الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القياس في دراسات المحدثين
الدكتور عبد الصبور شاهين (1)
ومن دارسي القياس حديثاً: العالم اللغوي المجتهد الشيخ الإمام محمد الخضر حسين (شيخ الأزهر الأسبق)، وقد بدأ يعالج هذه المشكلة منذ عهد بعيد (حوالي عام 1920 م) في مجموعة من المقالات، نشرت في كتاب عام 1934 بعنوان:"القياس في اللغة العربية".
وقد حاول أن يحصر من أول الأمر احتمالات القياس، على ما جرت به محاولات السلف، فوجدها أربعة أضراب:
أحدهما: حملُ العرب أنفسهم لبعض الكلمات على أخرى، وإعطاؤها حكمها؛ لوجه يجمع بينهما؛ كما يقال: أُعرب الفعل المضارع قياساً على الاسم؛ لمشابهته له في احتماله لمعان لا يتبين المراد منها إلا بالإعراب، وكما يقال: دخلت الفاء خبر الموصول في نحو قولهم: "من يأتيني فله درهم"؛ قياساً للموصول على الشرط؛ لمشابهته إياه في إفادة العموم.
(1) كاتب ومفكر إسلامي معروف، وهذا المقال جزء من البحث الذي نشره في مجلة "عالم الفكر" عدد أكتوبر ونوفمبر وديسمبر 1970 م الكويت - تحت عنوان:"مشكلات القياس في اللغة العربية"، واخترنا من البحث ما يتعلق بالإمام الإمام محمد الخضر حسين.
وكما يقال: نصبت (لا) النافية للجنس الاسم، ورفعت الخبر قياساً على (أن)؛ لمشابهتها إياها في التوكيد، فإن (لا) لتأكيد النفي، كما تأتي (أن) لتوكيد الإثبات.
ثانيها: أن تعمد إلى اسم وضع لمعنى يشتمل على وصف يدور معه الاسم وجوداً وعدماً، فتعدي هذا الاسم إلى معنى آخر تحقق فيه ذلك الوصف، وتجعل هذا المعنى من مدلولات ذلك الاسم لغة.
ويضرب لهذا النوع مثلاً: إطلاق اسم (الخمر) -وهو الموضوع للمعتصر من العنب، حين يخامر العقل- على المعتصر من غير العنب إذا تحقق فيه مخامرة العقل أيضاً.
وإطلاق اسم (السارق) -وهو الموضوع لمن يأخذ مال غيره من الأحياء خفية من حرز مثله- على (النباش) الذي يأخذ ما على الموتى من كفان.
ويقول الشيخ الخضر: "وهذا الضرب من القياس هو الذي ينظر إليه علماء أصول الفقه، عندما يتعرضون لمسألة: هل تثبت اللغة بالقياس؟ ".
ثالثها: إلحاق اللفظ بأمثاله في حكم ثبت لها باستقراء كلام العرب، حتى انتظمت منه قاعدة عامة؛ كصيغ التصغير، والنسب، والجمع. وأصل هذا: أن الكلمات الواردة في كلام العرب على حالة خاصة، يستنبط منها علماء العربية قاعدة تخول المتكلم الحق في أن يقيس على تلك الكلمات الواردة ما ينطق به من أمثالها.
رابعها: إعطاء الكلمة حكم ما ثبت لغيرها من الكلم المخالفة لها في نوعها، ولكن توجد بينهما مشابهة من بعض الوجوه، كما أجاز الجمهور ترخيم المركب المزجي قياساً على الأسماء المنتهية بتاء التأنيث. وكما أجاز طائفة
حذف الضمير المجرور العائد من الصلة إلى الموصول متى تعين حرف الجر، قياساً على حذف الضمير العائد من جملة الخبر إلى المبتدأ، فتقول: قضيت الليلة التي ولدت في سرور؛ أي: ولدت فيها، جاز لك أن تقول: هذا الكتاب تساوي الورقة درهماً؛ أي: الورقة منه بدرهم.
ومن هذا التحديد يتضح لنا عدة أمور:
أولها: أن القياس في نظر الشيخ الخضر يجريه العربي القديم، كما يجريه الأصولي والنحوي، ولكنَّ لكل منهما مجالاً. فمجال العربي، وهو صاحب اللسان: هو الضرب الأول، ومجال الأصولي: هو الضرب الثاني، ومجال النحوي: الضربان الأخيران.
