الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من البلاد الإسلامية. وظلت مصر في الوقت نفسه قصبة العالم الإسلامى والحضارة الإسلامية، وأخذ سكانها يزدادون زيادة مطردة سريعة حتى بلغوا الآن نصف سكان الأقطار التي تتكلم اللغة العربية (انظر Massignon في R. M. M، جـ 57، ص 75. وما بعدها) وسيكون أهم ما نعنى به في الصفحات التالية عند الكلام على أحوال مصر منذ بداية القرن التاسع عشر هو الطريقة التي استجاب بها هذا البلد الإسلامي لعملية صبغه بالصبغة الأوربية، وما كان لهذا العمل فيه من آثار.
1 - تاريخ مصر السياسي
وفي وسعنا أن نقسم تاريخ مصر من أوائل القرن التاسع عشر حتى حرب عام 1914 إلى أربعة عهود متمايزة:
1 -
من الحملة الفرنسية إلى أن استتب الأمر نهائيا لمحمد على (1798 - 1805).
2 -
من بداية حكم محمد علي إلى نهاية العهد الذي كانت فيه مصر إحدى الدول الكبرى 1805 - 1841.
3 -
من ذلك الوقت إلى بداية الاحتلال الإنجليزى (1841 - 1882).
4 -
عهد الإحتلال الإنكليزى حتى إعلان الحماية الإنكليزية (1882 - 1914).
وكان من أهم أسباب الحملة الفرنسية على مصر رغبة فرنسا في أن تمنع إنكلترة من أن تقوم هي نفسها بمثل هذا العمل. ذلك أن مصالح فرنسا التجارية في مصر كانت خلال القرن الثامن عشر أعظم شأنًا من مصالح إنكلترة فيها، فلما عقدت إنكلترة معاهدة تجارية مع على بك الكبير الذي اغتصب ملك مصر لنفسه وسمح لها بمقتضاها أن ترسل سفنها إلى مياه البحر الأحمر لتنقل المتاجر بين الهند ومصر، أصبح تدخل إنكلترة في شئون مصر خطرا سياسيا عظيما. وكان موقع مصر الجغرافي مما جعلها مركزا تلتقى فيه المصالح الأوربية السياسية منذ الساعة التي ثبتت فيها دعائم الاستعمار في الهند، وأصبح الطريق البحرى وحده لا يفي بمطالب الاستعمار الأوربى. فكان الاستيلاء على مصر موضع البحث في
فرنسا طوال القرن الثامن عشر. لكن العلاقة التقليدية الطيبة التي كانت قائمة بين فرنسا وتركيا حالت دون تنفيذ هذه النية، وأخيرا وافقت حكومة "الإدارة الفرنسية" Directoire في 5 مارس سنة 1798 على إرسال هذه الحملة بإيعاز من نابليون بونابرت ومعاضدة تاليران Talleyrand.
وتدل الإجراءات الفعالة غير المألوفة التي اتخذها الباب العالى في عام 1788 ضد على بك على أن تركيا نفسها كانت تتوجس خيفة من هذه الحوادث المقبلة. أما في مصر نفسها فلم يكن ثمة ما يدل على أن البلاد تخشى أن تغزوها دولة أوربية. وفي اليوم الثاني من شهر يولية سنة 1798 ألقى الأسطول الفرنسى مرساه على الشواطيء المصرية دون عناء، وكان هذا الأسطول مؤلفًا من نحو 400 سفينة، ويُقل قوة برية يبلغ عددها 35.000 رجل بقيادة بونابرت نفسه. ثم زحف الفرنسيون من فورهم على القاهرة ونظم إبراهيم بك ومراد بك زعيما المماليك قواتهما بالقرب من إمبابة على نهر النيل لصد الفرنسيين، ولكن سرعان ما بدد هؤلاء شملها في واقعة الأهرام، وأعقب ذلك احتلال مدينة القاهرة قصبة الديار المصرية في الرابع والعشرين من شهر يولية. وفر مراد بك إلى الصعيد كما فر إبراهيم بك إلى الوجه البحرى؛ وسكن الذعر الذي انتشر في العاصمة بعد قليل من الوقت، لكن بونابرت ما لبث أن اضطر إلى اتخاذ إجراءات شديدة حاسمة شرقية في صبغتها لإخماد ثورات الأهلين. ولم يمض على نزول الفرنسيين إلا شهر واحد حتى دمر الأسطول الفرنسى في خليج أبي قير على يد نلسون في أول يوم من أغسطس، وبذلك تبدلت صبغة الحملة الفرنسية عما كانت عليه في مبدأ الأمر. وكان هذا العمل أول الضربات التي كالتها إنكلترة لهذه الحملة والتي انتهت بإنسحابها من مصر نهائيا. ثم أعلن الباب العالى على كره منه الحرب على فرنسا في سبتمبر من تلك السنة. ولكن الجنود التركية لم تصل إلى مصر إلا في منتصف العام التالى (1799). وكان الفرنسيون في هذه الأثناء قد أنشئوا في مصر إدارة
