الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أي مغزى سامٍ في وضع الشيخ الخضر على رأس الأزهر الشريف
؟ (1)
العلامة محمد الفاضل بن عاشور
ما انفكت مدينة الفسطاط منذ أنشئت، ثم مدينة القاهرة منذ خلفتها، ترتبط مع القطر التونسي بأعمق المعاني، وأوثق الصلات.
فقد كان فسطاط عمرو مركز القيادة العامة لفتح إفريقية، ثم كان العمال والقواد المتعاقبون عليه أول المسؤولين عن إسلام المغرب وتعريبه.
وكانت الجيوش المرابطة بمصر، والزاحفة عليها، هي جيوش الغزو، وإمداد الفتح للبلاد التونسية. فعبد الله بن أبي سرح، ومعاوية بن حديج، وحسان ابن النعمان، وعقبة بن نافع، وموسى بن نصير، لم تعقد ألويتهم، وترسم خططهم، وتنظم حركاتهم إلا بمصر.
والصحابة الكرام الذين شرفوا هذه التربة التونسية، قد كان في مصر سابق كفاحهم، وعلى أرضها ماضي عبادتهم، وفي جامع الفسطاط قديم حديثهم، والفقهاء العشرة من التابعين فقهوا مصر وأرشدوها وعلموها، قبل أن يفقهوا
(1) صحيفة"الأسبوع"- العدد 334 الصادر في 18 ماي مايس 1953 م تونس.
ملاحظة: يبدو أن لهذ البحث تتمة لم أعثر عليها في الأعداد اللاحقة من الصحيفة، ونشرناه؛ لما فيه من فائدة علمية جليلة.
أو يرشدوا ويعلموا بأفريقية، لذلك بقيت الأرض التونسية مرتبطة ارتباطاً روحياً بالأرض المصرية، بلغ أوجَهُ في ختام القرن الثاني بتخريج سحنون عن ابن القاسم، وإمداد مصر للقيروان بمدونة فقه مالك.
من يومئذٍ لم يقم حكم، أو يجرِ عمل، أو ينتشر مذهب بأحد القطرين، إلا وهو يترامى إلى القطر الآخر تراميَ الشيء إلى صلته الضرورية، ومدى انتشاره الطبيعي، وذلك هو الذي يعلل الصدام الذي نشأ في القرن الثالث بين دولتي بني الأغلب، وبني طولون، فقد كانت كل واحدة منهما ترى أن حدود حكمها منقوصة الأطراف، ما دام أحد القطرين غير منضم إليها.
ونشأت في "المهدية" دولة العبيدين، فامتلكها -وهي في مهدها- شعور بأن لا دولة لها راسخة الدعائم، ولا دعوة فاطمية ثابتة سائرة، إلا بجميع القطرين المصري والتونسي تحت عرش المهدي، فتولدت عن هذا الشعور مدينة القاهرة، تونسية العمران، مغربية الوجهة، بربرية العصبية، وتأثرت بمحاكاة "المهدية" في شكلها وخططها، فكان لها كما للمهدية باب النصر، وباب الفتوح، وباب زويلة، والسقيفة، وحارة كتامة.
وانشق الجامع الأزهر على قواعد مذهب تأصلت عقائده في "المهدية"، وتفرع فقهه فيها، واستندت الروح الأزهرية في رواجها الشعبي على خطابة ونثر وشعر، كانت كلها تونسية العوامل، مهدوية الطبائع.
وتأثرت عمارة الأزهر في أشكالها الهندسية وفنونها الزخرفية بمحاكاة أقواس وعمد أشرقت عليها شمس المهدية، وأزهار وأقمار ترطبت بأنفاس نسيمها البليل، فاستوثقت بذلك كله وحدة القطرين، واتسقت الروابط بينهما، حتى إنه لما تحرك أحدهما حركة الانفصال عن الآخر بقيادة المعز بن باديس
الصنهاجي، كان لتلك الحركة من الرجّة والاضطراب والزعزعة ما يكون لمحاولة الفكاك بين جسمين منساقة جاذبيتهما إلى الائتلاف.
وفاضت عن أرض مصر الزحفة الهلالية السلمية تجدد اللحام المنفك بتجديد المدد البدوي الذي هو جرثومة التكون الاجتماعي، فتكوّن المغرب العربي بذلك تكوناً جديداً، وانتعشت فيه روح العروبة بعد الذبول.
