الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شيخ الجامع الأزهر السابق تونسي الشيخ محمد الخضر حسين
حامد الحبيب براهم (1)
ليس من السهل أن تنسى تونس هذا العالم الكبير، ولابد للشباب التونسي أن يعرف من هو الشيخ محمد الخضر حسين شيخ جامع الأزهر السابق، هذا الرجل الذي آمن بالإسلام ودعوته، وأحب من صدر حياته أن يكون من الذين قال الله سبحانه فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30].
إن الاستقامة على طريق الله بعلم وحزم وحكمة ويقين هي الولاية، فإذا تعارضت مصلحة الدين ومصلحة الدنيا أمام الرجل المسلم، فآثر مصلحة الدين، ومضى على ذلك في تصرفاته كلها مدى الحياة، فهو من أولياء الله؛ أي: من أنصاره، والولاية هي النصرة، وقد جرت سنة الله أن يأخذ بايدي أوليائه، وينصرهم ما نصروا دعوته وسنته في الأرض، وهذه المرتبة في متناول يد كل من رامها من شبابنا وكهولنا وشيوخنا، إذا آلى أن يجعل وجهته في مراحل الحياة. وسأتحدث في هذه الجريدة المباركة "جريدة الصباح" إلى إخواني من الشباب التونسي عن حياة هذا الرجل المؤمن بالإسلام.
(1) كاتب تونسي - جريدة "الصباح" العدد الصادر في 14 سبتمبر أيلول 1990 م - تونس.
ولد شيخنا المرحوم محمد الخضر حسين عام 1293 هـ في مدينة "نفطة" الجمهورية التونسية، وأبوه من أسرة شريفة، أصلها من الجمهورية الجزائرية، وكانت أمه من صالحات النساء، وله فيها قصيدة:(بكاء على قبر) لما بلغه خبر وفاتها سنة 1335 هـ. وكان أبوها الشيخ مصطفى بن عزوز من أهل العلم والفضل، له ترجمة في تاريخ الوزير أحمد بن أبي الضياف، وأبو جده لأمه محمد بن عزوز من الأفاضل أيضاً، وله ترجمة في كتاب "تعريف الخلف برجال السلف" للشيخ الحفناوي بن عروس، وخاله السيد محمد المكي بن عزوز من كبار العلماء الصالحين، وكان موضع الإجلال والاحترام من رجال الدولة العثمانية في العهد الحميدي، وقضى الشطر الأخير من حياته في الآستانة برغبة من السلطان، وله مؤلفات معروفة، ولشيخنا الفقيد قصيدة في تأبينه ووصفه بمناسبة وفاته سنة 1334 هـ أثبتها في (ص 180) من "ديوانه" في طبعته الثانية.
وفي سنة 1305 انتقلت أسرتهم من "نفطة" إلى العاصمة التونسية، وكان الفقيد في الثانية عشرة من حياته، وقد تأدب قبل ذلك بأدب الإسلام، وتلقى كتاب الله، ومبادئ العلوم الشرعية والعربية، فلما نزلوا تونس، التحق بجامع الزيتونة الأعظم، وأخذ يتنقل في مراحل التعليم، وكان من أبرز شيوخه: العلامة الكبير المرحوم سالم بو حاجب المولود ببلدة بنبلة، والمتوفى سنة 1339 هـ رحمه الله، ولفقيدنا أبيات في وصفه ورثائه هي في "ديوانه"(ص 101).
وفي سنة 1321 حصل على شهادة العالمية من جامعة الزيتونة المعمور، وما لبث أن أصدر مجلة "السعادة العظمى"، وأخذ يساهم في النهضة العلمية والأدبية، ويباري رجالها لإحراز قصبات السبق طمعاً في مرضاة الله، وفي
"ديوانه"(ص 73) قصيدة نظمها في هذه الحقبة، انطوت على روح الدعوة التي أنشأ هذه المجلة للقيام بها.