منظمة، أما المصريون أنفسهم فكان موقفهم من الفرنسيين موقف الساخر منهم، المستهزئ بأعمالهم، ولم يغن عن الفرنسيين ما أظهروه من احترام لشعائر البلاد الدينية وما قام به العلماء الذين جاءوا مع الحملة العسكرية من بحوث علمية. ولم يلبثوا إلا قليلا حتى خاب ظنهم في الفرنسيين، إذ رأوا أنهم هم أيضا يطالبون بأداء الضرائب العقارية. وغضبت أكثرية أهل البلاد المسلمون حين رأوا الفرنسيين الأجانب يستعينون بالمسيحيين من المصريين (الأقباط والأروام والسوريين) في المناصب الحكومية الصغرى، فشبت في القاهرة في الحادى عشر من شهر أكتوبر سنة 1798 ثورة على جانب من الخطر لم تسكن إلا بعد أن أطلقت القنابل على الجامع الأزهر في اليوم التالى. وأراد بونابرت أن يحول دون مقدم الجيش التركى لنجدة مصر فسير حملته الشهيرة على الشام في فبراير من عام 1799 ، فلما عجز عن الاستيلاء علي عكا وكان يدافع عنها الجزار باشا اضطر إلى الارتداد عنها في مايو من تلك السنة. وبعد شهرين من عودته إلى مصر نزل أول فوج من الجنود التركية في أبي قير (14 يوليه سنة 1799) تقلهم سفن إنكليزية، وكان من بينهم محمد على برتبة ضابط في الفرقة الألبانية. لكن بونابرت هزمهم شر هزيمة وأخرجهم من آخر ملجأ اعتصموا به وهو قلعة أبي قير في اليوم الثاني من شهر أغسطس. وبقى الفرنسيون في مصر عامين آخرين بعد أن غادرها بونابرت في الثاني والعشرين من أغسطس. وكانوا في خلالها تحت قيادة كليبر (وقد اغتيل في يونية من عام 1800) ثم مينو. وقضى الإنكليز والترك على ما كان باقيا لديهم من قدرة على المقاومة في عام 1801، فاضطروا في تلك السنة إلى مغادرة البلاد. وإذا غضضنا النظر عن النتائج السياسية المباشرة للحملة الفرنسية، وهي القضاء على قوة المماليك، وعودة مصر إلى سلطان تركيا، رأينا أن النتائج العلمية التي أسفرت عنها هذه الحملة والتي نشرت في المجلدات الثمانية من كتاب وصف مصر Descsription de L'Egypte (انظر المصادر الواردة في آخر هذه المادة)
كانت عظيمة غاية في الخطر. وقد تركزت هذه الأعمال العلمية في المعهد العلمي المصري Institut Egyptien الذي أنشأه بونابرت في القاهرة في 21 أغسطس سنة 1798 (انظر بريييه Bre- L'Egypte de 1798 - 1900: hier ص 65 - 80).
وكان ما قامت به هذه البعثة من بحوث في "أحوال مصر الحاضرة" هو الأساس الذي بنى عليه كل ما يعلمه الأوربيون عن مصر الحديثة (ومن أمثلة ذلك البحوث الوافية التي قام بها ليبر Lepere عن إمكان شق قناة تصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر). على أن أثر الفرنسيين المباشر، في أثناء هذه الفترة، في تطور مصر الثقافي يكاد يكون معدوما. ذلك أن الفوارق العظيمة بين الحضارة الشرقية والحضارة الغربية كانت أكبر من أن تجعل لهذا العهد الأول أثرا محسوسا في تطور البلاد الثقافي. كما يتبين المرء ذلك بوضوح عندما يقرأ وصف الجبرتى لعهد الاحتلال الأجنبي.