وكان ما عانته البلاد التونسية من جراء ذلك حقبة من الدهر، هو ما تعانيه الأجسام الحية من أزمات العناصر الملقحة التي تدخل عليها لتجددها.
ثم جاء الدور الصليبي، فانتظم القطران صفاً في مكابدة المحنة، ومجابهة الهجمة، وكان تشابه الظروف التي جرى فيها الطغيان واتحاد أشخاص الطاغين مظهراً جليلاً لوحدة ما بين القطرين سياسياً، في الوقت الذي كانت فيه هذه الوحدة تزيد تأَكداً من الجهة الروحانية بنزول الشيخ أبي الحسن الشاذلي بالإسكندرية، واتخاذها مهداً لطريقته التي عمت منها العالم الإسلامي، وتنفست في شاطئها عن مثل الأدب الصوفي الذي بلغ شأوه الأبعد في حِكَم ابن عطاء الله، وشعر ابن الفارض، والبوصيري، وتتوثق الوحدة من الجهة العلمية بمثل صلات محمد بن جابر الواد آشي بالبدر بن جماعة، ورواية شيخ الإسلام ابن حجر عن شيخ الإسلام ابن عرفة، وتخرج السخاوي والمقريزي عن ابن خلدون، وما انضم بُعد من سلاسل لا تحصى في الأخذ والتخرج والرواية والأجدة والتدبيج، حتى صارت تونس من إمداد الأزهر، وهو من مواردها، وسهل انضواء القطرين معاً تحت العلم العثماني لحماية الإسلام في البحر المتوسط صلاتُ الثغور التونسية بثغر الإسكندرية، وعلاقة رجال جامع الزيتونة بالجامع الأزهر وشيوخه على ما بدت في ارتباط اسم أحمد
الشريف باسم البشراوي، والغرياني بالحفني، والبليدي، واسم زيتونة باسم الزرقاني، واسم مرتضى باسم الغرياني، واسم البناني بالصعيدي والصبان، واسم ابن سعيد باسم العطار، والرياحي بالأمير.
حديث من عالم الخلد (1) الأستاذ الأكبر الشيخ الخضر حسين يتحدث إلى صوت الشرق
الشيخ الخضر حسين هو محمد الخضر بن الحسين بن علي بن عمر، وهو جزائري الأصل، ولكنه ولد في تونس؛ لأن والده انتقل إليها مهاجراً بسبب دخول فرنسا جهة "بسكرة" بعد حرب دامت سنوات مع أهل الجزائر. وقد ولد سنة (1293 هـ - 1873 م) في بلدة "نفطة" في إقليم "الجريد" بتونس، وحفظ القرآن في البيت وهو صغير، ثم دخل جامع الزيتونة الذي يشبه الأزهر. ونال شهادة مشابهة للشهادة العالمية الأزهرية، وبعد تخرجه أصدر مجلة "السعادة العظمى" التي كانت أول مجلة أدبية علمية أنشئت في المغرب العربي.
ثم تولى القضاء في مدينة "بنزرت"، ولم يطل عهده في القضاء؛ لأنه حال بينه وبين الدراسة العلمية الواسعة، ثم اشتغل بالتدريس في جامع الزيتونة، وفي المدرسة الصادقية، وبقي في التدريس خمس سنوات، واشتغل أثناء ذلك
(1) جريدة "الاستقلال" صدرت في تونس بداية من 30 سبتمبر أيلول 1955 م أسبوعياً، ورأس تحريرها الأستاذ محمد المنصف المنستيري، وهو من رجال الصحافة والكفاح الوطني. من مواليد تونس العاصمة 6 أوت آب 1901 م، وتوفي في 29 جانفي كانون الأول 1971 .. وهذا المقال نشرته جريدة "الاستقلال" نقلاً عن صحيفة "صوت الشرق".
بقضية بلاده، وبالقضايا الإسلامية والعربية؛ مما عرضه للأخطار والأهوال؛ إذ غضب عليه المحتلون، وضيقوا عليه الخناق، ثم أصدروا عليه حكماً بالإعدام، ولكنهم لم يستطيعوا تنفيذه؛ لأنه هاجر بنفسه في سبيل مبادئه وعقائده. فرحل إلى الشام، وإلى الحجاز، وإلى تركيا، وإلى ألمانيا. وفي أثناء الثورة العربية خلال الحرب العالمية الأولى اعتقله جمال باشا التركي الملقب بالسفاح. ويقي في الاعتقال فترة طويلة، ثم أفرج عنه، وكان في هذه المحنة رفيقاً للرئيس شكري القوتلي، وكان شكري إذا لقي الشيخ في مصر خلال السنوات الأخيرة يداعبه قائلاً:"أهلاً بزميلنا في أيام الشدة والبؤس" ..
