المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث محمد الخضر حسين - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٤/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(27)«كِتَابَاتٌ حَولَ الإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين»

- ‌المقدمة

- ‌باقات شعر مهداة إلى الإمام محمد الخضر حسين

- ‌الشجرة المباركة

- ‌تهنئة للإمام محمد الخضر حسين بتوليه القضاء في مدينة "بنزرت

- ‌الملحق

- ‌التهاني التدريسية

- ‌تهنئة الأدباء

- ‌رحلة مفتي القيروان الشيخ محمد الجودي

- ‌نقض كتاب "الإسلام وأصول الحكم

- ‌السيد محمد الخضر حسين

- ‌إلى العلامة الجليل السيد محمد الخضر حسين بمناسبة سفره إلى الأقطار الحجازية

- ‌الترحيب بالإمام محمد الخضر حسين بمناسبة عودته من أداء فريضة الحج

- ‌محاضرة الأستاذ الخضر بن حسين

- ‌مصنفات الأستاذ السيد محمد الخضر حسين

- ‌في سبيل الله والوطن شيخ الأزهر الجديد

- ‌حظوة شيخ الأزهر الجديد

- ‌تهنئة إلى الأستاذ الإمام فضيلة شيخ الجامع الأزهر الجديد سماحة الشيخ محمد الخضر بن الحسين

- ‌أي مغزى سامٍ في وضع الشيخ الخضر على رأس الأزهر الشريف

- ‌القياس في دراسات المحدثين

- ‌الحركة الأدبية والفكرية في تونس

- ‌محمد الخضر حسين أحد زعماء النهضة الإسلامية

- ‌لماذا ذهب الشيخ الخضر إلى ألمانيا

- ‌محمد الخضر حسين حياته وآثاره

- ‌وثيقة تاريخية هامة صادرة عن جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية

- ‌علماء تونسيون في دمشق

- ‌أعلام العلماء الشيخ الخضر حسين

- ‌الأدب التونسي وصداه في الشرق قديماً وحديثاً

- ‌من تاريخ الصحافة التونسية "السعادة العظمى 1904" ودورها الحضاري

- ‌شيخ الجامع الأزهر السابق تونسي الشيخ محمد الخضر حسين

- ‌أعلام من تاريخنا الشيخ محمد الخضر حسين

- ‌أعلام الإعلام في تونس محمد الخضر بن الحسين

- ‌من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر الشيخ محمد الخضر حسين

- ‌بين القاسم الشابي ومحمد الخضر حسين

- ‌أعلام محمد الخضر حسين وخطابه الحداثي

- ‌عرض مختصر عن حياة الشيخ الخضر بن الحسين

- ‌أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث محمد الخضر حسين

- ‌مشاهير القرن العشرين محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر وأحد زعماء النهضة الإسلامية

- ‌جمعية قدماء الصادقية تحيي ذكرى الشيخ محمد الخضر حسين العالم والمناضل

- ‌فهارس مؤلفات الإمام محمد الخضر حسين

- ‌من رسائل الوفاء

- ‌الجمهورية التونسية - رئاسة الجمهورية الكتابة الخاصة(عدد - 4541)

- ‌النشرة الأدبية الأولى لجمعية شَباب الخضرِ بن الحُسينِ النفطِيّ

- ‌كلمة الافتتاح

- ‌نبذة من تاريخ "نفطة

- ‌والذكر للإنسان

- ‌من حياة الشيخ الخضر بن الحسين

الفصل: ‌أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث محمد الخضر حسين

‌أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث محمد الخضر حسين

أحمد تيمور باشا (1)

ولد الشيخ محمد الخضر حسين (2) بمدينة "نفطة" بالقطر التونسي في 26 رجب سنة 1293 هـ، واشتغل بالعلم بعد أن حفظ القرآن، فقرأ بعض الكتب الابتدائية ببلده، وفي آخر سنة 1306 هـ رحل مع أبيه وأسرته إلى القاعدة التونسية، فدخل الكلية الزيتونية سنة 1307 هـ، وقرأ على أشهر أساتذتها، وتخرج عليهم في العلوم الدينية واللغوية، ونبغ فيها وفي غيرها. فطُلب لتولي بعض الخطط العلمية قبل إتمام دراسته، لكنه أبى، وواظب على حضور دروس العلماء والأكابر؛ مثل: عمر بن الشيخ، والشيخ محمد النجار، وكانا يدرّسان

(1) ترجمة الإمام محمد الخضر حسين في كتاب "أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث" للمؤرخ والعلامة المحقق أحمد تيمور باشا. وطبعته لجنة نشر المؤلفات التيمورية - الطبعة الأولى (1387 هـ -1967 م)، والتعليقات في الهامش من وضع اللجنة ....