ولما غادر الجيش الفرنسي البلاد تجدد النزاع القديم بين الولاة الأتراك والبكوات المماليك الذين أرادوا بمساعدة الإنكليز أن يستردوا ما كان لهم في مصر من السلطان. ولما مات مراد بك أصبح عثمان بك البرديسى أكبر زعمائهم. أما الأتراك فكانوا بطبيعة الحال يرغبون في أن يغتنموا هذه الفرصة السانحة ليمكنوا لأنفسهم في البلاد، لكن طرائق الحكم التي كانوا يسيرون عليها، وعجز الولاة الذين تعاقبوا عن أن يكبحوا جماح جنودهم لقلة ما لديهم من المال، كل ذلك أفاد البرديسى وشيعته إلى حين. وكان حماته الإنكليز قد جلوا عن البلاد في شهر مارس من عام 1803، ولكن محمد على وجنوده الألبانيين كانوا من أكبر أنصاره. وقد استطاع البرديسى والشيخ المعمر إبراهيم بك بفضل هذه المعونة أن يوطدا أقدامهما في القاهرة، فلم يكن لولاة الباب العالى سلطان إلا في بعض أجزاء الوجه البحرى. على أن واحدا من الولاة الذين أرسلوا إلى مصر في آخر ذلك العهد، وهو خورشيد باشا، استطاع أن يقيم في قلعة القاهرة بعض الوقت حتى أخرجه
منها محمد على آخر الأمر بفضل ما كان له من نفوذ أخذ في الازدياد.
ولما انقضت خمس السنين الأولى ذات النتائج السلبية استهل القسم الثاني من أقسام التاريخ المصرى في القرن التاسع عشر، وهو من أعظم العهود خطرا في مصائر البلاد. وكان أهم النتائج السياسية التي أسفر عنها حكم محمد على أنه أقام في مصر أسرة حاكمة. نعم إن الأعمال التي قام بها لخير مصر لم تكن إلا وسائل لتحقيق مطامعه، ولكن هذه الأعمال قد كان لها مع ذلك أعظم الأثر في تاريخ البلاد (1) فقد أطلق محمد على القوى التي شكلت مصير البلاد كما قرر بنفسه مصير أسرتها الحاكمة. وفي وسعنا أن نلخص أعماله في مصر في نقطتين:
أولاهما: تعبئة القوى الوطنية للمصريين أنفسهم.
وثانيتهما: الاستعانة بالمعلمين الأوربيين والأساليب الأوربية.
ونستطيع أن نقول إن مصر من بداية حكم محمد على إلى عهد الاحتلال البريطاني كانت أكثر تعرضا لنفوذ الأتراك منها في جميع العهود السابقة (2) ومهما يكن ما في نظام الحكم الذي أقامه الوالى من التأثر بشخصيته ومن مظاهر استقلاله فإن أساليبه الإدارية وذوقه الشخصى وذوق بطانته كانت كلها متأثرة بتقاليد الدولة العثمانية (وإنا لنذكر على سبيل المثال المسجد المسمى بمسجد المرمر الذي شيده محمد على في قلعة القاهرة على طراز مساجد الآستانة). وكان اتساع أملاك محمد على بين عامي
(1) من أغرب الأمور أن يحكم الكاتب على نيات محمد على كأنما كان مطلعا على ما في نفسه فعرف منها البواعث الخفية التي كانت تدفعه إلى هذه الأعمال التي يقر هو نفسه بأن مصر جنت منها الخير الكثير.
(2)
ذلك في رأينا ما لا يؤيده الدليل. فقد بدأت، الثقافة الغربية تنتشر في مصر على يد الأساتذة الأوربيين الذين استقدمهم محمد على من أوربا وعلى يد الطلاب الذين أوفدهم محمد علي للتعلم في المدارس الأوربية، وعلى يد رجال الأعمال الأوربيين الذين عهد إليهم محمد على بمشروعاته العمرانية الكثيرة. ويخيل إلينا أن الكاتب نفسه في هذه الفقرة يناقض نفسه.
1833 و 1840 إحدى النتائج التاريخية الطبيعية لنمو قوة مصر السياسية، فما من مرة عظمت فيها هذه القوة إلا وضمت مصر إليها بلاد الشام. ولم تكن سياسة محمد على التي كانت ترمى إلى تقوية سلطانه بالتى تهم مصر كثيرا، لكن فتح السودان كان أنفع لها وأفيد لمستقبلها. ثم طرأ على مركز مصر الدولى تغيير ذو شأن في عام 1841، أي في آخر سنى ذلك العهد الذي اختتم بالفرمان الشاهانى الصادر في 2 ربيع الثاني من عام 1257 (23 مايو سنة 1841) فقد كان يبدو في الظاهر أن مصر قد عادت كما كانت من قبل ولاية تابعة لتركيا؛ أما الحقيقة فهي أن تدخل أربع دول أوربية كبرى (ليس منهن فرنسا) في شئونها كان بداية عهد اعتمدت فيه هذه البلاد على دول أوربا بوجه عام وعلى إنكلترة بوجه خاص. وكان احتلال البريطانيين لعدن في شهر فبراير من عام 1838 إيذانا بهذا التحول الجديد. وكان محمد علي طوال عهده يعلم هذا الأمر حق العلم (انظر Modern Egypt: Cromer جـ 1، ص 16) وقد ظل هو نفسه صديقا صدوقا لفرنسا وإن كانت هذه الصداقة لم تجده نفعا. على أنه قد استطاع مدة حكمه أن يحول دون كل تدخل خارجى في شئون مصر الداخلية، ومن أجل هذا كان يعارض على الدوام في حفر قناة في برزخ السويس.
