الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل الرد على زعم المعترض أن الشيخ كفر الأمة بالعموم وبحث تجديد العلماء للدين ووقوع الغربة]
فصل قال المعترض: (فإذا تنزلنا معه على مذهبه من تكفير الأمة حتى يظهر لك جهله، حيث قال في كلامٍ له يأتي: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله الذي أظهرناه للناس) . اهـ.
فيقال لهذا المعترض وإخوانه: قد تقدم أن الشيخ بريء مما نسب إليه من تكفير الأمة، ولا يلزم من قوله:(إنَ التوحيد دين الله ورسوله الذي أظهرناه للناس) أنه يعتقد كفر الأمة، أو أن الأمة جميعها لا تعرف التوحيد. هذا لا يتحمَّله كلامه، ولا يدل عليه ولا يلزمه.
وإظهاره التوحيد للناس حق وصدق، فلم يظهر في وقته وقبله بأزمنة ظهوراً جليا لأهل تلك البلاد إلا بعد دعوته إلى الله، وبيانه للناس ما جاء به نبيهم من الهدى ودين الحق، ولا يمنع أن يكون من الأمة من يعرفه ويدين به، لكن له في الدعوة والبيان والإظهار منزلةً ومرتبةً ليست لغيره من أهل وقته، ولذلك كثر أعداؤه وخصماؤه، واشتغل الجاهلون بالصد عما جاء به، وعظم ذلك في نفوسهم، وخصُّوه بالعداوة، وسالموا كل كافر ومشرك وجهمي ورافضي ومبتدع، وهل ذلك إلا لحنقِ في صدورهم، وغيظٍ في نفوسهم؛ واستكباراَ عن إجابته؛ ولو سَلِموا من ذلك لوجدوا من أعداء دين الله ورسوله المكذبين لرسله من يردُون عليه،
ويصنفون في عيبه وثلبه، والعالم يظهر للناس ما خفى من أصول الدين وفروعه، ولا يقتضي حصر العلم فيه، وإن اشتهر بالدعوة والبيان.
وقد خفى التوحيد على طوائف من هذه الأمة في القرن السادس وقبله كما قرَّره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وذكروا مَن غلط في مسمَاه [25] ، من المتكلمين، وأتباعهم ومن جهال الصوفيَّة، كذلك أهل الاتَحاد والحلوليَّة يرون (1) مذاهبهم هي التوحيد، وتوحيد المعتزلة هو الإتيان بأصولهم الخمسة واعتقادها.
وقد خاطب شيخ الإسلام بعض الشيوخ في مسألة التوحيد، وبيَّن له توحيد المرسلين وأصل الإسلام، وإن ما يحصل من التألُه والاستغاثة بالشيوخ والصالحين يخالف ما جاءت به الرسل من التوحيد وإسلام الوجوه لله، فعظم أمر هذه المسألة، وقال لشيخ الإسلام:(هذا أعظم ما بينته لنا) أو كما قال. فكيف والحالة هذه يعترض على شيخنا في قوله: (إن التوحيد دين الله ورسوله الذي أظهرناه للناس) .
أيظن هذا المعترض أنه على تطاول الأعصار، وممر (2) الدهور، يزداد الدين ظهوراَ، وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أنه يعود غريباَ كما بدأ، فلا بدا من غربته وغربة من يعرفه ويدين به، وهذا من أعلام النبوة كما يشهد له الحس والواقع.
قال ابن القيم (3) رحمه الله في الكلام على قوله تعالى:
(1) في (ح) : " إذ يرون ".
(2)
ممحاة من (ح) ، ومكانها بياض.
(3)
انظر: " مدارج السالكين "(3 / 196) .
{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود: 116](1) الآية [هود / 116] :
(الغرباء في هذا العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في هذه الآية، وهم الذين أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في (2) قوله: " «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: ومَن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس» "(3) وفي حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده: " «طوبى للغرباء. قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل (4) في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» (5) .
فأهل الإسلام بين أكثر الناس غرباء؛ وأهل الإيمان بين أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنَّة الذين تميزوا (6) بها عن [أهل](7) الأهواء والبدع) (8) فيهم غرباء، والداعون إليها، الصابرون على أذى المخالفين لهم أشد غربةً، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقُّا فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين.
(1) في (م) و (ح) و (المطبوعة) زيادة قوله: ينهون عن الفساد في الأرض.
(2)
ساقطة من (ح) .
(3)
أخرجه مسلم (145) من حديث أبي هريرة، و (146) من حديث ابن عمر، والترمذي (2629، 2630) من حديث ابن مسعود وعمرو بن عوف، وابن ماجه (3986) من حديث أبي هريرة، و (3987) من حديث أنس بن مالك.
(4)
ساقطة من (م) .
(5)
أخرجه أحمد في المسند (2 / 177) ، (2 / 222) .
(6)
في (س) : " يتميزون".
(7)
ما بين المعقوفتين إضافة من (م) و (ح) .
(8)
إلى هنا ينتهي السقط من (ق) .
قال الله تعالى فيهم (1){وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116][الأنعام / 116] .
فأولئك هم الغرباء عن (2) الله ورسوله ودينه، وغربتهم هي الغربة الموحشة، وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم.
فالغربة ثلاثة أنواع: غربة أهل الله وأهل / سنة رسوله بين هذا الخلق، وهي (3) الغربة التي مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه " بدأ غريبا (4) وأنه سيعود غريباً " وأن أهله يصيرون غرباء.
وقال الحسن: " المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها ولا ينافس في عزها للناس حال وله حال) .
ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين (5) غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم: التمسُّك بالسنَّة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه، وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا طريق ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء ينتسبون إلى الله بالعبوديَّة له (6) وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقًّا، فلغربتهم بين هذا الخلق
(1) ساقطة من (ق) .