ثم رحل الشيخ إلى مصر سنة 1919 م، ونال الشهادة العالمية من الأزهر، وبذلك تحققت آمال والدته فيه؛ لأنها كانت تحمله وهو صغير، وتغني له بغناء شعبي تقول له:
يا ربي الأكبر
…
تخلّي لي محمد الأخضر
يقرأ في الجامع الأزهر
…
ويشتهر في المالكية
وعين الشيخ مدرساً في الأزهر، ثم أستاذاً في كلية أصول الدين، واشترك في إنشاء "جمعية الشبان المسلمين"، وأسهم في وجوه كثيرة من النشاط العلمي والأدبي والديني. فكان محرراً لمجلة "نور الإسلام"، ورئيساً لجمعية "الهداية الإسلامية"، وعضواً في "المجمع اللغوي"، وعضواً في جماعة كبار العلماء، ومحرراً لمجلة "لواء الإسلام"، ثم اختير شيخاً للأزهر في عهد الثورة، وظل فترة في هذا المنصب الخطير، ثم استقال، واعتكف في بيته يبحث ويكتب، حتى وافاه الأجل المحتوم في الثاني من فبراير سنة 1958 م.
من كان يظن أن هذا الحديث الذي دار بيني وبين الشيخ رحمه الله-
سيطالعه مطالعوه في عالم الخلد ودنيا البقاء؟ .. {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34].
في شارع (صفية زغلول) خلف بناء وزارة التربية والتعليم بالقاهرة، وفي جناح ضيق من بيت هادئ من بيوت هذا الشارع القصير، سعيت إلى الشيخ لألقاه، وأتحدث إليه، وأستمع منه، وما كنت أدري أن ركاب الموت ينتظره بعد قليل، وما كنت أتوقع أن يكون هذا اللقاءآخر لقاء لي مع ذلك الشيخ الوقور الهادئ ..
دخلت عليه وهو في حجرة مكتبه، وحوله أضابير أوراق، ومجموعة كتب، والصمت يعقد رباطه على المكان، فليس ثمة حركات ولا صوت، فالشيخ قد تزوج مرتين، ولكنه لم يرزق بأولاد .. وشاهدت على وجهه دلائل المرض، ومظاهر الشيخوخة المرهقة، فأردت أن أخرج به من عزلته ووعكته، فسألته: إنك مع علمك وفقهك واشتغالك بالقضايا الإسلامية تقول الشعر، فما هي الدوافع التي دفعتك إلى الشعر؟ ..
فأجاب: حينما تراجع ديواني "خواطر الحياة" يسهل عليك أن تتعرف إلى المحرضات التي حرضتني على النظم .. فقد نشأت في إقليم "الجريد" بتونس، وكان للشعر في هذا الإقليم مكانة ومنزلة، وكان الكثيرون من أقاربي يقولون الشعر، وكنت ألمس ما يلاقونه من تكريم وحفاوة عن طريق قولهم الشعر، فتعلقت بأسبابهم من أول النشأة، وحاولت النظم وأنا في الثانية عشرة من عمري، ولما التحقت بجامع الزيتونة، رأيت المنافسة على أشدها بين الطلاب والأساتذة في قرض الشعر.
ولكني أصارحك بأن حبي للعلم تغلب على ميلي للشعر، ولعل السبب
في ذلك هو أنني لم أرض عن شعري الذي أقوله، وأتذكر أنني قلت عن الشعر:"أجوده ليس في متناول قريحتي، وغير الأجود تتسامى عنه همتي" .. مع انصرافي إلى العلم والقضايا العامة، لم تنقطع صلتي بالشعر، بل ظللت أقر له بين الفينة والفينة في النواحي الإصلاحية والأخلاقية والاجتماعية والوطنية والدينية ..
فقلت للشيخ: هل يستفاد من ذلك أنه لا يمكن الجمع بين التوسع في العلم والعناية بالشعر؟ أو أن هناك تباعداً بين ميدان الشاعر وميدان العلم؟ وهل هناك غضاضة في أن يقول العالم الكبير شعراً؟ ..