(2)

كتب الإمام هذه الترجمة في حياة المترجم، وكان صديقه، وأوصى بأن يدفن إلى جواره، وقد أنشأ الشيخ الخضر جمعية "الهداية الإسلامية" ،وأصدر مجلة لها، وعين عضواً بالمجمع العلمي العربي بدمشق، وعضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ثم اختير شيخاً للأزهر في بداية ثورة 23 يوليو سنة 1952، وتوفي سنة 1958 م.

ص: 190

التفسير، والشيخ سالم بوحاجب، وكان يدرّس "صحيح البخاري".

ثم رحل إلى الشرق سنة 1317 هـ ولكنه لم يبلغ طرابلس حتى اضطر إلى الرجوع بعد أن أقام بها أياماً، فلازم جامع الزيتونة، يقيد ويستفيد إلى سنة 1321 هـ فأنشأ فيها مجلة "السعادة العظمى"، ولقي في سبيل بثّ رأيه الإصلاحي ما يلقاه كل من سلك هذا السبيل.

وفي سنة 1323 هـ ولّي القضاء بمدينة "بنزرت"، والتدريس والخطابة بجامعها الكبير. ثم استقال ورجع إلى القاعدة التونسية، وتطوع للتدريس بجامع الزيتونة، ثم أحيل إليه تنظم خزائن الكتب بالجامع المذكور. وفي سنة 1325 هـ اشترك في تأسيس جمعية زيتونية، وفي هذه المدة جعل من المدرسين المعينين بالجامع.

وفي سنة 1326 هـ جعل مدرساً بالصادقية، وكلف بالخطابة بالخلدونية. ولما قامت الحرب الطرابلسية بين الطليان والعثمانيين، كان من أعظم الدعاة لإعانة الدولة. ونشر بجريدة "الزاهرة" قصيدته التي مطلعها:

ردوا على مجدنا الذكر الذي ذهبا

يكفي مضاجعنا نوم دهى حقبا

ثم رحل إلى الجزائر، فزار أمهات مدنها، وألقى بها الدروس المفيدة. ثم عاد إلى تونس، وعاود دروسه في جامع الزيتونة، ونشر المقالات العلمية والأدبية في الصحف.

وفي سنة 1330 هـ سافر إلى دمشق ماراً بمصر، ثم سافر إلى القسطنطينية، فدخلها يوم إعلان حرب البلقان، فاختلط بأهلها، وزار مكاتبها، ثم لما عاد إلى تونس في ذي الحجة من هذه السنة، نشر رحلته المفيدة عنها، وعن الحالة الاجتماعية بها ببعض الصحف.

ص: 191

ثم جعل عضواً في اللجنة التي ألفتها حكومة تونس للبحث عن حقائق في تاريخ تونس، ثم ترك ذلك لما عزم على المهاجرة إلى الشرق. فرحل إليه، ونزل مصر، وعرف بعض فضلائها، ثم سافر إلى الشام، ثم للمدينة، ثم للقسطنطينية، ثم عاد إلى دمشق معيناً مدرساً لفغة العربية والفلسفة بالمدرسة السلطانية بها، وبقي كذلك إلى أن اتهمه مدة الحرب العظمى جمال باشا حاكم سورية بكتم حال المتآمرين على الدولة، واعتقله سنة أشهر وأربعة عشر يوماً، ثم حوكم، فبرئ من التهمة، فاطلق سبيله في شهر ربيع الثاني سنة 1325 هـ.