(2)
في (ق) و (س) و (ح) : "من ".
(3)
في (ح) : " وهي بين "، وفي الأصل وبقية النسخ:(وبين) ، والمثبت كما في مدارج السالكين.
(4)
ساقطة من (م) .
(5)
في (المطبوعة) : " الذي ".
(6)
في (ق) : "لله".
يعدُونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" «إنهم النُزَّاع من القبائل» "(1) انتهى.
وأما قول المعترض: (ونحن لا نقول بذلك من تكفير الأمة، ولا أنه الذي أظهر دين اللِه ورسوله، بل هو قبله ظاهر قاهر لا يضرّه من (2) خذله إلى يوم القيامة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما) .
فيقال: تكفير الشيخ للأمة قد تقدَم البيان في أنه من (3) أوضاعكم وأكاذيبكم، وتقدَّم نصه بنقل العدول في البراءة منه.
وأما عدم (4) قولك بأنه الذي أظهر دين الله ورسوله، فنعم؛ أنت لا تقول به، ولا يقول به من أعمى الله بصيرته وتحيَّر في ظلمة الجهل والطبع والهوى، فشكَّ في واضحات العلم (5) وضروريات الهدى، وهذا الضرب من الناس لا يلتفت إليهم، ولا يعدون إذا عُدَّ (6) أهلُ العلم والإيمان، بل هم همج رِعاع لم يستضيئوا بنور العلم، ولما يلجأوا إلى رُكن وثيق، أقربُ شبهاً بهم الأنعام السارحة، وإنما يعرف الحق والفضل ذووه من أهل العلم بالله ودينه، الذين ينظرون بنور الله،
(1) أخرجه ابن ماجه (3988) ، وأحمد في المسند (1 / 398) ، والدارمي (2755) ، وأبو يعلى (8 / 388) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
ساقطة من (ح) .
(3)
في (م) و (ق) : "قد تبين أنه من".
(4)
ساقطة من (م) و (ق) .
(5)
ساقطة من (ق) .
(6)
في (ق) : (إذا أن عد) .
ويعرفون الرجال بالعلم، فلهم بصيرة بالحقِّ ومعرفةً له أينما كان، ومع من كان.
قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22](1)[الزمر / 22] .
وفي الحديث: " ما جعل الله من نبوَّةٍ إلا كانت بعدها (2) فترةً "(3) .
وقال الإمام أحمد في خطبته (4)(الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلَّ (5) إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصّرون بنور الله أهل العمى؛ فكم من قتيل لإبليس قد أحْيَوه، ومن ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم) ، إلى آخر كلامه رحمه الله.
وقد شهد أهل العلم والفضل (6) من أهل عصره أنه أظهر توحيد الله، وجدَّد دينه، ودعا إليه.
قال العلامة حسين بن غنَام (7) رحمه الله:
(1) في (س) : "بعيد".
(2)
في (س) : "بعده"، "كانت" ساقطة من (ق) .
(3)
أخرجه الطبراني في الكبير (12 / 73، ح 12514، 12515) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7 / 205) موقوفاَ على ابن عباس.
(4)
انظر: " الرد على الجهمية والزنادقة " ص (6) .
(5)
في (ق) : (أضل) .
(6)
في (ح) : "الفضل والعلم".
(7)
انظر: "عنوان المجد"(1 / 193) .
لقد رفع المولى (1) به رتبة الهدى بوقت به يعلو الضلال ويرفع (2) .
وذكر في تاريخه عن أكابر أهل عصره أنهم شهدوا له بالعلم والدين، وأنه من جملة المجددين لما جاء به سيد المرسلين، وكذلك أهل مصر والشام والعراق والحرمين تواتر عن فضلائهم وأذكيائهم مدحه والثناء عليه والشهادة له أنه جدد هذا الدين (3) كما قال شيخنا محمد بن محمود الجزائري رحمه الله تعالى.
وأما استدلال هذا المعترض بحديث: " «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين» "(4) .
فلم يفقه معناه: فإن الظهور يراد به هنا ظهور (5) القهر والغلبة للأعداء والمخالفين، وعلو الشأن لا أن الحق والإسلام يزداد بياناَ ووضوحاً إلى يوم القيامة، فإن هذا الفهم (6) يُردُّ بحديث:" «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ» "(7) وبحديث (8)
(1) في جميع النسخ: " به رفع المولى"، والمثبت كما في (ح) ، وهو الصواب.
(2)
في (ق) : "ويرتفع".
(3)
ساقطة من (س) .
(4)
أخرجه البخاري (7311، 7459، 7460) ، ومسلم (156) ، وأبو داود (2484، 4252) ، والترمذي (2229) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(5)
ساقطة من (ق) .
(6)
في (ق) : "فهم".
(7)
أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه وتقدم تخريجه. انظر: ص (89) ، هامش رقم (3) .
(8)
ساقطة من (ق) .
" «لا يأتي عليكم (1) زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم» "(2) وأحاديث رفع العلم وقبضه، وظهور الجهل والفتن، وكثرة الهرج، كلها ترد فهم هذا المعترض وتبطله.
ولا يقبل ريبه وتفسيره إلا جهَّال جلسائه، وأصحابه الذين (3) لا يفرقون بين الدر والبعْر، والخبيث والطيب، والميتة والمذكاة {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 41] فقول المعترض هو المارج الخارج لا قول شيخ الإسلام.
(1) ممحاة من (ح) ، ومكانها بياض.
(2)
أخرجه البخاري (7068) ، وأحمد (3 / 132، 177، 179) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
في (المطبوعة) : " الذي "، وهو خطأ.