ثانيها: أن القياس قد يكون في الشكل، وقد يكون في الدلالة، فمن الأول: إلحاق المضارع بالاسم في الإعراب، ودخول الفاء على خبر الموصول قياساً على الشرط، وحذف الضمير العائد من الصلة إلى الموصول متى تعين حرف الجر قياساً على حذف الضمير العائد من جملة الخبر إلى المبتدأ. ومن الثاني: قياس الأصوليين السابق ذكره.
ثالثها: أن الهدف من قياس الشكل: طرد قاعدة معينة في مجال تصريف الكلمة، أو تركيب الجملة، والهدف من قياس الدلالة: خلق استعمالات جديدة لكلمات اللغة؛ أي: توسيع الدلالة الضيقة.
والواقع أن ما جعله الشيخ الخضر خاصاً بالعرب أنفسهم في الضرب الأول من القياس لا تنهض الأمثلة المسوقة بتفسيره على نحو ما أراد المؤلف؛ لأن من المؤكد أن العربي القديم لم يستشعر هذا التشابه المفترض بين المضارع والاسم؛ ليطرد في الأول قاعدة الإعراب، وإنما ذلك شيء لاحظه النحويون
من تتبعهم لاستعمالات المضارع، ومحاولتهم تعليل خروجه على قاعدة البناء في الأفعال، فألحقوه بالأسماء في العلة، وكذلك قياس فاء خبر الموصول على فاء جواب الشرط.
وأيضاً تعليل عمل (لا) التي تنفي الجنس عمل (إنَّ) بأن كلتيهما تفيد التوكيد، مع فارق أن (لا) لتأكيد النفي، و (إنَّ) لتأكيد الإثبات. فقد أثبت القدماء تفرقة بين (لا) و (إنَّ) تُضعف وجه الشبه بينهما عملاً، وذلك أن (لا) غير عاملة في الخبر. بخلاف (إنَّ)، أو أن (لا) ركبت مع الاسم النكرة بعدها، فصارا شيئاً واحداً، وأما (إنَّ)، فإنها لا تركب مع الاسم يعدها. "الإنصاف"(1/ 195).
وبذلك يظهر أن هذه الأمثلة القياسية هي من صنع النحاة، لا من وضع العرب أنفسهم. فقد نطق العرب باللغة، دون أن يكون منهم أدنى ملاحظة تقيس ظاهرة نحوية على أخرى.
ثم هذا الضرب الذي خصه الأستاذ الخضر بالأصوليين، أليس فحواه توسيع الدلالة في بعض ألفاظ اللغة؛ لتشمل مجموعة من الإطلاقات الجديدة على أساس مجازي؟
ومثل هذا العمل اللغوي يمارسه الأصوليون، وغير الأصوليين متى لوحظت العلاقة المجازية التي تربط بين مفهوم ذي لفظ موضوع، ومفهوم آخر جديد يحتاج إلى لفظ يدل عليه. ومن هذا القبيل: إطلاق ألفاظ: (قطار، وسيارة، وطائرة)، وسائر ما يدل على المفاهيم المستحدثة في اللغة، فقد اكتسبت هذه الألفاظ معانيها الجديدة بوساطة توسيع الدلالة على أساس مجازي، ومن البين أن هذا التوسيع لم يقم به الأصوليون.
على أن الشيخ الخضر لم يقف عند هذين الضربين من القياس، وإنما خص الضربين الأخيرين بدراسة مستفيضة، على أساس أن أولهما يقوم على التشابه الكامل بين المقيس والمقيس عليه، فاستحق المقيس الحكم الذي ثبت للمقيس عليه؛ كتصغير الثلاثي قياساً، والنسب إلى الأسماء، وجمعها جمع تكسير. أو جمعاً سالماً
…
إلح.
وعلى أساس أن ثانيهما يخص الكلمة التي توجد بينها وبين غيرها مشابهة من بعض الوجوه، وكلا هذين الضربين من باب القياس الشكلي الذي أشرنا إليه من قبل، بيد أن الشيخ قد خص القياس القائم على التماثل باسم:(القياس الأصلي)، واختار للثاني اسم:(قياس التمثيل)؛ للتفرقة بينهما، ثم مضى في تتبع الفروع اللغوية؛ ليثبت وجود هذين النوعين من القياس.
ومن الواضح في هذا التقسيم أنه مشتمل على مفهومي القياس، من حيث هو تطبيق قاعدة على أفرادها، ومن حيث هو استنباط جديد على ضوء قديم، وإن جعل القاعدة في كلا الموقفين هي الأساس.