وفي سنة 1324 هـ تولى قضاء مدينة "بنزرت" ومنطقتها. وفي مساء 17 ربيع الآخر من تلك السنة ألقى محاضرة عنوانها: (الحرية في الإسلام) في نادي قدماء خريجي المدرسة الصادقية بلغت 64 صفحة، ودلت على نزعته المبكرة إلى الحرية، وفهمه السليم لرسالة الإسلام من هذه الناحية، ولم تطل مدة ولايته القضاء؛ لأن الجمع بينه وبين انطلاقه الفكري في بلد محتل بالاستعمار الملعون كان محاولة للجمع بين الضدين، لذلك رأيناه في سنة 1337 هـ عاد مدرساً في جامع الزيتونة، ولعله فارق القضاء قبل تدريسه في الزيتونة، فتولى التدريس قبل ذلك في المدرسة الصادقية حيث كانت المدرسة الصادقية هي الوحيدة في كامل الوطن التونسي، وفي مساء السبت 11 شوال سنة 1327 هـ ألقى في نادي الجمعية الخلدونية بتونس العاصمة محاضرة عنوانها:(حياة اللغة العربية) تحدث فيها عن أطوار هذه اللغة، وفصاحة مفرداتها، وحكمة تراكيبها، وتعدد أساليبها، وما تفردت به من إعجاز وبدائع التشبيه، وارتقاء مستوى اللغة بارتقاء التمدن العربي، وتحدث عن العامية والعربية الفصحى، وفي "ديوانه"(ص 23) قصيدة نظمها سنة 1328 هـ بعد ولايته القضاء والتدريس يوجه بها أنظار القائمين على جامع الزيتونة إلى ضرورة العناية بتدريس الإنشاء، وتمرين الزيتونيين عليه؛ ليكون للوطن من علماء هذا المعهد الإسلامي كتّاب بارعون، يؤدون مهمة الدعوة، ويقودون الأمة إلى أهدافها.
وفي تلك السنة، مرت بتونس بعثة الهلال الأحمر العثماني قاصدة طرابلس الغرب بعد حملة البغي الإيطالي عليها، فنظم قصيدة يدعو فيها إلى معونة
هذه البعثة وإعانتها، وهي في "الديوان"(ص 33).
وفي السنة التالية (1329 هـ) وجهت إليه التهمة ببث روح العداء للغرب، ولا سيما سلطة الحماية الفرنسية، فسافر إلى الآستانة متذرعاً بزيارة خاله السيد محمد المكي بن عزوز، ولما ظن أن الزوبعة هدأت، عاد إلى تونس بطريق "نابولي"، ولما استقر به المقام، رأى أنه لن يطيق البقاء في ذلك الجو الخانق، فأزمع الهجرة منه نهائياً، ووقع اختياره على دمشق، ليتخذها وطناً ثانياً له، وقد مر بالقاهرة سنة 1330 هـ، وقد اجتمع بالشيخ طاهر الجزائري، وأحمد تيمور، والسيد رشيد رضا، ومحب الدين الخطيب الذي كان وقتئذٍ في قلم تحرير "المؤيد".
ولما وصل إلى دمشق، كانت الحركة العربية في بدايتها، وكانت الأمة تطالب الحكومة العثمانية بإعطاء اللغة العربية حقها من التعليم في المدارس الرسمية، فعين الشيخ محمد الخضر حسين مدرساً للعربية في المدرسة (السلطانية) بدمشق، وكانت سكة الحجاز الحديدية متصلة فيما بين دمشق والمدينة المنورة، فزار المسجد النبوي سنة 1331 هـ، وله في هذه الزيارة قصيدة في "الديوان"(ص 106).