ومن شعره في حبسه، وكانوا حالوا بينه وبين أدوات الكتابة:

غلّ ذا الحبس يدي عن قلم

كان لا يصحو عن الطرس فناما

هل يذود الغمض عن مقلته

أو يلاقي بعده الموت الزؤاما

أنا لولا همة تحدو إلى

خدمة الإسلام آثرت الحِماما

ليست الدنيا وما يقسم من

زهرها إلا سراباً أو جهاما

ثم استمر في التدريس بالمدرسة بدمشق، إلى أن دعي إلى القسطنطينية سنة 1326 هـ، فجعل منشئاً عربياً بوزارة الحرب، وواعظاً بجامع الفاتح، فبقي كذلك إلى سنة 1327 هـ، ففارق الآستانة، وعاد إلى دمشق، وقال في ذلك:

أنا كأس الكريم والأرض نادٍ

والمطايا تطوف بي كالسقاة

ربَّ كأسِ هوت إلى الأرض صدعاً

بين كفٍّ تديرها واللهاة

فاسمحي يا حياةُ بي لبخيلٍ

جفن ساقيه طافح بالسبات

ص: 192

وعيّن عضواً بالمجمع العلمي العربي بدمشق ومدرساً ببعض المدارس، فلم يباشر شيئاً من ذلك، بل سافر قاصداً مصر، ونزل بها، فولي التصحيح، وعمل الفهارس بدار الكتب المصرية.

ومن مؤلفاته:

"فقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، و"حياة ابن خلدون"، و"الخيال في الشعر العربي"، و"حياة اللغة العربية"، وغيرها (1).

(1) توفي إلى رحمة الله سنة (1378 هـ الموافق سنة 1958 م)، وصلي على جثمانه بالجامع، وقد احتفل رجال الدين والعلماء ونحوهم بتشييع جنازته، ودفن بجوار جثمان المغفور له العلامة أحمد تيمور باشا بمدافن الأسرة التيمورية بالإمام الشافعي رضي الله عنه بناء على وصيته بذلك.

ص: 193

محمد الخضر حسين (1)(1293 - 1377 هـ)(1873 - 1958 م)

محمد محفوظ

محمد الخضر (2) بن حسين بن علي بن عمر.

أصل سلفه من بلدة "طولقة" بالجنوب الجزائري، انتقل والده منها إلى "نفطة" بالجنوب الغربي التونسي في إقليم الجريد، وهي غير بعيدة عن الحدود الجزائرية، حل بها إبان الاحتلال الفرنسي سنة 1843 صحبة صهره الشيخ مصطفى بن عزوز، الضليع من العلوم الشرعية واللغوية والأدبية، الكاتب الشاعر، السياسي، الصحفي.

ولد بـ"نفطة" يوم (26 رجب/ 23 جويلية)، وبلدة "نفطة" واحة جميلة حبتها الطبيعة برونق أخّاذ يثير الخيال، وينبه الشاعرية، قال المترجم في ديوانه "خواطر حياة":"نشأت في بلدة من بلاد الجريد بالقطر التونسي، يقال لها: "نفطة"، وكان للأدب المنظوم والمنثور في هذه البلدة نفحات

(1) ترجمة الإمام محمد الخضر حسين في كتاب "تراجم المؤلفين التونسيين" للمحقق والأديب الأستاذ محمد محفوظ - تونس. طبعة 1982، بيروت.

(2)

اسمه في الأصل: الأخضر، ثم حوره إلى الخضر، ووالده اسمه الحسين، ولما استقر بالمشرق، جرى على عادتهم في حذف كلمة ابن قبل اسم الأب، وحذف حرف التعريف من اسم والده.

ص: 194

تهب في مجالس علمائها، وكان حولي من أقاربي وغيرهم من يقول الشعر، فتذوقت طعم الأدب من أول نشأتي، وحاولت وأنا في سن الثانية عشرة نظم الشعر".

وهذه البلدة ذات المناخ الشاعري الملهم، أخرجت شعراء وعلماء على مدار العصور، وفي بعض العصور ازدهرت فيها الحركة العلمية ازدهاراً كبيراً حتى سميت بالكوفة الصغرى.

وفي سنة (1306 هـ / 1888) انتقل مع أسرته إلى العاصمة حيث أتم تعليمه الابتدائي؛ أي: حفظ القرآن، ثم التحق بجامع الزيتونة في العام الموالي، أخذ عن أعلامه؛ كسالم بوحاجب، وعمر بن الشيخ، ومحمد النجار، وغيرهم، وتخرج منه محرزاً على شهادة التطويع في سنة (1316/ 1898)، وفي العام الموالي لتخرجه درّس متطوعاً بجامع الزيتونة، بعد أن قام برحلة إلى ليبيا.