فأجاب: ما إلى هذا قصدت، ولكنني أصور ما حدث بالنسبة إليّ، وفي الوقت نفسه أقول: إن هناك كثيرين انصرفوا إلى الشعر وحده، وكثيرين انصرفوا إلى العلم وحده، وبجوار هؤلاء وهؤلاء طائفة معدودة استطاعت أن تجمع بين العلم والشعر، فزادها ذلك الجمع مكانة ورفعة، منهم: القاضي عبد الوهاب المالكي البغدادي، ومنذر بن سعيد البلوطي الأندلسي القاضي، ويحيى بن يحيى الليثي الفقيه. ومنهم: أبو الوليد الباجي الفيلسوف، ومنهم: القاضي أحمد بن محمد الأرجاني، فهؤلاء كانت مكانتهم في العلم والدين والفتيا سامقة عالية، وكانوا يقولون الشعر، ولا يرون به بأساً ..
فسألته متبسطاً في الحديث: ألم تقولوا شعراً عاطفياً؟ ..
فقدم إلي نسخة من الطبعة الأخيرة لديوانه، وقال وهو يبتسم في وقاره المألوف، بعد أن وقع لي بإهدائه على النسخة: تصفح هذا الديوان، ففيه كل ما بقي بين يدي من الشعر ..
وقلبت الصفحات فإذا هي الأبيات:
ها هنا مرتعهم، خذ بيدي
…
ودع الأينق في الروض طليقه
طال بي البين إلى أن أطفأت
…
نظرة من ساكني البان حريقهْ
يا بدوراً حسنها ابتز النهي
…
وهواها مدّ في القلب عروقه
عادت الأيام من هجرانكم
…
لي خصماً بعد أن كانت صديقهْ
من دجى يقضيه جفني أرقاً
…
وضحى يلبسه الليل غسوقه
وكفي جسمي نحولاً أن تخا
…
لوه كالطيف خيالاً لا حقيقةْ
لم أضع للودحقاً، إنما
…
حان أن يرعى الأخلاّء حقوقهْ
* غربة الفضلاء:
وسألت الشيخ الأكبر: لقد طال تنقلكم شرقاً وغرباً، ولم يستقر بكم المطاف فترة طويلة من حياتكم، فهل كنتم تحسون أثناء ذلك باضطراب أو قلق أو وحشة؟ ..
وأجاب في هدوئه المألوف: إن الذي يؤمن بعقيدة أو مبدأ، لا يحس بغربة مهما تنقل وارتحل، ما دام وفياً لعقيدته، متمكناً من مبدئه، ولقد طال تطوافي في جهات عديدة من أفريقيا وآسيا وأوروبا، ومرت بي فترات كنت أصبح فيها في مكان، وأمسي في مكان غيره، ومرت بي لحظات فيها سجن وقسوة، وعنف واتهام وتهديد، وحرمان ومطاردة، ومع ذلك كله كان للمرء أنيس، أي أنيس من ربه وإيمانه، ولقد كنت سجيناً في الشام، ومع ذلك كنت أرى في النوم أحلاماً أرضى بها وأستبشر، وبعض هذه الأحلام تحقق مفهومها، أو ما يقرب منه.
وليس معنى هذا أنني كنت حريصاً على حياة التنقل والاضطراب من
مكان إلى مكان، بل كنت أطمح إلى أن أستقر يوماً من الأيام في دار لا يحتمل الإنسان فيها مذلة أو هواناً، وقد وجدت طلبتي في مصر، فجعلتها داري ومستقري منذ قرابة أربعين عاماً.