وفي هذه الفترة زار البلاد التونسية، وفي "ديوانه" من ذكريات هذه الزيارة أبيات في (ص 126 و 134). وذهب في هذه المرة إلى الآستانة، ولقي وزير حربيتها أنور باشا، واختير الشيخ محرراً عربياً في وزارة الحربية، وكان في هذه الحقبة قد عرف دخيلة الحال في الدولة، وأصيب بخيبة أمل ما كان يتصوره بعين الخيال، وبين ما رآه بعين الحقيقة، فنظم في سنة 1332 أبيات بعنوان:(بكاء على مجد ضائع) تجدها في "ديوانه"(ص 61)، وفي سنة 1333
أرسله أنور باشا إلى "برلين" بمهمة رسمية، فقضى في ألمانيا تسعة أشهر، اجتهد خلالها في تعلم الألمانية، وفي "ديوانه" قطع كثيرة مما نظمه هناك، ومن ذلك: أنه كان في قطار بضواحي برلين يرافقه مدير الأمور الشرقية بوزارة الخارجية الألمانية، وكان يتحدث مع شاب ألماني باللغة الألمانية، ثم أقبل مدير الأمور الشرقية على الشيخ، وقال له: أليس هكذا يقول ابن خلدون: إن العرب أبعد الناس عن السياسة؟ فنظم الشيخ في هذه الحادثة أبياتاً يقول فيها:
عذيري من فتى أزرى بقومي
…
وفي الأهواء ما يلد الهذاءَ
سلوا التاريخ عن حكم تملت
…
رعاياه العدالة والرخاء
هو الفاروق لم يدرك مداه
…
أمير هزّ في الدنيا لواء
وعاد إلى الآستانة، فوجد أن خاله الشيخ المكي بن عزوز قد توفي بها، قبل قدومه بنحو شهرين، فرثاه بما في "الديوان"، ثم ضاقت به العاصمة العثمانية على سعتها، وصرفه عنها وعن عظمتها يومئذٍ ما كان يشعر به من الشوق إلى دمشق، حتى تمكن من الوصول إليها، والاستقرار فيها، غير أنه ما لبث أن ناله شواظ من شرور السفاح الجنكيزي أحمد جمال باشا، الذي لم يسلم فاضل من شره، فاعتقل في رمضان سنة 1334 هـ، وكان في زنزانة واحدة هو والأستاذ سعدي بك الملا الذي تولى رئاسة الوزراء اللبنانية بين الحربين العالميتين، وكان جريرة سعدي بك الملا: أنه كان سكرتيراً لشكري باشا الأيوبي من كبار رجال الجيش العثماني الذين أنجبتهم الشام، أما شكري باشا، فكان تحت التعذيب الأليم الذي يذكِّر الناسَ بديوان التفتيش الكاثوليكي في إسبانيا.
ومن شعر الشيخ محمد الخضر حسين في هذا الاعتقال:
جرى سمر يوم اعتقلنا بفندق
…
ضحانا به ليل، وسامرنا رَمْسُ
فقال رفيقي في شقا الحبس: إن في
…
الحضارة أنساً لا يقاس به أُنْسُ
فقلت له: فضل البداوة راجحٌ
…
وحسبك أن البدو ليس به حَبْسُ
وأكبر ظني أنه كان لأنور باشا دخل في إنقاذ الشيخ من قبضة جمال باشا، فما كاد يفرج عنه، ويخرج، حتى أزمع السفر إلى الآستانة، وما كاد القطار يسير به حتى قال، وهي في "ديوانه" (ص 126):
أردد أنفاساً كذات الوقود إذ
…
رمقتني من البين المشت رواشِقُ
وما أنت مثلي يا قطار وإن نأى
…
بك السير تغشى بلدة وتفارقُ
فما لك تلقى زفرة بعد زفرة
…
وشملك إذ تطوي الفلا متناسق؟!
ولما بلغ الآستانة، أوفده أنور باشا سنة 1335 للمرة الثانية إلى ألمانيا، فقضى فيها زمناً طويلاً، وعاد إلى الآستانة، ثم إلى دمشق، فتولى التدريس بالمدرسة السلطانية مرة أخرى بقية سنة 1335، وفي هذه المدة شرع في دراسة كتاب "مغني اللبيب" فيعلم العربية لجمال الدين بن هشام (706 - 761) بمحضر جماعة من أذكياء طلاب العلم بدمشق، وكان يرجع في تقرير المسائل المتصل بالسماع والقياس إلى تلك الأصول المقررة والمستنبطة، فاقترح عليه أولو الجد من الطلبة جمع هذه الأصول المتفرقة؛ ليكونوا على بينة منها ساعة المطالعة، فألف مقالات تشرح حقيقة القياس، وتفصل شروطه، وتدل على مواقعه وأحكامه، ومن المقالات تألفت رسالة "القياس في اللغة العربية" التي أعاد عليها نظره بمصر، ونال بها عضوية جماعة كبار العلماء.
وفي سنة 1337 هـ ذهب إلى الآستانة، وكانت الحرب العالمية الأولى في نهاياتها، والحالة في دولة الاتحاد والترقي مؤذنة بالزوال، فتوجه إلى ألمانيا، وقضى هناك سبعة أشهر، وكانت عودته منها هذه المرة إلى دمشق رأساً، وهو يقول "الديوان" (ص 220):
سئمت وما سئمت سوى مقامي
…
بدارٍ لا يروج بها بياني
فازمعت الرحيل وفرط شوقي
…
إلى بردى تحكم في عناني
هلم حقيبتي لأحطّ رحلي
…
فنفحُ زهور جِلَّق في تداني
ووافقت عودة الشيخ إلى دمشق دخول الجيش العربي، وولاية فيصل ابن حسين على سوريا، على أمل أن يعود إلى تونس، فيكمل حياته فيها، ولكن الله أراد له الاستقرار والبقاء بمصر.