وكانت عنايته بالأدب واللغة في عهد الطلب بجامع الزيتونة أكثر من غيرهما. وكان ينظم الشعر في بعض المناسبات؛ كتهنئة بعض شيوخه عند إتمام دراسة بعض الكتب، وهو تقليد شائع بجامع الزيتونة في ذلك العهد وما سبقه.

قال في مقدمة ديوانه "خواطر الحياة": "انتقلت إلى مدينة تونس، والتحقت بطلاب العلم بجامع الزيتونة، وكان من أساتذة الجامع، ومن هم في الطبقة العالية من طلاب العلم من أولعوا بالأدب والتنافس في صناعة القريض إلى شأو غير قريب، فاقتفيت أثرهم، وكنت أنظم قصائد تهنئة لبعض أساتذتي عند إتمام دراسة بعض الكتب".

ص: 195

وفي سنة (1322 - 1904) أصدر مجلة "السعادة العظمى" وهي أول مجلة صدرت بتونس، صدرت نصف شهرية، واستمرت قرابة العام، وأعدادها 21 عدداً، وكان ظهور هذه المجلة حدثاً فكرياً بارزاً اهتزّ له رجال العالم المحبين للأدب والإصلاح والشباب، وساء المتزمتين ضيقي الأفق، عبّاد القديم؛ فإن هذه المجلة بدت فيها نزعة إلى حرية النقد، ودعوة إلى احترام التفكير، وتأييد لفتح باب الاجتهاد، ففي المقال الافتتاحي الذي قدّم به المجلة يقول:"إن دعوى أن باب الاجتهاد قد أغلق هي دعوى لا تُسمع إلا إذا أيّدها دليل يوازن في قوته الدليل الذي فتح به باب الاجتهاد"، ومثل هذه الدعوى وأمثالها مما روجته مجلته، لم تكن لتلقى القبول والترحيب من وسط الجامدين دعاة التمسك بالقديم، وقامت هيئة النظارة العلمية بجامع الزيتونة (المديرة له) تطالب الحكومة بمنع صدور هذه المجلة، وتدعو إلى معارضتها ومقاومتها، وكانت بذلك مجلبة لكثير مما ناله من الاضطهاد طيلة مقامه بتونس.

وكشفت هذه المجلة عن مكانة صاحبها في النثر الفني والعلمي، واتجاهه إلى تجديد أغراض الشعر بصوغ القصائد في المعاني الاجتماعية والفلسفية، والتوجيه إلى مسالك النهضة والتحرر والتجدد.

وفي مدة تدريسه بجامع الزيتونة، درس كتاب "المثل السائر" لابن الأثير، كان درساً عظيم الصدى، ازدحم عليه المستفيدون، وحاز به شهرة ومكانة لدى الوسط العلمي، وبتوجيهه واعتنائه تأسست أول منظمة طاليية بتونس تحت إشرافه باسم:(جمعية تلامذة جامع الزيتونة) سنة (1324/ 1907).

قال الشيخ محمد الفاضل بن عاشور: "ولذلك بدا الشيخ الخضر يستهدف

ص: 196

لما استهدف له المصلحون العاملون من قبله من آثار المكائد والسعايات والدسائس، فأصبحت كل حركة تبدو من الطلبة محمولة على حسابه، ونظرته أعين المسؤولين شزراً، عندما أعلن طلبة الزيتونة الإضراب عن الدروس سنة (1328/ 1910) باعتبار كونه المسؤول عن ذلك التحرر".

وعندما تضايق المتزمتون من علماء الزيتونة ورجال المجلس الشرعي من أفكاره التحررية والإصلاحية، أبعدته الحكومة عن العاصمة، وسمته قاضياً ببنزرت سنة (1323/ 1905)، وباشر التدريس والخطابة بجامعها الكبير، وضايقته السلط الاستعمارية على أثر إلقائه محاضرة بنادي قدماء الصادقية بالعاصمة سنة 1956 بعنوان "الحرية في الإسلام"، فاستقال من خطة القضاء، وعاد للتدريس متطوعاً بجامع الزيتونة، وسمته النظارة العلمية عضواً في اللجنة المكلفة بوضع فهرس للمكتبة الصادقية (العبدلية) إحدى مكتبتي جامع الزيتونة.

