الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحركة الأدبية والفكرية في تونس
(1)
العلامة محمد الفاضل بن عاشور
وبقي معارضو الدعوة الإصلاحية متطلعين إلى الوفاء بالحاجة الثانية، وهي تكوين نشرة تناقش في المباحث الدينية على قاعدة التزام المذهب الذي عليه جمهور العلماء في مسائل أصول الدين الاعتقادية، وفروع الفقه العملية، وكان الحرص على محاكاة مصر في وسائل نهضتها، يحسن لأهل العلم إيجاد مجلة علمية بتونس. إذ كان النشر مقصوراً يومئذ على الصحف.
حتى انتدب لسد ذلك العوز نابغ من شباب شيوخ الزيتونة، هو الشيخ الإمام محمد الخضر حسين، وكان في شبابه بتونس على ما عرف منه الشرق في كهولته وشيخوخته؛ اعتدالاً، وهدوء طبع، وخلوص نية، وسعة علم، وبراعة قلم، فأصدر في شهر المحرم سنة (1322 هـ -1904 م) مجلة علمية سماها:"السعادة العظمى"، ابتهجت لصدورها جميع الأوساط العلمية والفكرية؛ ثقة بعلم صاحبها وتحقيقه، وصلابة عوده في أمور الدين، مع ما اشتهر من تأييده لحركة المصلحين.
فكان ظهور "السعادة" في معمعة تلك الخلافات كطلوع الحكم العادل،
(1) فقرات تتعلق بمجلة"السعادة العظمى" للإمام محمد الخضر حسين من كتاب "الحركة الأدبية في تونس" للعلامة محمد الفاضل بن عاشور، طبعة سنة 1972 م.
تنزهت به المجادلات عن الفحش، وتطهرت من الهمز واللمز، وتسامت عن التشهير والأذى الشخصي، فاقتبلها المجددون واثقين من أن التحيز والمبالغة والعناد ستزيف كلها على معيار هذه المجلة العلمية الراقية، وتلقفها خصوم التجديد حجة على أن شباب العلماء المتنورين، ليسوا على مذهب صاحب "المناردا وأتباعه، وقنع هؤلاء المحافظون بأن يعتضدوا بالشيخ النجار، ومجلة "السعادة العظمى"، مكتفين بذلك في باب الجدال العلمي، والنقاش النزيه، وإن بقيت لهم وسائلهم الأخرى في باب التشهير والسعاية والنكاية.
فقد عارضت هيئة النظارة العلمية بالجامع الأعظم في صدورها، وطالبت الحكومة بتعطيلها، وكان ذلك أصل الاضطهادات التي نالت صاحبها من طرف شيوخ النظارة، ومع ذلك، فقد أحاط بمجلة "السعادة العظمى" القبول الحسن، فقرظتها الجرائد، وانثالت عليها الرسائل والقصائد، في الثناء والتأييد من العلماء والأدباء وذوي الأفكار، وكانت نزعات التقارب تختلف باختلاف ما ينتمي إليه المقرظون من الشقين المتقابلين الواثقين بمجلة السعادة على السواء.
فكانت هذه المجلة مركزاً للحركة الفكرية، وقوة توجيه متصلة بجميع أهل الثقافة العربية، يجتمع تحتها شقان متباعدان، في سعيد الاحترام، وحسن الأدب، والتجرد، ولم تدم إلا عاماً ناقصاً، فصدر منها واحد وعشرون عدداً، أثيرت فيها مباحث مهمة حول المسائل الدينية التي كانت يومئذ شغل أفكار العلماء مع مجلة "المنار".
حديث مع المحامي علي الرّضا الحسيني (1) المؤلفات الكاملة للعلامة محمد الخضر حسين في طريقها للصدور
زار تونس هذه الأيام المحامي الأستاذ علي الرّضا الحسيني ابن العلامة الشيخ زين العابدين شقيق الإمام محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر.
والأستاذ علي الرضا ينحدر من أصل تونسي، وهو مقيم الآن في دمشق مع أسرته حيث يزاول مهنة المحاماة.
