المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيات: (12- 19) [سورة الأنفال (8) : الآيات 12 الى 19] - التفسير القرآني للقرآن - جـ ٥

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌الآيات: (88- 93) [سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 93]

- ‌الآيات: (94- 99) [سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 99]

- ‌الآيات: (100- 102) [سورة الأعراف (7) : الآيات 100 الى 102]

- ‌الآيات: (103- 116) [سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 116]

- ‌الآيات: (117- 122) [سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 122]

- ‌الآيات: (123- 126) [سورة الأعراف (7) : الآيات 123 الى 126]

- ‌الآيات: (127- 129) [سورة الأعراف (7) : الآيات 127 الى 129]

- ‌الآيات: (130- 133) [سورة الأعراف (7) : الآيات 130 الى 133]

- ‌الآيات: (134- 137) [سورة الأعراف (7) : الآيات 134 الى 137]

- ‌الآيات: (138- 141) [سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 141]

- ‌الآيات: (142- 144) [سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 144]

- ‌الآيات: (145- 147) [سورة الأعراف (7) : الآيات 145 الى 147]

- ‌الآيات: (148- 150) [سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 150]

- ‌الآيات: (151- 152) [سورة الأعراف (7) : الآيات 151 الى 153]

- ‌الآيات: (154- 155) [سورة الأعراف (7) : الآيات 154 الى 155]

- ‌الآيات: (156- 159) [سورة الأعراف (7) : الآيات 156 الى 159]

- ‌رسالة الإسلام ونسخها للرسالات السابقة

- ‌الآيات: (160- 162) [سورة الأعراف (7) : الآيات 160 الى 162]

- ‌الآيات: (163- 167) [سورة الأعراف (7) : الآيات 163 الى 167]

- ‌الآيات: (168- 171) [سورة الأعراف (7) : الآيات 168 الى 171]

- ‌الآيات: (172- 174) [سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174]

- ‌الآيات: (175- 179) [سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 179]

- ‌الآيات: (180- 185) [سورة الأعراف (7) : الآيات 180 الى 185]

- ‌الآيات: (186- 188) [سورة الأعراف (7) : الآيات 186 الى 188]

- ‌الآيات: (189- 198) [سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 198]

- ‌الآيات: (199- 206) [سورة الأعراف (7) : الآيات 199 الى 206]

- ‌8- سورة الأنفال

- ‌الآيات: (1- 4) [سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 4]

- ‌الآيات: (5- 8) [سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 8]

- ‌الآيات: (9- 11) [سورة الأنفال (8) : الآيات 9 الى 11]

- ‌الآيات: (12- 19) [سورة الأنفال (8) : الآيات 12 الى 19]

- ‌الآيات: (20- 26) [سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 26]

- ‌الآيات: (27- 31) [سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 31]

- ‌الآيات: (32- 35) [سورة الأنفال (8) : الآيات 32 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 40) [سورة الأنفال (8) : الآيات 36 الى 40]

- ‌الآيات: (41- 44) [سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 44]

- ‌الآيات: (45- 48) [سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 48]

- ‌الآيات: (49- 54) [سورة الأنفال (8) : الآيات 49 الى 54]

- ‌الآيات: (55- 60) [سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 60]

- ‌الآيات: (61- 63) [سورة الأنفال (8) : الآيات 61 الى 63]

- ‌[الحرب والسلام.. فى الإسلام]

- ‌الآيات: (64- 66) [سورة الأنفال (8) : الآيات 64 الى 66]

- ‌المسلم.. وكم حسابه فى ميدان القتال

- ‌الآيات: (67- 71) [سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 71]

- ‌الآيات: (72- 75) [سورة الأنفال (8) : الآيات 72 الى 75]

- ‌9- سورة التّوبة

- ‌نزولها:

- ‌الآيات: (1- 5) [سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 5]

- ‌الآيات: (6- 15) [سورة التوبة (9) : الآيات 6 الى 15]

- ‌الآيات: (16- 18) [سورة التوبة (9) : الآيات 16 الى 18]

- ‌الآيات: (19- 22) [سورة التوبة (9) : الآيات 19 الى 22]

- ‌الآيتان: (23- 24) [سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24]

- ‌الآيات: (25- 27) [سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27]

- ‌الآيتان: (28- 29) [سورة التوبة (9) : الآيات 28 الى 29]

- ‌الآيات: (30- 33) [سورة التوبة (9) : الآيات 30 الى 33]

- ‌الآيات: (34- 35) [سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 37) [سورة التوبة (9) : الآيات 36 الى 37]

- ‌الآيات: (38- 41) [سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 41]

