العاجلة حين يرون نصر الله للمؤمنين، وما فتح الله عليهم به من مغانم فى الدنيا، ورضوان فى الآخرة، وجنّات لهم فيها نعيم مقيم.
ويلاحظ أن قوله تعالى: «قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ.. الآية» قد انتظم كل ما تتعلق به النفوس، وتحرص عليه.. وليس وراءه من أمور الدنيا ما يطلبه الإنسان، ويعلق به..
كما يلاحظ أيضا أن هذه الأمور قد جاءت فى النظم القرآنى مرتبة الدرجات.. الأهمّ، فالمهم، فما هو دونه.. وهذا ما يجعل المؤمن أمام تجربة ذات شعب، وأنه قد يؤثر إيمانه على بعضها دون بعض، أو يؤثرها جميعا عليه، أو يؤثر إيمانه عليها جميعا.. كما أن هذه التجربة تنتظم المسلمين جميعا، لا يكاد أحد منهم يفلت من الدخول فيها، فمن لم يكن له أب كان له ولد.. ومن لم يكن له ولد، ولا والد، كان له زوج.. ومن لم يكن له واحد من هؤلاء كان له مال،