وفي بيت الأستاذ الهادي العبيدي الذي حوَّل -في هذه الأيام حيث يقضي فترة النقاهة- غرفة الاستقبال ببيته إلى نادٍ أدبي، يفد عليه رجال الفكر والأدب والفن من تونس، ومن شتى البلاد العربية، التقينا بالمحامي علي الرضا الحسيني الذي اتصل بالأستاذ الهادي العبيدي للاطمئنان عليه، والسؤال عن صحته، وأجرينا معه الحديث التالي:
س - ما هي الغاية من زيارتكم تونس؟
ج - إن الإقامة -وللأسف- قصيرة جداً إذا ما قيست بالشوق الذي أكنه لهذا البلد. والأمل الذي أرجو أن يتحقق مستقبلاً هو الإقامة لمدة أشهر؛
(1) جريدة "الصباح، التونسية، أوسع الصحف انتشاراً في تونس والمغرب العربي، لقاء في دار الأديب الكبير المرحوم الهادي العبيدي الذي كان يشغل رئاسة التحرير في الجريدة.- العدد (7184) الصادر في 14 شعبان 1392 هـ الموافق 21 سبتمبر 1972 م - تونس.
حيث أتعرف أكثر فأكثر على تونس بمدنها التاريخية، ومصايفها الرائعة، وأعيش مع شعبها الطيب فترة هي من أجمل ما تكون في مرحلة العمر.
أما الغاية من هذه الزيارة، فهي البحث العلمي، والتنقيب عن الآثار العظيمة التي تركها العم العلامة محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: للاطلاع والسياحة.
وقد تحققت الغاية العلمية؛ حيث كان لي شرف الاجتماع بأعلام تونس من أهل العلم والفضل، ممن عرفوا الشيخ الخضر، وكانوا إخوة صادقين؛ من أمثال: سماحة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور الذي زودني بالتوجيهات القيمة، والآراء السديدة، فجزاء الله خيراً. كما التقيت بعدد من علماء تونس بهذا الاختصاص، ولهم جميعاً الشكر والامتنان.
وقد لازمتُ دار الكتب الوطنية (مكتبة العطارين)، وقمت بتصوير بعض الوثائق التي كنت أفتقدها، ولا سيما ما كتب في مجلة "السعادة العظمى" التي كان يصدرها الشيخ الخضر في تونس عام 1903 م، كما جمعت ما كتبه في مجلات:"البدر"، و"العرب"، و"الفجر" التي كانت تصدر في تونس، كما نقلت ما كتبته الصحف والمجلات التونسية عن حياته وآثاره.
س - علمنا أنكم قد باشرتم بطبع التراث الإسلامي للإمام الراحل، فهل تحدثون قراء "الصباح" عن هذا التراث، وإلى أين وصلتم في إخراجه؟
ج - منذ عشر سنوات خلت شرعتُ في جمع آثار الشيخ رحمه الله ومنها: رسائله المطبوعة على اختلافها، ومنها: مئات المقالات التي نشرها في المجلات الإسلامية والمصحف، وخاصة في المجلة التي كان يصدرها في القاهرة، والمعروفة باسم "الهداية الإسلامية". وكذلك المجلات التي كان قد
ترأس تحريرها مثل مجلة "نور الإسلام"، وهي مجلة الأزهر اليوم، ومجلة "لواء الإسلام".
وقد رتبت الأبحاث حسب مواضيعها في كتب طبعتها في دمشق. ومن الكتب التي ثم طبعها: رسائل الإصلاح - محمد رسول الله وخاتم النبيين - بلاغة القرآن - الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان - تونس وجامع الزيتونة - الخيال في الشعر العربي - تراجم الرجال.
أما الكتب التي ستطبع -إن شاء الله-، فهي: السعادة العظمى - دراسات في اللغة - هدى ونور- محاضرات إسلامية - الرحلات - القاديانية والبهائية - دراسات في الشريعة الإسلامية - نقض كتاب في "الشعر الجاهلي" لطه حسين - نقض "كتاب الإسلام وأصول الحكم" - خواطر الحياة، وهو شعر فقيدنا الكبير - أسرار التنزيل (1).
وقد سبق أن طبعت إحدى دور النشر في دمشق كتاب "دراسات في العربية وتاريخها"، وسيعاد طبعها -إن شاء الله- فيما بعد.
كما أني قمت بجمع آثار العم الشيخ محمد المكي بن الحسين، ولا سيما لغوياته التي كانت لها شهرة واسعة بين قراء الأدب، وسأطبعها -إن شاء الله- بعد أن يتم ترتيم في مجموعات أدبية (2).
س - وماذا تحدثنا عن مؤلفات والدكم -أطال الله عمره-؟
إن سيدي الوالد الشيخ زين العابدين -حفظه الله-، منذ أن أقام في
(1) طبعت كافة هذه المؤلفات وغيرها للإمام، ولله- سبحانه وتعالى الحمد والشكر.