واجتاز بنجاح مناظرة التدريس من الطبقة الثانية بجامع الزيتونة في سنة (1325/ 1907)، وفي العام الموالي عيّن مدرساً بالمدرسة الصادقية، وفي هذه السنة ألقى دروساً في الآداب والإنشاء في المدرسة الخلدونية.

قام بثلاث رحلات إلى الجزائر، المرة الأولى سنة 1903، والثانية في رمضان (1322/ 1904)، والثالثة سنة (1327/ 1909)، فزار عدة مدن جزائرية، وألقى فيها المحاضرات والدروس، وفي سنة (1330/ 1912) شارك في مناظرة التدريس من الطبقة الأولى، فلم ينجح لغرضين؛ لأن لجنة المناظرة آثرت أن تقدم عنيه أحد أبناء البيوت العلمية الأرستقراطية، ولأنه من دعاة التحرر والإصلاح، وهي أمور تنقمها عليه اللجنة (وأعضاؤها من رجال الشريعة)،

ص: 197

وذلك بالرغم مما أبداه من كفاءة وتفوق.

وذاق مرارة الظلم والاضطهاد، وشهوة الإيذاء والوقيعة، لا سيما وهو من أنصار الجامعة الإسلامية (الذين يؤمنون بخدمة الملة الإسلامية خدمة لا تضيق بها حدود الأوطان)، وقام برحلة استطلاعية، وسافر العام نفسه إلى إستانبول؛ حيث كان بها خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز، ومرّ بمصر والشام، ودوّن وصفاً اجتماعياً وأدبياً لهذه الرحلة نشرته جريدة "الزهرة". وعاد عن طريق البحر إلى تونس في 2 أكتوبر 1912.

وبعد عودته منع من التدريس بالمدرسة الصادقية بحجة غيابه عن افتتاح المعهد بيومين، فقرر الهجرة إلى المشرق في نفس السنة، ومعه إخوته الأربعة، من بينهم: زين العابدين، ومحمد المكي، وزار مصر والشام والحجاز، وألبانيا، وتركيا، ومعظم بلاد البلقان، ثم استقر بدمشق، وعهد إليه بالتدريس في المدرسة السلطانية إلى سنة (1336/ 1917)، وفي مدة إقامته بدمشق كتب المقالات، وألقى المحاضرات، ونشر بعض مؤلفاته.

دخل السجن بأمر من القائد التركي أحمد جمال باشا بتهمة علمه بالحركة السرية العربية المعادية للأتراك، ومكث سجيناً ستة أشهر وأربعة عشر يوماً، وخرج منه في 4 ربيع الثاني سنة (1335/ 29 جانفي 1917) بعد محاكمته وثبوت براءته، وبعد ذلك استدعي إلى إستانبول حيث سمي مفتشاً بوزارة الحربية.

ثم سافر إلى ألمانيا صحبة وفد من العلماء، من بينهم: الشيخ صالح الشريف التونسي (ت سنة 1338/ 1920) مكلفاً بمهمة من قبل الحكومة التركية، ولبث بها قرابة تسعة أشهر، تعلم أثناءها اللغة الألمانية، وتردد بين