أما السنوات الأخيرة من حكمه وكذلك حكم إبراهيم القصير الأمد فيدخلان هما وحكم عباس وسعيد وإسماعيل (في القسم الأخير من تاريخ مصر في القرن التاسع عشر. وفيه أخذت مصر تنفصل شيئًا فشيئًا عن الدولة العثمانية، وتقترب شيئا فشيئًا من دائرة السياسة الأوربية والاقتصاد الأوربى. وفي هذا العهد لم تتسع رقعة أملاكها إلا في الجنوب (الحرب الحبشية في عام 1872 ، والاستيلاء على سواكن ومصوع من الباب العالى سنة 1865). وكانت علاقتها بتركيا في ذلك العهد ذات صبغة شخصية بحتة توجهها رغبة الخديويين في الحصول على امتيازات لهم من سلاطين آل عثمان نظير زيادة
الجزية السنوية التي يؤدونها لهم؛ وكلما حاولت الحكومة العثمانية أن تفرض سلطانها الفعلى على الشئون المصرية تبين لها أنها كانت مخدوعة في اعتقادها بوجود سلطان لها على الإطلاق (كما حدث في عهد عباس) حتى لقد كان من السهل على إسماعيل أن يتجاهل أمر السلطان بأن لا تعقد مصر القروض إلا برضاه. يضاف إلى هذا أن الجيش المصرى لم يكن قسمًا من الجيش العثماني إلا من الوجهة النظرية (وإن كانت الجنود المصرية قد اشتركت مع الجنود الترك في حرب الروسيا) وكانت ظروف خاصة هي التي أتاحت للسلطان الفرصة لأن يخلع إسماعيل في عام 1879. وكان الولاة في مصر نفسها ذوى سلطان مطلق على النمط الشرقى المألوف، وكانوا كلهم يشجعون دخول الفنون والعلوم والنظم الأوربية في بلاد مصر ما عدا عباس الأول، فقد أظهر هذا الوالى عداءه للحضارة الأوربية بوجه عام، وللحضارة الفرنسية بوجه خاص. وكان من أثر هذا الاتجاه العام أن اصطبغت مصر في زمن قصير بالصبغة الأوربية أكثر من أي بلد إسلامي آخر. وكلنا يعلم حق العلم أن هذه الأعمال لم تزد في رخاء البلاد، بل أوقعتها في مهواة الخراب المالى. ولم يكن منشأ هذا الخراب ما أثر عن إسماعيل من تبذير بالغ الناس كثيرًا في وصفه، بل في الطريقة التي أخرجت بها إصلاحاته إلى حيز الوجود. فقد قامت هذه الطريقة على الأساليب الإدارية الشرقية التي يسودها الإهمال وعدم العناية، وضاعف من عواقبها الوخيمة ما كان يظهره الأوربيون من استعداد لتقديم المال اللازم لهذه الإصلاحات. يضاف إلى هذا أن كثيرين من السماسرة الأوربيين لم يكونوا أكثر من رجال أفاقين مغامرين لا ذمة لهم ولا ضمير، همهم الوحيد أن يحصلوا على تعويض عما يزعمونه من نقض الحكومة المصرية لما أبرمته معهم من عقود. فأدت هذه الصعاب وأمثالها إلى بقاء كثير من الأعمال العامة ناقصًا. وكانت النتيجة الأولى لهذه السياسة أن تورطت البلاد في دين سائر مطرد الزيادة (وقد أوضح فون كريمر Von Kremer في الجزء الثاني من كتابه
ص 28 بداية هذا التطور المشئوم أحسن إيضاح). بيد أن أهم الصعاب التي تمخضت عنها هذه السياسة قد نشأت من القروض المختلفة التي عقدها في أوربا سعيد وإسماعيل (في أعوام 1862 ، 1864 ، 1866 ، 1868 ، 1872) وزادت هذه القروض زيادة أطاحت بإسماعيل عن عرشه. وكانت الكثرة الغالبة من حملة أسهم الدين المصرى من الفرنسيين وقلتهم من البريطانيين. ومن أجل هذا تولت إنكلترة وفرنسا، اللتان كانتا من قديم شديدتى التنافس على النفوذ في مصر، زعامة التدخل الأجنبى في تلك البلاد. واشترك ممثلو هذين البلدين في "المراقبة الثنائية" التي فرضت على إيرادات مصر ومصروفاتها من عام 1876 ، ولم ترفع عنها إلا في الفترة التي كان فيها في الوزارة المصرية وزيران أحدهما إنكليزى والآخر