الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هؤلاء القوم، وإن كانوا كما عرفتهم الحياة، وكما سيكشف القرآن الذي سينزل فيهم بعد هذا، كثيرا من وجوه بغيهم وضلالهم- فإن فيهم قلة قليلة تحتفظ فى كيانها بمعالم الإنسانية السليمة، قد عرفت الحق واستقامت عليه، وحكمت به حكما عادلا بعيدا عن الهوى..
والمراد بهؤلاء، هم بعض علماء اليهود والنصارى وأحبارهم ورهبانهم، وقد دخل كثير منهم فى الإسلام وأصبحوا فى عداد المسلمين..
وإذا عرفنا أن هذه السورة مكية، وأن النبي صلوات الله وسلامه عليه، لم يكن قد واجه اليهود بعد، ولم يكن بينه وبينهم لقاء مباشر بدعوته- إذا عرفنا هذا أدركنا سرّ هذه الإشارات البعيدة التي كان يشير بها القرآن إلى اليهود، حيث كانت هذه الإشارات إرصاصا بالمواجهة الصريحة التي ستكون بين النبي واليهود، بعد أن يهاجر النبي إلى المدينة، ويلتقى باليهود، ويقع بينه وبينهم هذا الصراع العنيف الذي عرضه القرآن الكريم، والذي انتهى بإجلاء اليهود من المدينة، فى عهد النبي، ثم بإجلائهم من الجزيرة العربية كلها فى خلافة عمر بن الخطاب.. رضى الله عنه، وأرضاه.
الآيات: (160- 162)[سورة الأعراف (7) : الآيات 160 الى 162]
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)
التفسير: الأسباط: جمع سبط، وهو الحفيد، والمراد بالأسباط هنا هم الذرية التي ولدت لأبناء يعقوب الاثني عشر، الذين دخلوا مصر فى عهد أخيهم يوسف، والذين كان منهم بنو إسرائيل الذين أخرجهم موسى من مصر..
ويظهر من هذا أن القوم لم ينزعوا عنهم عصبية البداوة، التي دخلوا بها مصر، بل ظلت متحكمة فيهم طوال تلك الأجيال التي عاشوها بين المصريين، فاحتفظ كلّ ولد من أبناء يعقوب الاثني عشر بنسب ذريته إليه من بعده، فكما كانوا اثنى عشر ولدا، صاروا فيما بعد اثنتي عشرة قبيلة! وفى قوله تعالى:«وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى ابتلاهم بهذا التمزق فى عواطف المودة والإخاء بينهم، فقطّع أوصال هذه الأخوّة، التي كان من شأنها أن تجمع بعضهم إلى بعض، وأن تجعل منهم كيانا واحدا، خاصة وهم فى دار غرية، وليس هذا فحسب، بل هم فى وجه محنة قاسية بما رماهم به فرعون من بلاء..
وفى قوله تعالى: «أَسْباطاً أُمَماً» إشارتان:
الأولى: أن أعدادهم المقطعة إلى اثنتي عشرة قطعة، كانت أعدادا كثيرة، وأن كل قطعة منها هى أمة، فى كثرة عددها.. أولا، وفى تمايزها عن غيرها..
ثانيا. ولهذا كان الملاحظ فى العدد هو الأمة لأ الأسباط، لذلك أنّث العدد بجزئيه، كأنه قال:«وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً» .. فأمة هى التمييز لهذا العدد لا الأسباط، وقد جاء التمييز جمعا ولم يجىء مفردا كما هو الشأن فى تمييز الأعداد المركبة، للدلالة على أن الأمة الواحدة من هؤلاء القوم هى أمم، فى مختلف مشارب أفرادها، وتنازع أهوائهم.. فكل جماعة فى داخل هذه الأمة هى أمة، فى اتجاه أهوائها، واختلاف مشاربها.
ثانيا: أن ذكر الأسباط، يشير إلى أن هذا التقطيع لتلك الجماعة قام على أسلوب خاص، وهو أن كل قطعة ترجع فى أصلها إلى أبيها الأول من أبناء يعقوب..
استسقاه قومه: طلبوا السّقيا منه، حيث كانوا فى الصحراء، ولا ماء هناك.. وقد ثارت ثائرتهم فى وجه موسى، وكادوا يكونون عليه لبدا، فأوحى الله إليه أن يضرب بعصاه الحجر، فيخرج منه الماء الذي يشربون منه..
وقد ضرب موسى بعصاه الحجر، فانبجست منه اثنتا عشرة عينا، بعدد أسباطهم، أو أممهم.