(2)
طبعت كافة الآثار العلمية للعلامة النحوي محمد المكي بن الحسين.
دمشق، قد احتضنته تلك المدينة العظيمة، وكان له شأن كبير فيها، حيث انصرف إلى التوجه الديني فقط، في حلقات للتعليم والتوجيه تكاد تكون يومية، وقد زود المكتبة العربية بآثار هامة، ما زال يتلقفها القارئ العربي بشوق، ومن مؤلفاته:"المعجم المدرسي" الذي قضى في تحضيره سنوات، و"المعجم في النحو والصرف"، و"دروس الوعظ والإرشاد"، و"الدين والقرآن"، و"المعجم في الكلمات القرآنية"، و"الأربعون الميدانية" في الحديث. وثمة رسائل صغيرة أخرى؛ كمولد النبي صلى الله عليه وسلم، ورسالة في الدين الإسلامي، ورسالة عن الأحاديث الواردة في رمضان، وغيرها.
ولسيدي الوالد شغف كبير بتونس، حيث ولد فيها، وقد بلغ هذا الشغف أنه كثيراً ما يحتفل بأبناء تونس الزائرين لدمشق، والذين يتميزون باللباس الخاص بهم، ويدعوهم إلى الدار دون معرفة سابقة، كل ذلك محبة في ذلك البلد.
ولا أعتقد أن هناك مواطناً تونسياً، سواء كان من الرسميين الذين زاروا دمشق ضمن وفود حكومية، أو من غيرهم، لم يجتمع بالوالد، إلا القليل -فيما أظن-، وستكون آثاره قريباً في المكتبات التونسية.
والواقع أنه يصعب علي الإفاضة بالحديث عن سيدي الوالد، وأترك هذا لمن عرفه من التونسيين؛ لتكون الصورة أوضح بتفاصيلها ووثائقها.
ومن المعروف أن الشيخ محمد الخضر حسين عبقرية إسلامية فذة، قلما يجود بها الزمان، وإن كانت ولادته في "نفطة" من الجنوب التونسي، فإن ميدان نضاله اتسع حتى شمل العالم الإسلامي.
وفي مثل هذه العجالة لا يمكن حتى الإيجاز عن حياة عظيم من عظماء
الإسلام في القرن العشرين، وإن آثاره أفضل سبيل لمعرفة هذا العظيم.
لقد ولد الشيخ الخضر في بلدة "نفطة" عام 1874 م من أسرة علم وصلاح وتقوى يتصل نسبها بالرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. وقد انتقل إلى العاصمة تونس مع والده حيث التحق بالجامع الزيتوني، وحصل على شهادة التطويع، ومنذ مطلع حياته بدأ الكتابة وقرض الشعر، وأصدر مجلة "السعادة العظمى"، وتولى القضاء في مدينة "بنزرت". وقام بالتدريس في جامع الزيتونة، والمدرسة الصادقية.
ارتحل مع عائلته إلى الشرق، فأقام مدة في دمشق، وغادرها إلى القاهرة؛ حيث استقر هناك بقية حياته مناضلاً مكافحاً في شتى الميادين السياسية والدينية.
وترأس تحرير مجلة "نور الإسلام"، وعين مدرساً في كلية أصول الدين - إحدى الكليات الأزهرية -، ثم أستاذاً في التخصص، وأنشأ جمعية "الهداية الإسلامية"، وأصدر مجلة تحمل نفس الاسم، وعين عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، وعضواً في المجمع اللغوي بالقاهرة، وقدم رسالة "القياس في اللغة العربية" التي نال بها عضوية هيئة كبار العلماء، وفي الميدان السياسي قام بتشكيل عدة جبهات للدفاع عن المغرب العربي، ومن أبرزها:(جبهة الدفاع عن أفريقية الشمالية) التي كان لها دور كبير في التمهيد لاستقلال المغرب العربي.
وقد اختير عام 1952 م إماماً لمشيخة الأزهر، فكان الأزهر في عهده مزدهراً، وتوفي عام 1958 ودفن -بناء على وصية منه- مع صديقه المرحوم العلامة أحمد تيمور باشا في المقبرة التيمورية في القاهرة.
وأنهى الأستاذ علي الرّضا الحسيني حديثه معنا بقوله: وإني - في هذا
اللقاء الخاطف- آمل من الباحثين التونسيين دراسة آثار الشيخ دراسة وافية، وتعريفها إلى النشء التونسي، كما آمل موافاة قراء "الصباح" في المستقبل بأحاديث عن حياة الإمام - طيب الله ثراه-.