فرنسى (وهي الفترة الواقعة بين 28 أغسطس سنة 1878، و 5 أبريل سنة 1879) وما من شك في أن مصالح فرنسا المالية كانت ترجح مصالح إنكلترة، ولكن إنكلترة نفسها كانت قد أصبحت في ذلك الوقت أعظم من فرنسا نفوذا بفضل تجارتها الواسعة ومركزها السياسى الممتاز. وزاد مركزها هذا قوة على قوته احتلالُها جزيرتى بريم في عام 1857 وقبرص في عام 1878. ومع هذا كله فقد ظلت علاقة مصر الرسمية مع البلاد الأخرى من ذلك العهد إلى عهد الاحتلال البريطاني علاقة الدولة المستقلة أو القريبة منها، ولا تقيد هذا الاستقلال إلا الإمتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة بعد إنشائها في عام 1876 (انظر القسم الثاني من المقال). وكان في وسع الخديو من عام 1873 أن يعقد المعاهدات مع الدول الأجنبية (ماعدا المعاهدات السياسية المحضة) ولما احتفل إسماعيل بافتتاح قناة السويس كان ملوك أوربا الذين جاءوا ليشهدوا هذا الاحتفال يعاملونه معاملة الند للند. بيد أن نفوذ قناصل فرنسا وإنكلترة في مصر أخذ يزداد زيادة مطردة تبعا لزيادة الموظفين الأوربيين في الإدارة المصرية.
وكانت أحوال مصر عند بداية القسم الثالث من تاريخها في القرن التاسع
عشر قد أصبحت أحسن مما كانت عليه من قبل وبخاصة بعد أن ألغيت الإحتكارات الحكومية. ولكن الفلاحين لم يستفيدوا إلا قليلا من هذه الظروف الإقتصادية الملائمة. وبخاصة بعد عام 1876 ، وهي السنة التي بدأ فيها فرض الضرائب الباهظة القاتلة التي لم تجد الحكومة مندوحة عنها لأداء ما عليها من الالتزامات؛ فحل بالفلاحين من ذلك الوقت عهد من البؤس لم ينقض إلا حوالي عام 1890. وكانت هذه الظروف السيئة سببًا من أسباب الحركة الوطنية الأولى. وقد قامت هذه الحركة في أول الأمر بين الطبقة الوسطى من أهل البلاد الأصليين، وهي الطبقة التي نشأت في عهد محمد على وتأثرت بالنفوذ الأوربى والشرقى معا (جمال الدين الأفغانى) فأصبحت عاملا خطيرًا من عوامل الحياة الإجتماعية في مصر وإن ظلت الدوائر الدينية المستمسكة بعقائدها بمنأى عنها في أول نشأتها، لأن ما كان يعتنقه القائمون بها من أفكار جديدة وما كان لهم من صلة بالماسونية لم يكن مما يرتضيه رجال الدين. وأخذ الوطنيون ينقدون سياسة إسماعيل المالية وتحيزه الظاهر إلى العناصر الأوربية في البلاد، ومحاباته لطبقة الأتراك الجراكسة وتفضيلها على أهل البلاد. وكانت المعاملة التي يلقاها المصريون في الجيش بنوع خاص قد أثارت غضبهم (فقد كان الجنود الذين أرسلوا إلى السودان والحبشة سنة 1875 كلهم من أبناء الفلاحين) وبدأ الرأى العام يظهر بجلاء في عام 1877. ففي هذا العام أصدر الوطنيون صحفًا مصرية (منها جريدة مصر والوطن) وارتفعت لأول مرة صيحة مصر للمصريين. ولم يفد ما اتخذ وقتئذ من إجراءات شديدة لمنع الجرائد الوطنية من أن توجه قوارص النقد إلى أعمال الحكومة، وبخاصة إلى اشتراك الجنود المصريين في الحرب التركية الروسية. وكانت أولى النتائج الموضحة لأعمال الوطنيين المصريين هي الانقلاب السياسى المفاجيء الذي وقع في أبريل سنة 1879 وأدى إلى سقوط وزارة نوبار باشا المشتملة على وزيرين أوربيين (ولعل الوطنيين أنفسهم قد ساعدوا على خلع إسماعيل، انظر كتاب محمد صبرى La Genese etc ص 160)
وثمة نتيجة أشد خطرًا من هذه، وهي الحركة التي سرت في الجيش ضد الضباط الأتراك الجراكسة وتطورت إلى ثورة علنية انتهت باحتلال الإنكليز للبلاد.