ص: 198

برلين وإستانبول إلى أواخر الحرب العالمية الأولى، حيث أقام ببرلين مرة أخرى قرابة سبعة أشهر، ثم عاد إلى إستانبول التي سقطت بأيدي الحلفاء، فقرر العودة إلى دمشق التي أصبحت عاصمة الأمير فيصل بن الحسين، وما كاد يستقر في دمشق حتى سمي مدرساً في ثلاثة معاهد، وهي: المدرسة العثمانية، والمدرسة العسكرية، والمدرسة السلطانية، وعيّن عضواً عاملاً في إحدى لجان المجمع العلمي العربي بدمشق على أثر جلسته المنعقدة في 30 جويليه 1919. وفي منتصف عام 1920 احتل الجيش الفرنسي دمشق، فبارحها، وصار عضواً مراسلاً للمجمع العلمي، واحتفظ بهذه العضوية إلى آخر أيام حياته، وأصدرت عليه فرنسا حكماً بالإعدام غيابياً أثناء مقامه في ألمانيا، قام بتحريض المغاربة -والتونسيين منهم خاصة- على الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، فكان خروجه من دمشق فراراً من تنفيذ حكم الإعدام عليه، وتوجه إلى مصر التي له فيها أصدقاء عرفهم في دمشق وإستانبول وأوربا، وفي القاهرة سمي مصححاً بدار الكتب المصرية، وهي خطة لا تسند إلا لمن تثبت مقدرته العلمية والأدبية واللغوية، وكتب في الصحف والمجلات، وألقى المحاضرات في الجمعيات، والدروس في المساجد.

وفي سنة 1923 أسس جمعية (تعاون جاليات شمال إفريقيا)، وهدفها رفع المستوى الثقافي والاجتماعي لتلك الجاليات، وتولى رئاسة هذه الجمعية.

ولما أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتابه "الإسلام وأصول الحكم" لم تحل علاقاته بآل عبد الرازق من قولة الصدق، وبيان وجه الحق، والرد على أحد أفرادهم، ومن الهراء زعمُ بعضهم أنه ألف الكتاب خدمة لأغراض ملك مصر أحمد فؤاد الذي كان يسعى لمبايعته بمنصب الخلافة الإسلامية بعد

ص: 199

إلغائها في تركيا، وكأن علي عبد الرازق يرد عليه من طرف خفي، والحقيقة أن ما تضمنه الكتاب من آراء لا يوافق عليها أي عالم مسلم، فالرد عليه هو بيان لوجه الحق، وتبديد الشبهات، وإرضاء الضمير، لا خدمة لركاب أحمد فؤاد أو غيره من الأشخاص أو المؤسسات.

فلم تكد تهدأ العاصفة التي أثارها هذا الكتاب، حتى أصدر الدكتور طه حسين سنة 1926 كتابه في "الشعر الجاهلي" الذي أثار حملة من النقود والردودة لأنه زعم أنه يطبق منهج ديكارت على الشعر الجاهلي، وتطرق إلى إنكار نزول إبراهيم بالحجاز، فهو تكذيب صريح للقرآن؛ مما زاد اشتداد الحملة عليه، وكان من بين الذين تولوا الرد عليه المترجَم له في كتابه "نقض كتاب في: الشعر الجاهلي" ويهذين الكتابين حاز شهرة في الأوساط الأدبية والعلمية، ومنح الجنسية المصرية، واجتاز امتحان شهادة العالمية في الأزهر بتفوق؛ لأن الأزهر لا يعترف بالشهادات الزيتونية، والزيتونة لا تعترف بشهادات الأزهر، وبموجب إحرازه على شهادة العالمية صار من مدرسي الأزهر في معاهده الثانوية، ولما تولى مشيخة الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي سعى إلى تسمية المترجم أستاذاً في كليات الأزهر، وفي عام 1950 طلب قبوله عضواً في هيئة كبار العلماء، ومن شروط القبول تقديم بحث علمي ممتاز، فقدم بحثاً مطولاً عن "القياس في اللغة العربية"، فقبل بالإجماع. وواصل نشاطه في ميدان الدعوة الإسلامية، فأسس جمعية (الهداية الإسلامية) في (13 رجب سنة 1346 هـ / 16 جانفي 1928 م) لخدمة مبادئ الدين الإسلامي وأصوله، وتولى رئاسة هذه الجمعية، وإدارة مجلتها، والتحرير فيها، كما تولى رئاسة تحرير مجلة "نور الاسلام"، ومجلة "الأزهر"،

ص: 200

ولما تأسس المجمع اللغوي بالقاهرة بمرسوم من الملك أحمد فؤاد، وصدر عنه مرسوم ثان في العام الموالي في (16 جمادى الثانية 1352 هـ / 16 أكتوبر 1933 م) تم بموجبه تسمية الأعضاء العاملين بالمجمع، وكان من بينهم المترجم له.