- ‌الآيات: (42- 45) [سورة التوبة (9) : الآيات 42 الى 45]

- ‌الآيات: (46- 52) [سورة التوبة (9) : الآيات 46 الى 52]

- ‌الآيات: (53- 57) [سورة التوبة (9) : الآيات 53 الى 57]

- ‌الآيات: (58- 60) [سورة التوبة (9) : الآيات 58 الى 60]

- ‌الزكاة والتكافل الاجتماعى

- ‌الآيات: (61- 63) [سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 63]

- ‌الآيات: (64- 70) [سورة التوبة (9) : الآيات 64 الى 70]

- ‌الآيتان: (71- 72) [سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72]

- ‌الآيتان: (73- 74) [سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74]

- ‌الآيات: (75- 80) [سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 80]

- ‌الآيات: (81- 85) [سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 85]

- ‌الآيات: (86- 89) [سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 89]

- ‌الآيات: (90- 92) [سورة التوبة (9) : الآيات 90 الى 92]

الفصل: ‌الآيات: (12- 19) [سورة الأنفال (8) : الآيات 12 الى 19]

نيّاتهم لله، والموت فى سبيل الله.. وبهذا ذهب عنهم رجز الشيطان ووسواسه، الذي كان يلقى فى روعهم أنهم لو قتلوا لماتوا على غير طهارة، وهذا الشعور من شأنه أن يبعث فيهم شيئا من التخاذل والفتور، عند لقاء العدوّ..

ولهذا جاء قوله تعالى: «وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ» فيكشف عن أثر هذا الماء الذي أنزل الله عليهم فطهرهم به، وأذهب عنهم رجز الشيطان وثبت به أقدامهم، حيث اطمأنت قلوبهم بعد أن طهروا، فثبتت أقدامهم فى موطن القتال، وسعوا إلى لقاء الله طاهرين! ومن جهة أخرى، فإن هذا الماء الذي أنزله الله عليهم ليلة القتال قد كان له أثره فى تماسك الأرض من تحت أقدامهم، حيث اختلط الرمل بذرات التراب، فلما أمسك المطر، وجفت الأرض صار وجهها طبقة صلبة أشبه بالطين اللازب، فثبتت عليه أقدامهم، بعد أن طهرت أجسامهم، واطمأنت قلوبهم..

‌الآيات: (12- 19)[سورة الأنفال (8) : الآيات 12 الى 19]

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)

ص: 577

التفسير: قوله تعالى: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا» هو عطف بيان على قوله تعالى: «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ» ولم يعطف على ما قبله عطف نسق، إذ كان الأمران كأنهما أمر واحد، إذ وقعا جميعا مرة واحدة، فلم يكن هناك فاصل زمنى بينهما. وذلك دليل على قدرة الله، الذي لا يشغله حدث عن حدث، والذي لا يغيّر من قدرته امتلاء الزمان أو المكان بالأحداث.

وقوله تعالى للملائكة: «أَنِّي مَعَكُمْ» إشارة إلى أن الملائكة، وإن كانوا على قوة لا حدود لها بالنسبة لقوة البشر، إلا أنهم مع ذلك يستمدّون القوة والعون من الله سبحانه وتعالى، شأنهم فى ذلك أضعف مخلوقات الله، وأقلها حولا وحيلة.

وقوله سبحانه: «فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا» بيان لما كان من الملائكة يوم بدر، وأنهم كانوا قوة معنوية، تبعث الطمأنينة فى القلوب، أشبه بالدرع الواقي الذي يلبسه المحارب، وإن لم يكن له شأن معه فى المعركة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» .

ص: 578

وقوله تعالى: «سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» إشارة إلى ما وقع فى قلوب المشركين يومئذ من رعب، اضطربت له صفوفهم، وزاغت به أبصارهم.. وبهذا وذاك تمكّن المسلمون من رقابهم، وأوقعوا الهزيمة بهم.

وقوله سبحانه: «فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» هو دعوة للمسلمين أن يحصدوا هذا الزرع الذي أصبحت قطوفه دانية لأيديهم، وبهذا يضاف هذا المحصول كله لهم، ويحسب من عمل أيديهم.. وهذا فضل من الله عليهم، ورحمة واسعة من رحمته بهم.

ولو شاء الله سبحانه أن يهلك المشركين من غير أن يبتلى بهم المؤمنين لفعل.. ولكن أين بلاء المؤمنين؟ وأين العمل الذي يضاف إليهم، ويؤجرون عليه؟

إنه من تدبير الله تعالى وحكمته، أن يبتلى الناس بعضهم ببعض، وذلك ليظهر فى كلّ إنسان ما عنده من خير أو شر، وبهذا تنكشف للناس وجوههم، وتتحدد مواقفهم.