والانبجاس: تدفق الماء من محبسه فى رفق ولين.. ثم كان التدفق الهادر بعد أن أخذ الماء مجراه، وقد جاء قوله تعالى:«فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» (60: البقرة) - جاء بالوصف الذي يضبط هذه الصورة كلها..
وقوله تعالى: «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» إشارة إلى أن كل جماعة من تلك الجماعات الاثنتى عشرة قد علمت المشرب الذي لها من تلك العيون التي
انبجست، فلا تشرب جماعة إلا من المشرب الذي هو لها.. وهكذا يظل القوم فى عزلة مادية، إلى جانب تلك العزلة النفسية التي اشتملت عليهم.
وفى قوله: تعالى «وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى.. كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» .. عرض لنعم الله عليهم، وإلفات لهم إليها، حتى يوجّهوا وجوههم إلى الله وحده، ويستقيموا على صراط مستقيم.
وقوله تعالى: «وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» كشف لمساوىء هؤلاء القوم، وما فيهم من ضلال وعناد ومكر بآيات الله.. فإنهم لم يرعوا هذه النعم المرسلة عليهم من السماء، ولم يلتفتوا إلى تلك الألطاف التي تحفّهم من كل جانب، وتطلع عليهم من كل أفق، بل كفروا بالله، وعاثوا فى الأرض فسادا.. وهم بهذا إنما يظلمون أنفسهم، ويوردونها مورد الهلاك والضياع، حين يعرضونها لسخط الله ونقمته، ولن يضرّ الله شىء من هذه المآثم التي يغرقون فيها، ويغرقون فيها أنفسهم، بل إن فى هذا البلاء العظيم الذي يشتمل عليهم.
وقوله تعالى: «وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ» هو بيان لوجه من وجوه بنى إسرائيل المنكرة، التي كانوا يتعاملون بها مع الله، حيث يلبسهم النعمة، فتزيدهم بالله كفرا وضلالا..
ولقد دعاهم الله سبحانه أن يدخلوا القرية، وأن يسكنوها، حتى ينتقلوا من الصحراء الجديب، إلى حياة الاستقرار والسّكن، وأن ينعموا بما تخرج أرضها من جنات وزروع.. وأوصاهم الله حين يدخلون هذه القرية أن يكونوا على حال خاصة، هى أن يدخلوا بابها ساجدين لله، قائلين «حطّة» أي مغفرة
لذنوبنا، وتكفير لسيئاتنا.. ولكنّهم حين دخلوا القرية أبوا إلا أن يغيّروا ويبدلوا فى هذا الأمر الذي أمرهم الله به، ولم يدخلوها على تلك الصورة التي رسمها الله لهم، ولم يكن ذلك بالذي يعنتهم أو يثقل عليهم، ولكن هكذا الطباع اللئيمة، والنفوس المريضة، لا تقبل الخير ولو كان الهواء الذي تتنفسه وتعيش عليه.. إنها طباع أطفال، تأبى إلّا الخلاف والشرود.
وفى قوله تعالى: «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» وصف فاضح مخز لهؤلاء القوم، فقد دمغهم الله بالظلم، وأدخلهم مداخل الظالمين، ولهذا جاء النظم القرآنى مصرحا بهم هكذا:«فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» ولم يقل:
«فبدلوا» .. وقد أخذهم الله بظلمهم، وعجّل لهم العذاب، بأن أنزل عليهم رجزا من السماء، أي لعنة ومقتا، «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ» بدلا- مما كان ينزل عليهم من المنّ والسلوى، وما كان يظللهم من غمام.
فالسماء التي كانت تتنزل منها الرحمة عليهم، هى السماء التي تصبّ عليهم البلاء والنقم.. والمراد بالسماء هنا الإشارة إلى متنزل الأقدار التي تنزل بالناس، من خير وشر، وأنها من مصدر عال متمكن، يشرف على الوجود كله، ويمسك به.
و «الْقَرْيَةَ» التي أمر بنو إسرائيل بالسّكن فيها لم يذكر القرآن اسمها، ولم يبيّن صفتها، ومع هذا، فقد كانت معروفة لبنى إسرائيل، مشارا لهم إليها هكذا:«هذِهِ الْقَرْيَةَ» .. وقد تكلف المفسرون البحث عنها، واختلفوا فيها.. ونحن نحترم سكوت القرآن عنها، وحسبها أنها قرية يسكن الناس فيها، ويجدون مطالب الحياة ميسرة فى أرضها، إذ لا متعلّق لاسم هذه القرية، ولا لصفتها فيما أمر به بنو إسرائيل عند دخولها.. وغاية ما يمكن أن يقال فى