وفي يوم (الأحد 25 ربيع الثاني سنة 1356 هـ / 4 جويليه 1937 م) سافر إلى دمشق، فأقام بها شهرين، ثم عاد إلى القاهرة يوم الاثنين غرة رجب/ 8 ديسمبر، واتصل فيها بأصدقائه من العلماء والأدباء الذين رحبوا بقدومه، وأقاموا له حفلات التكريم، وألقى محاضرة في قاعة المحاضرات بالمجمع العلمي عنوانها:(أثر الرحلة في الحياة العلمية والأدبية).

ولم يترك الاهتمام بقضايا المغرب العربي، فأسس بعد الحرب العالمية الثانية (جبهة الدفاع عن شمال أفريقيا) التي قامت بعدة أعمال لفائدة المغرب العربي، وكان من بين أعضائها: الزعيم الحبيب بورقيبة عند هجرته إلى مصر، ومحيي الدين القليبي عند زيارته الأولى لمصر.

وقدم المساعدة اللازمة للمجاهد الأكبر الأستاذ الحبيب بورقيبة عند قدومه إلى مصر في مارس 1946 الذي أوقفته السُّلَط المصرية للتثبت من هويته قبل دخوله القاهرة، وزار الزعيم المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي في السفينة الراسية في ميناء السويس.

وعندما قامت الثورة المصرية سمي شيخاً للجامع الأزهر في يوم الأربعاء (27 ذي الحجة سنة 1371 هـ / 7 سبتمبر 1952 م)، وكان قد أحيل على التقاعد منذ سنة 1950، ولما نحي اللواء محمد نجيب عن الحكم، ونفي إلى مكان مجهول في 20 أوت 1953، وكثرت أمراضه الجسمية، وهزلت صحته؛

ص: 201

مما عاقته عن القيام بمسؤولياته بما يرضي ضميره، وولوعه بالمطالعة، كل هذا دعاه إلى الاستقالة من منصب مشيخة الأزهر في (2 جمادى الأولى سنة 1373 هـ / 8 جانفي 1954 م)، وعقب الاستقالة قام برحلة إلى دمشق زار فيها شقيقه الشيخ زين العابدين، ثم عاد إلى القاهرة إلى أن أدركته الوفاة ظهر يوم الأحد (13 رجب 1377 هـ / 12 فيفري 1958 م).

وترك وصية خطيّة طلب فيها دفنه بمقبرة آل تيمور حذو صديقه العلامة أحمد تيمور باشا الذي وجد منه المساعدة والعون عند قدومه إلى مصر سنة 1920، كما وجد منه النصح والتقدير خلال بقية السنوات، وقد طلب فخامة رئيس الجمهورية التونسية الرئيس الحبيب بورقيبة من الأستاذ الطيب السحباني سفير تونس بمصر السعي لدى عائلة الفقيد للموافقة على دفنه في أرض الوطن، ولم تقع الموافقة عليه بالإيجاب لوصيته الخطية السالفة الذكر، ومات عن غير عقب، وترك مكتبة نفيسة أهداها إلى زوجته.

* مؤلفاته:

1 -

"أسرار التنزيل"، وهي تفسير للفاتحة، وسورة البقرة، وبعض آيات من سورة آل عمران، والحج، والأنفال، ويونس.

2 -

"بلاغة القرآن"، أشرف على طبعه الأستاذ علي الرضا الحسيني ابن شقيقه زين العابدين، وطبع بالمطبعة التعاونية بدمشق سنة 1979، ص 216، جمعه مما نشر في المجلات.

3 -

"تونس وجامع الزيتونة"، أشرف على طبعه حفيده للأخ، المطبعة التعاونية بدمشق 1971، جمعه مما سبق نشره في المجلات أو الرسائل الصغيرة، وله علاقة بتونس، وخاصة تراجم العلماء المشهورين أمثال: ابن

ص: 202

خلدون، وأسد بن الفرات، وعمر بن الشيخ، ومحمود قابادو.

4 -

"خواطر الحياة": (ديوان شعر ضخم) ط سنة (1366/ 1946)، وعلق عليه في الطبعة الثانية الشيخ محمد علي النجار الأستاذ بكلية اللغة العربية بالأزهر، نشرته المطبعة السلفية ومكتبتها لصاحبها الأستاذ محب الدين الخطيب أحد أصدقائه سنة (1373/ 1953).