وفى قوله تعالى: «فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» إشارة إلى ما ينبغى أن يتجه إليه ضرب المؤمنين فى جبهة المشركين، وهو أن يكون فى المواطن التي تخمد بها أنفاسهم، أو تشل حركاتهم، وذلك بضرب الرءوس التي عشّش فيها الشرك، وأفرخ فيها الضلال، وضرب تلك الأيدى التي كانت تمتد بالأذى إلى المسلمين، وها هى ذى تريد القضاء عليهم.

وقوله تعالى: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ»

هو بيان للسبب الذي من أجله أمر الله المسلمين بضرب هؤلاء المشركين هذا الضرب الذي مكنهم الله به من رءوس أعدائهم.. فهم قد شاقّوا الله ورسوله، أي خالفوهما، وعصوا أمرهما.. وليس جزاء من يشاقق

ص: 579

الله ورسوله إلّا أن يلقى جزاءه عند الله، والله شديد العقاب.

قوله تعالى: «ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ» هو خطاب للمشركين، والإشارة هنا إلى هذا العذاب الذي صبّه الله عليهم، وجرّعهم كئوسه على أيدى المؤمنين.. وذلك هو جزاؤهم فى الدنيا.. أما فى الآخرة فلهم أنكى وأمرّ.. إنه عذاب النار.

وقوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ» هو درس للمؤمنين، يتلقونه فى هذا الموقف، الذي شهدوا فيه آيات الله، ورأوا بأعينهم أمداد نصره وتأييده، فليكن ذلك درسّا لهم يتلقون منه العظة والعبرة، وليصحبهم هذا الدرس فى كل موقف بعد هذا، يكون فيه بينهم وبين المشركين والكافرين قتال.. فهو نداء عام للمؤمنين، المجاهدين فى سبيل الله، بأن يثبتوا للعدو، وأن يلقوه لقاء جادّا مصمما على النصر، أو الاستشهاد فى المعركة، دون أن يدخل على أحد منهم شعور بالفرار من وجه العدوّ، أيّا كان الموقف، وأيّا كانت قوة المشركين وشوكتهم..

وقوله تعالى: «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» .. هو وعيد شديد لمن يدخل على نفسه من المؤمنين شعور بالهزيمة، فينكص على عقبه، ويعطى العدوّ دبره، فى أي موقف من مواقف القتال بين المؤمنين والمشركين.. وقوله تعالى:«يومئذ» هو أىّ كان، لا يراد به يوم بعينه، كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين بجعل، هذا اليوم خاصّا بيوم بدر.. وهذا فوق أنه غير متفق مع الدعوة العامة التي حملها القرآن الكريم إلى المؤمنين فى آيات كثيرة بالثبات فى الجهاد- غير متفق كذلك مع ترتيب الأحداث إذ أن سورة الأنفال، نزلت بعد بدر وأحداثها، وذلك باتفاق.

ص: 580

وحال واحدة هى التي يحقّ للمؤمن فيها أن يعطى العدو ظهره، وهو أن يتحرّف لقتال، أي يرى تغيير موقفه الذي هو فيه، ويتخيّر موقفا آخر، أمكن له، وأصلح لموقفه فى القتال، أو أن يتحيز إلى فئة من المؤمنين، فينتقل من جماعة إلى جماعة، حيث يرى فى ذلك مصلحة فى النكاية بالعدوّ.. فهذا التولّى بالوجه عن مواجهة العدوّ هنا، هو لحساب المعركة، لا لحسابه، ولا للضنّ بنفسه عن أن يواجه العدوّ، ولو كان فيه الموت.

وفى التعبير عن الصدّ عن العدوّ، والفرار منه بتولية الدّبر، تشنيع على من يأتى هذا الفعل، وفضح له، إذ كان كأنما يكشف سوأته لعدوّه أو يعطيه دبره! وقوله تعالى:«فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» هو إشارة إلى أنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي مكنّ للمسلمين يومئذ من عدوّهم، وأن يد الله هى التي ضربتهم تلك الضربة القاضية، وأن المسلمين لم يكونوا إلا أسبابا ظاهرة، أجرى الله على أيديهم ما أخذ به عدوهم من بلاء فى هذه المعركة.. وكذلك ما فعله النبىّ يومئذ حين قبض قبضة من تراب فرمى بها فى وجه الكافرين، داعيا الله سبحانه أن يعمى أبصارهم، ويطمس على قلوبهم، ويأخذ على أيديهم.. فإن ذلك الذي كان من النبىّ لم يكن ليحدث أثره، إلا لأن الله سبحانه هو الذي جعل لهذه الرمية تأثيرها وأثرها..