ويبدأ العهد الرابع من تاريخ مصر الحديث بهذه الحركة الحربية المعروفة بالثورة العرابية. وذلك أن الخديو الجديد توفيق باشا قد حاول هو ووزراؤه في السنتين السابقتين لهذه الثورة أن يسيروا في حكم البلاد على نهج وطنى متفاوت الدرجات. فلما أن تقدم عرابى بمطالبه، وأصر على إصلاح الجيش، ودعوة البرلمان إلى الاجتماع، وسن نظام دستورى لحكم البلاد، أخذ الخديو ووزراؤه يتطلعون إلى التدخل الأجنبى، ويعدونه الوسيلة الوحيدة للنجاة من هذا المأزق. وكان عدم وجود سلطة قوية بحق قادرة على تسيير دفة الأمور (لأن العرابيين كانوا ضعافًا من هذه الناحية لقلة خبرتهم وعدم كفايتهم) مما مكن إنكلترة من التدخل في شئون مصر. وكان أهم الأسباب التي بعثت فيها الرغبة في أن توطد أقدامها في القطر المصرى، موقع هذا القطر الجغرافي في طريقها إلى الهند. وقويت هذه الرغبة لديها بعد استيلاء فرنسا على بلاد الجزائر وتونس وبعد شق قناة السويس، وذلك أنه كان من صالح إنجلترا أن تبقى هذه القناة بعيدة عن نفوذ أية دولة أجنبية قوية، وأعانها على الوصول إلى غرضها تطور الأمور في مصر نفسها، إذ أتاح لها الحجة التي تذرعت بها لتدخلها المسلح بعد أن أحجمت فرنسا في آخر لحظة عن تحمل تبعة هذا التدخل، لأن مصالحها لم تتأثر بالحركة الوطنية تأثر المصالح الإنكليزية. ويدل تاريخ مصر بعد عام 1882 على الخطة التي اختطتها إنكلترة لتحمل هذه التبعة.
وبقى مركز مصر الدولى من الوجهة النظرية بعد الاحتلال البريطانى كما كان قبله لم يطرأ عليه تغيير. أما من الوجهة العملية فقد أصبحت من ذلك الوقت خاضعة لسلطان دولتين، ولوصاية مالية، ولسلطة قضائية ثلاثية، ولاحتلال عسكرى أجنبى، كما أصبحت مسرحًا تصطدم فيه مدنيتان
مختلفتان. وكانت أولى الصعاب التي اضطرت السياسة البريطانية لمواجهتها هي التي يسميها لورد كرومر "الارتباكات الدولية" وهو يقصد بهذا الاسم تدخل الدول الأجنبية الأخرى وبخاصة فرنسا في شئون مصر الإدارية معتمدة على ما كان بينها وبين هذه البلاد من اتفاقات سابقة لعهد الاحتلال. ولم تطلق يد إنكلترة في مصر أو تكاد إلا في سنة 1904 حين عقد الاتفاق الودى بين إنكلترة وفرنسا. وكان الرجل الذي تم على يديه تثبيت مركز الإنكليز في وادي النيل هو لورد كرومر قنصل بريطانيا العام في مصر من 1883 إلى 1907 ، وهو الذي أصبح رغم منصبه الرسمى المتواضع نسبيا أقوى رجل في البلاد. وكانت السياسة التي سار عليها هي أن "يحكم حكامَ مصر" وكان أكبر معاونيه هم المستشارين الإنكليز في النظارات المختلفة. وما من شك في أن مصر قد أفادت كثيرا من اتفاق مصالحها ومصالح إنكلترة إلى مدى بعيد في تلك السنين. من ذلك أن إنكلترة أفلحت بالقرض الذي عقدته بضمانة الدول الكبرى وبما اتخذته في مصر نفسها من إجراءات حاسمة في أن تضع مالية البلاد على أساس صالح متين حتى أمكنها في عام 1904 أن تحد كثيرًا من اختصاصات "صندوق