الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وانظر إلى أهل القرى، وهم فى ضحوة النهار يلعبون.. ثم انظر إليهم وقد جاءهم أمر ربك على حين غفلة، فقطع عليهم ما هم فيه من لهو ولعب، وقلب بين أيديهم مائدة الحياة وما عليها من أدوات اللعب واللهو! وصدق الله العظيم:«وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» (102: هود) .
الآيات: (100- 102)[سورة الأعراف (7) : الآيات 100 الى 102]
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)
التفسير: هذه الآيات والآيات التي قبلها هى تعقيب على ما حلّ بالقوم الظالمين، الذين عصوا رسل الله، واسترهبوهم بصور مختلفة من الوعيد.
وهذه التعقيبات هى مما يمكن أن يرد على الخواطر، ويتردد على الألسنة ممن يمرّ من عقلاء الناس بمصارع القوم الظالمين، ويجوس خلال الديار التي عمروها، أو يقصّ عليه خبرها، وتكشف له أنباؤها، ففيها العبرة، وفيها العظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد..
وقوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ
وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ»
.. إنه يكشف عن وجه من وجوه العظة والاعتبار.. فهؤلاء الذين سكنوا مساكن القوم الظالمين الذين هلكوا، وورثوا أرضهم وديارهم وأموالهم.. ألم يهد لهم وينكشف لأبصارهم أو بصائرهم أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لأخذهم بذنوبهم كما أخذ القوم الظالمين قبلهم بذنوبهم؟ ولساق إليهم نذر الدّمار والهلاك كما ساقها إلى الهالكين من قبلهم؟ فما حجتهم على الله حتى يدفع عنهم هذا البلاء الذي هم جديرون بأن يؤخذوا به؟ وما وجه فضلهم على من أهلكوا قبلهم حتى لا يصيروا إلى مثل مصيرهم، وقد فعلوا فعلهم، وأخذوا طريقهم؟
إنه لا لحجة لهم على الله، ولا لفضل ظاهر فيهم، أن عافاهم الله من هذا البلاء، وأن صرف عنهم عذابه، ولكن لمقام رسول الله بينهم، ولفضل الله على نبيه الكريم ألا يعذب قومه وهو فيهم، كما وعده ربّه هذا الوعد الكريم:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (33: الأنفال) وهذه خصيّصة لمحمد صلوات الله وسلامه عليه، من بين رسل الله جميعا، ألّا يرى عذاب السّماء ينزل على قوم هو منهم، أو يصيب بلادا هو فيها..
وفى قوله تعالى: «وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» إشارة إلى أن العذاب الذي سيقع بهؤلاء الظالمين ليس عذابا ظاهرا، ينزل من السماء، أو يخرج من الأرض، ولكنه بلاء خفىّ، يغشى قلوب الظالمين، فيحجب عنها الهدى، فلا تتهدّى إليه، ويصرف عنها الخير، فلا تعرف له وجها..
وفى النظم القرآنى حذف دلّ عليه المقام، والتقدير:«أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ» (وأخذناهم بما أخذنا به القوم الظالمين قبلهم من بلاء ونكال، ولكنا لا نفعل بهم هذا، تكريما للنبي الكريم، «وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» كلام الله، ولا ينتفعون به)
وهذا عقاب خفىّ، لا يراه الرسول، حتى لا يحزن ولا يأسى..
وفى قوله تعالى: «فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» إشارة إلى أن المعجزة التي بين يدى هؤلاء القوم، والتي تكشف لهم الطريق إلى تصديق الرسول والإيمان بما جاء به- ليست معجزة منظورة تراها العين، ولكنها معجزة مقروءة تسمعها الأذن، ويعيها القلب.. وتلك المعجزة هى القرآن الكريم، والمستمعون لها هم هؤلاء القوم المشركون، ولكنهم لا يسمعون السمع الذي ينفذ إلى القلب، ويتصل بالعقل..
قوله تعالى:
القرى المشار إليها للنبىّ، هى تلك القرى التي قصّ الله سبحانه وتعالى أخبارها من قبل، وما حلّ بأهلها، بعد أن كذّبوا الرّسل..
وهؤلاء مشركوا أمّ القرى ومن حولها، قد سمعوا ما قصّ الله من أنباء القرى التي أهلكها الله حين كذبوا رسل الله، وهاهم أولاء يكذبون النبيّ ويمثّلون معه الموقف نفسه الذي وقفه من سبقهم من أهل القرى التي أهلكها الله- هؤلاء المشركون وتلك حالهم، هم بين أمرين:
إما أن ينتظروا البلاء الذي حلّ بمن سبقهم، وإما أن يؤمنوا بالله، ويستجيبوا للرسول.
أما البلاء، فلن يقع بهم والنبيّ فيهم..
وأما الإيمان، فلن يؤمنوا، لأن الله قد طبع على قلوبهم..
وإذن فليس لهم إلا الخزي فى الدنيا، وعذاب السعير في الآخرة..
والمراد بهؤلاء القوم هو رءوس الكفر، من مشركى مكة، الذين علم الله أنهم لن يؤمنوا، كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا. (57- 58: الكهف) .
فقوله تعالى: «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ» مراد به هؤلاء العتاة من رءوس المشركين من قريش.. إنهم لا يؤمنون أبدا بهذا الرسول الذي كذّبوا به، وبما أنزل إليه من آيات ربّه، فما ينزل من آيات الله بعد هذا، وما يساق إليهم فيها من عبر وعظات فى قصص الأولين- كل هذا لن يزيدهم إلا نفورا.. «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ» ذلك الطبع الذي لا ينفذ منه إلى القلب لمعة من نور الحق أبدا.
وقوله تعالى: «وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ» هو وصف كاشف لهؤلاء الرءوس من أهل الشرك فى قريش. وأمّا العهد الذي نقضوه مع الله فهو قولهم الذي حكاه القرآن عنهم: «أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» (156- 157: الأنعام) فهم قد عاهدوا أنفسهم أن لو جاءهم كتاب كما جاء أهل الكتاب كتاب، لآمنوا بالله، وكانوا أهدى سبيلا من أهل الكتب السابقة.
وقوله تعالى: «وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ» ..: «إن» هنا هى المخففة من إنّ الثقيلة المؤكدة، واللام فى قوله تعالى:«لفاسقين» هى اللام