وإذن فإن فوق يد المسلمين كانت يد الله.. وفوق يد النبي كانت يد الله.. وإذن فلا يحسب المسلمون أنهم بغير هذا المدد السماوي قد غلبوا عدوهم وقهروه، ولا يحسب النبىّ أنه برميته تلك التي رمى بها فى وجوه المشركين قد فتح للمسلمين طريق النصر، لولا أن يد الله تقبلت رميته وباركتها.. وفى هذا وذلك ما يشعر بأن الله سبحانه مع نبيه ومع المجاهدين معه.

ص: 581

وإذا كان الله سبحانه هو الذي مكّن للمسلمين من عدوهم، ومنحهم هذا النصر، فما ذلك إلا «لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً» حيث أعطاهم أجر هذا العمل العظيم، الذي هو فى حقيقة الأمر لم يكن لهم يد فيه، فلو جرت الأمور على ظاهرها لكانت الدائرة عليهم، ولكان القتل والبلاء فيهم.. فليذكروا هذا، وليتزودوا منه يزاد الإيمان بالله، وعقد العزم على الجهاد فى سبيله..

«وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» (40: الحج) .

وفى وصف البلاء بأنه حسن إشارة إلى الوجه الآخر من وجوه الابتلاء وأنه قد يكون غير حسن كما يقول الله: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» (35: الأنبياء) .

فقد عافى الله المؤمنين من أن يبلوا بالقتل، وأن يمتحنوا بالأسر، فذلك مما يبتلى الله به المؤمنين، ويجزيهم عليه.. ولكن رحمة الله بالمؤمنين فى هذا الموقف الذي يلقون فيه الشرك لأول مرة، وينتصرون فيه لأنفسهم- جعلت الابتلاء بالخير دون الشر، وبالعافية دون البلاء.. فظفروا وانتصروا، وسلموا، وغنموا.. ورجعوا بالحسنيين جميعا.. المغانم فى الدنيا، والجنة ونعيمها فى الآخرة.

وقوله تعالى: «ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ» .

الإشارة هنا إلى ما لله سبحانه وتعالى من رعاية لأوليائه، وتمكين لهم من أعدائهم.. فأولياؤه، المجاهدون فى سبيله، هم أبدا محفوفون بنصره وتأييده، وأن ما يكيده الكافرون لهم لا يصل إليهم، إلا واهيا، ضعيفا، متخاذلا..

وقوله سبحانه:

«إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ» .

ص: 582

هو تهديد ووعيد للكافرين، الذين يدلّون بقوتهم، ويعتزّون بكثرتهم..

فهاهم أولاء يشهدون بأعينهم كيف كان فعل الله بهم، وكيف أخذهم الله بيد أوليائه، ورماهم بالبلاء والذلة والهوان..؟

والاستفتاح: طلب الفتح، وهو النصر والغلب.

والخطاب فى قوله تعالى: «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ» هو للمشركين، وهو بلاء فوق البلاء الذي أصيبوا به فى يوم بدر.. فقد جاءوا مستفتحين، أي طالبين النصر والغلب.. فهذا هو النصر الذي طلبوه، وذلك هو شأنهم أبدا مع المؤمنين.. إنهم لن يرجعوا إلا بنصر هكذا النصر الذي انقلبوا به، يحملون الخزي والعار، ويتركون فى ميدان المعركة سادتهم وأشرافهم، أشلاء ممرغة فى التراب! وفى قوله تعالى:«وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ» فى هذا ما يكشف عن المستقبل المظلم الذي ينتظر المشركين، إذا هم أصرّوا على موقفهم من المسلمين، ولم ينتهوا عماهم عليه من بغى وعدوان، فإن كثرة عددهم، وشوكة قوتهم، لن تغنى عنهم شيئا، ولن تدفع قضاء الله فيهم..

وفى قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ» تيئيس للمشركين من أنهم لن ينالوا من المسلمين منالا، وأن العاقبة للمؤمنين، لأن الله معهم.. فلينظروا..

هل ينتصرون على جبهة يكون الله معها؟ فليجربوا!! وقد جربوا فعلا، فكان هذا الذي سجله التاريخ للدعوة الإسلامية، وما كتب الله لأهلها من النصر والفتح المبين.. وكان هذا الوعد من القرآن الكريم فى مطلع الدعوة الإسلامية معجزة من معجزاته، فيما كشف به عن حجب الغيب، وأنباء المستقبل..

ص: 583