الدين" وتعيد إلى مصر حريتها في الأمور المالية. نعم إن الدين العام لم يكن في سنة 1914 أقل كثيرًا منه في عام 1882، ولكن رخاء البلاد الاقتصادى زاد كثيرًا عن ذي قبل. (انظر القسم رقم 3 من هذا المقال) أما تركيا فقد أخذ نفوذها في الشئون المصرية يضعف على مر الأيام. ولم يكن لتعيين الغازى مختار باشا مندوبا ساميا تركيا في مصر أثر سياسى على الإطلاق، وإن كانت الدعاية غير الرسمية التي قام بها الباشا لحركة الجامعة الإسلامية ظلت في أثناء وجوده قوية. ولما حاول السلطان في عام 1892، وفي عام 1906 أن يؤيد حقوقه في جزيرة سيناء أخفق في ذلك إخفاقا كاملا. ولما شبت الحرب بين إيطاليا وتركيا لم تسمح إنكلترة لمصر أن ترسل جنودًا منها إلى طرابلس، أما تركيا نفسها فلم
يكن يسعها أن تعطف على الوطنيين المصريين، بل إن حزب تركيا الفتاة (وكان كثير من أعضائه قد لجئوا إلى مصر في عهد السلطان عبد الحميد) كان بعد عام 1908 أقل عطفًا عليهم من عبد الحميد نفسه. لكن معارضة فرنسا للاحتلال البريطانى كان لها من الأثر أكثر مما كان لمعارضة الأتراك، وذلك لما كانت تتمتع به من عطف قوى في البلاد، وانتعش نفوذ فرنسا الثقافي بعد تولية عباس حلمى الثاني، حتى رأي الإنكليز أحيانا أن يتخذوا من الإجراءات ما يحد من هذا النفوذ (ومنها إسقاط وزارة نوبار باشا سنة 1894) وكانت فرنسا هي الدولة التي ظل الوطنيون المصريون يرجون منها العون حتى عام 1904. أما الخديو فلم يكن مركزه ذا شأن سياسى كبير. ولم يوفق عباس حلمى في مواقفه الوطنية في بداية حكمه أكثر مما وفق في أواخره حين أخذ يتقرب من الآستانة ويحسن علاقته بها.
أما السودان الذي يؤثر امتلاكه في رخاء مصر وفي مركزها الدولي أعظم تأثير فقد كان هو أيضا من الوجهة النظرية ولاية عثمانية لا يختلف عن مصر من هذه الناحية. فقد خول فرمان سنة 1841 لمحمد على أن يحكم ذلك القطر "دون أن يكون له حق توريثه" أبناءه من بعده. وفي عهد إسماعيل كان حاكمان من الإنكليز (بيكر وغردون) يحكمان السودان باسم مصر، فلما ثار محمد أحمد المهدى واستولى على الخرطوم (في 26 يناير سنة 1885) وزالت السيادة المصرية عن السودان إلى حين أصبحت السياسة البريطانية وحدها في تلك الفترة هي المتصرفة في شئون السودان، كما كانت أيضًا المهيمنة على استرجاعه. ذلك أن الخديو كان هو القائد الأعلى للجيش اسميًا، ولكن الرتب الرئيسية كلها أصبحت، بعد تنظيم هذا الجيش من جديد في عام 1883 ، يشغلها ضباط إنكليز، ولما استرجع السودان في عام 1898 لم تسمح السياسة الإنكليزية أن يعود ذلك القطر إلى مصر، ووضعت له معاهدة 1899 نظامًا من الحكم الثنائى تشترك فيه مصر وإنكلترة، وأغفلت فيه حقوق الباب العالى. وتصرف الخديو حين
عقدها تصرف الحاكم المستقل، وإن كان من الوجهة الرسمية تابعًا للسلطان. أما إنكلترة فإن توطد أقدامها في السودان قد قوى سلطانها على وادي النيل.