وفي مصر أخذ يشتغل بالكتابة والتحرير والدرس، وفي سنة 1340 هـ ألف رسالته "الخيال في الشعر العربي". وبعدئذٍ كسبته دار الكتب المصرية، فالتحق بقسمها الأدبي عدة سنين، ثم تجنس بالجنسية المصرية، وتقدم للامتحان في الأزهر، فقام على امتحانه لجنة برئاسة العلامة الشيخ عبد المجيد اللبان، وكانت اللجنة كما اكتشفت آفاق علمه، زادت في التعمق بمناقشته، واستخراج كنوز فضله، وأصبح بعدئذ من أكمل أساتذة هذا الصرح العلمي العظيم في عصور الإسلام الطويلة، وإن تلاميذ الشيخ صاروا فحول العلماء، وأطواد التحقيق في الشريعة وعلوم العربية.
وفي سنة 1342 هـ أسس "جمعية تعاون جاليات أفريقية الشمالية"، وسن لها قانوناً، وفي سنة 1343 مرض مرضاً شديداً، ردد صداه في شعره "الديوان"(26)، وفي سنة 1344 هـ ظهر كتاب "الإسلام وأصول الحكم".
واصل رحمه الله السنين المباركة في حياته بعد ذلك في التدريس بكلية أصول الدين على طريقة العلماء الأقدمين في التحقيق والرجوع بقضايا العلم إلى أصولها، والغوص في أعماقها، ويقضي الليالي في محاضرة جماهير الشباب وأهل الفضل بدار "جمعية الهداية الإسلامية" داعياً إلى تجديد حيوية الإسلام في نفوس أهله، وتقرير حقائقه بأساليب بليغة، كانت موضع الحرمة والتقدير من جميع الطبقات.
وعندما أسس المجمع اللغوي، كان من أقدم أعضائه، وله فيه بحوث وقصائد ودفاع عن الفصحى، وتبيان لأسرارها، وعرض لجواهرها.
وفي سنة 1370 نال عضوية هيئة كبار العلماء برسالة "القياس في اللغة العربية" التي ألف أصولها وهو في دمشق أيام الحرب العالمية الأولى، وفي يوم الثلاثاء (26 من ذي الحجة 1371 هـ - 16 سبتمبر 1952 م) خرج من مجلس الوزراء أثناء انعقاده ثلاثة من أعضاء ذلك المجلس، فتوجهوا إلى المنزل الذي كان يسكنه الشيخ، وعرضوا عليه مشيخة الجامع الأزهر باسم حكومة الثورة، وجاء الشيخ إلى مشيخة الأزهر، وللأزهر في ذهنه رسالة يتمنى لو اضطلع بها الأزهر؛ ليتم له بها حمل أمانة الإسلام.
وكان هذا الاختيار تحقيقاً للأخوة الإسلامية في الدستور الإسلامي، وبرهاناً من الله عز وجل على أن من كان مع الله، كان الله معه، وعلى أن من عاش يؤثر الآجلة على العاجلة عند اختلافهما، فإن الله يكافئه بخير مما يطمع فيه الذين يؤثرون العاجلة على الآجلة.
ولما أضعفته الشيخوخة عن مواصلة الاضطلاع بحمل هذه الأمانة، عاد إلى منزله يواصل العكوف على الكتب والكتابة والتفكير، حتى لقد نظم ديواناً
كله مقطعات في الحكمة والخواطر التي تحوم حول الحق والخير ..
وفي يوم 13 رجب 1377 مساء اختاره الله إليه، وهو لا يزال على عهده الأول من الذين قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا، فكان جديراً بما وعد الله به أمثاله أن تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، وفي ظهر اليوم التالي صُلي عليه بعد الفريضة في الجامع الأزهر، ومشى في موكب جنازته علماء الأزهر وأعيان الأمة المصرية والمنتسبون إلى العلم، ودفن بجوار صديقه أحمد تيمور باشا بوصية منه -رحم الله الشيخ محمد الخضر حسين التونسي شيخ جامع الأزهر السابق-.