ولقد صورت ضجري من كثرة أسفاري، واتصال ارتحالي في أبيات ثلاثة نظمتها سنة 1338 هـ وفيها أقول:
أنا كأس الكريم والأرض نادٍ
…
والمطايا تطوف بي كالسقاة
كم كؤوس هوت إلى الأرض صرعى
…
بين كفٍّ تديرها واللهاة
فاسمحي يا حياة بي لبخيلٍ
…
جفن ساقيه طافح بسبات
* رسالة المجمع اللغوي:
وانتقلت بالشيخ من ميدان هذه الذكريات إلى ميدان اللغة والمجمع اللغوي، فقلت:
- إنك عضو في المجمع منذ عهد بعيد، فهل نستطيع أن نقول: إن المجمع أدى رسالته؟
وأجاب الشيخ:
أقولها لك صريحة واضحة، لا مواربة فيها ولا مجاملة: إن المجمع اللغوي لم يؤد رسالته، وليس هو من الإهمال لهذه الرسالة والتفريط فيها بالصورة التي يصوره بها بعض الناس في نكتهم ودعابتهم، ولكنه في الوقت نفسه لم يقم بواجبه، وقد يرجع السَّبب في ذلك إلى اختلاف الآراء المتضاربة، وكثرة الاتجاهات المتعاندة، وتحكم الشخصيات أحياناً، مع تشتت في الأذواق والمشارب، مع قلة في المال المخصص له، ولو أن ميزانية المجمع
اتسعت، لاتسع نشاطه وإنتاجه، والواقع الذي لا ريب فيه أن المجمع يحتاج إلى إصلاح شامل، وتغيير جوهري في خطته وطريقته.
هذه مجلته -مثلاً- تنقطع وتتباعد مواعيد ظهورها، وهؤلاء أغلب الأعضاء يكادون يقتصرون على العناية بالمصطلحات العلمية وحدها، مع وجود كثير غيرها من الأعمال والواجبات. وهذا معجم القرآن لم يخرج للناس، على الرغم من كثيرة الوعود، وطول العهود، وتكرار التبشير بأنه سيسعى إلى عالم الحياة، وهذا المعجم الكبير الذي تطلعوا إليه منذ أمد طويل لم يحيى النور بعد، ولا ندري متى يتم أو يظهر، ولعل الأحفاد يشهدون ميلاد هذا المعجم ..
هنا سألت الشيخ: هل تذكرون بعض البحوث أو الأعمال اللغوية التي نهضتم م في المجتمع اللغوي؟
فأجاب: لقد اشتركت في أعمال كثيرة من نشاط المجمع، وقدمت بحوثاً عدة أذكر منها: بحثي عن "القياس في اللغة العربية" الذي شرحت فيه حقيقة القياس، وفصلت شروطه، ودللت على مواقعه وأحكامه، والقياس باب واسع المجال مترامي الأطراف، له صلة بكل باب من أبواب العربية، ويكاد ذكره يجري عند تحقيق كل مسألة لغوية، ولا أطيل الحديث عن هذا البحث، فقد نشرته في كتاب منذ أكثر من عشرين عاماً، وكذلك أذكر بحثي في الرد على الرأي الذي ارتآه بعض أعضاء المجمع- وهو الدكتور طه حسين- الذي ذهب إلى أن (الضمير) قد يستعمل كاسم الإشارة، فنقضت هذا الرأي.
* الأدب في تونس:
سألت الشيخ الأكبر عن الحياة الأدبية في تونس، فقال:
- يوجد في تونس أدباء لهم كتاباتهم ومؤلفاتهم. ولكنهم لا يبلغون مبلغ الأدباء في مصر، لا من ناحية العدد، ولا من ناحية الآثار وقيمتها، ولقد أخرجت مصر للناس شاعراً عظيماً نابغة؛ كالمرحوم أحمد شوقي، ولم تكتب الأقدار مثل هذا لتونس، وإن كان يوجد في تونس شعراء متوسطون، وهم -مهما اعتزوا بآثارهم- يرون في مصر الوجهة التي يتجهون إليها مقتدين ومقدرين.
ولقد كان في تونس شاعر ينتظره مجد عظيم لو طال به الأجل، وهو المرحوم أبو القاسم الشابي، ولكن الموت عاجله، فرحل عن الدنيا وهو في ريعان شبابه ..
والصحافة في تونس محدودة النشاط، وهي متواضعة في مظهرها ومخبرها.
ولا عجب، فتونس اليوم دولة ناشئة، ولم يمض عليها عهد بعد تخلصها من ظلمات المحتلين وظلمهم، والمنتظر أن تسير الحياة الأدبية قدماً نحو القوة والاتساع ما دامت تونس تسير في طريق القوة والبناء ..
وخرجت من حضرة الشيخ الأكبر، ولا يزال يستولي على تفكيري هذا الهدوء الذي يحيط به، وهذا الاعتكاف في محراب من محاريب البحث العلمي والتأمل العميق رحمه الله.
عن صوت الشرق (أبو حازم)