وقضت هزيمة عرابى على الحركة الوطنية إلى حين، فلم تكن حتى آخر أيام لورد كرومر عاملًا سياسيًا عظيم الخطر في مصر، ونشأ في خلال تلك الأيام جيل جديد من المصريين وجد في الشاب مصطفى كامل باشا زعيمًا له، (مات مصطفي كامل في 10 فبراير سنة 1908 في الرابعة والثلاثين من عمره) فأصدر في سنة 1899 صحيفة اللواء، وأصبح عام 1907 أول رئيس للحزب الوطنى. وكان هذا الجيل الجديد من الوطنيين متأثرًا كالجيل السابق بنفوذ فرنسا الثقافي. ولكنه كان أكثر منه عدة. ولما بدءوا حملتهم الجديدة وأخذوا ينادون بأن تكون "مصر للمصريين" أظهروا الشئ الكثير من الاعتدال، وابتعدوا عن الأفكار الثورية. ولما حل سير ألدن غورست محل لورد كرومر (1907 - 1911) أصبح موقف بريطانيا من الحركة الوطنية مشكلة من مشكلاتها السياسية. وأظهرت حادثة دنشواى التي وقعت في عام 1906 أن شعور الكراهية لإنكلترة لا يزال عظيم الانتشار بين المصريين. ومع أن المذنبين قد عوقبوا أقسى عقاب فإن العميد الجديد اختط لنفسه خطة سياسية قائمة على استرضاء الشعور الوطنى. غير أن هذه السياسة الجديدة لم تؤد إلى النتيجة المرغوبة، فقيدت حرية الصحافة من جديد في عام 1909، وأغلق الجامع الأزهر فترة من الزمن بسبب المظاهرات التي قام بها طلابه ضد الإنكليز. وحدث في 20 فبراير من عام 1910 أن اغتيل ناظر النظار القبطى بطرس باشا غالى (وكان سعد باشا زغلول وقتئذ أحد هؤلاء النظار) بيد شاب وطنى مسلم، فأثارت هذه الحادثة الشقاق بين عنصرى الحزب الوطنى المسلمين والأقباط، وكاد هذا الشقاق يؤدى إلى اضطرابات خطيرة. وفي ذلك العام نفسه رفضت الجمعية العمومية أن تمد أجل امتياز قناة السويس بعد عام 1968. وكان من أثر هذا أن نهجت السياسة
الإنكليزية، بعد اعتزال السير ألدن غورست، ومجئ لورد كتشنر في عام 1911 ، نهجا في الحكم قويًا دام حتى أعلنت الحماية الإنكليزية على مصر في 18 ديسمبر سنة 1914. وفي اليوم التالى أعلن الإنكليز خلع عباس حلمى وتولية عمه حسين كامل مكانه، وتلقيبه بسلطان مصر. وأصدر شيخ الإسلام في الآستانة وقتئذ فتوى دينية يعلن فيها أن الحاكم الجديد خائن لقضية الإسلام وأنه يستحق القتل وتجب محاربته (انظر نص الفتوى في كتاب، Hilfsbuch Pür Vorlesungen über: Jacob das Osmanische Turkische جـ 2، طبعة برلين 1916 ، ص 46).
ولم تكن مصر في أثناء الحرب الأوربية الماضية [الأولى] إلا حلقة في سلسلة الخطط الحربية الفنية للإمبراطورية البريطانية. وأصبحت من 6 نوفمبر سنة 1914 في حالة حرب مع تركيا، ولكن إنكلتره هي التي تولت الدفاع عن الأراضى المصرية. وأجلت جلسات الجمعية التشريعية، وأعلنت في البلاد الأحكام العرفية وكانت نتيجة هذه الحرب بالنسبة لمصر انفصام الرابطة السياسية بينها وبين تركيا انفصامًا نهائيًا بمقتضى معاهدة لوزان (25 مايو سنة 1923) التي لم تشترك مصر في توقيعها. لكن هذه الحرب كان لها في مصر أثر أعظم من الأثر السابق، ألا وهو انتعاش الحركة الوطنية من جديد. فقد تجمعت في البلاد أسباب عدة أدت إلى إثارة المعارضة للحماية البريطانية، منها المطالب الباهظة التي فرضت على المصريين في أثناء الحرب، ومنها ازدياد عدد الموظفين البريطانيين، ومنها أن مبادئ الرئيس ولسن شجعت المصريين على المطالبة باستقلالهم السياسى، وكان الوطنيون في هذه المرة تؤيدهم طائفة من الأهالى أكبر عددًا ممن كانوا يؤيدونهم من قبل، فقد عاد الأقباط مرة أخرى إلى صفوف الوطنيين، بل إن الدوائر الأزهرية نفسها أخذت تشجع الدعاية الوطنية، وتزعّم هذه الحركة سعد زغلول باشا، وكان قبل الحرب ناظرًا للحقانية ومعروفًا باعتدال آرائه السياسية. غير أن ما لاقته المطالب الوطنية في لندن من عدم الاكتراث حمل المصريين على أن