5 -

"الخيال في الشعر العربي"، نشره أولاً في شكل مقالات بمجلة "المنار" خلال سنة 1921، ط، بالمطبعة الرحمانية، 41 ص، وط للمرة الثانية بالمطبعة السلفية (1346/ 1928)، -84 ص، ثم أعاد طبعه الأستاذ علي الرضا الحسيني بالمطبعة التعاونية بدمشق 1972، 203 ص، وأضاف إليه:"الخطابة عند العرب"، و"محاضرات في البلاغة والآداب".

6 -

"الحرية في الإسلام"، محاضرة ألقاها بنادي جمعية قدماء تلامذة الصادقية مساء يوم السبت 17 ربيع الثاني 1324، وهو يومئذٍ قاض ببنزرت، المطبعة التونسية 1959، 61 ص، وطبعت طبعة ثانية بالأوفيست، تونس 1972.

7 -

"رسائل الإصلاح"، جمع فيها جملة كثيرة من بحوثه في الدين، والأخلاق، والتراجم، والتاريخ، واللغة، وقد جعلها أربعة أقسام هي:

1 -

الأخلاق والاجتماعيات.

2 -

قسم المباحث الدينية في أصول الدين، وأصول الفقه، والأحكام العملية.

3 -

قسم السيرة النبوية، وتراجم الرجال، والبحوث التاريخية.

4 -

قسم مباحث اللغة والآداب، وقد نشر منه في حياته ثلاثة أجزاء

ص: 203

تدور كلها على القسمين الأولين، ط، الجزء الأول بمطبعة الهداية الإسلامية، القاهرة (1358/ 1938)، ص 44 - 240، وقد أعاد طبع هذا الجزء حفيده للأخ بدمشق 1971 بعد الحذف، وإضافة موضوعات من الجزء الثاني، 240 ص.

الجزء الثاني بمطبعة حليم بالقاهرة بلا تاريخ، ص 231، وقد نقل الحفيد موضوع:(أديان العرب قبل الإسلام) إلى كتاب "محمد رسول الله"، كما نقل موضوع: التصوف إلى كتاب "الشريعة الإسلامية".

8 -

"الدعوة إلى الإصلاح"، رسالة طبعت على نفقة شقيقه السيد محمد العروسي بن الحسين، بالمطبعة العربية بتونس (1328/ 1910)، 41 ص، وطبعت للمرة الثانية بالمطبعة السلفية (1346/ 1921)، 84 ص بعد أن أدخل عليها تنقيحاً في بعض الفقرات والفصول، وتحويراً في التبويب.

9 -

"الشريعة الإسلامية"، فيه معظم الجزء الثالث من "رسائل الإصلاح" في طبعتها الأولى، وأضاف إليها حفيده مقالات نشرت في مجلة "نور الإسلام"، ومجلة "الهداية الإسلامية"، وأشار لها في الحواشي، المطبعة التعاونية بدمشق 1971، 222 ص.

10 -

"طائفة القاديانية"، المطبعة السلفية سنة (1351/ 1932)، 40 ص، وطبعت للمرة الثانية ضمن رسائل الإصلاح، ج 3، ص 107 - 125.

11 -

"علماء الإسلام في الأندلس"، محاضرة ألقاها في نادي جمعية الشبان المسلمين باسم جمعية الهداية الإسلامية مساء يوم الأربعاء 28 ذي الحجة (1346/ 1927)، وأردفها بخطبة في موضوع:(لماذا نحتفل بذكرى الهجرة النبوية؟) ألقاها في النادي نفسه في غرة محرم 1347، طبعت بالمطبعة السلفية (1357/ 1928)، 40 ص.

ص: 204

12 -

"القياس في اللغة العربية"، لما درّس المؤلف كتاب "مغني اللبيب" بالمدرسة السلطانية بدمشق تجمعت لديه كثير من الآراء عن القياس في اللغة العربية قدمها إلى تلاميذه، وناقشها مع بعض أصدقائه من العلماء، وقد اقترح عليه بعضهم، ومنهم: الشيخ محمد بهجة البيطار عضو المجمع العربي بدمشق جمع هذه الآراء في كتاب يساعد قراء العربية على معرفة هذا الموضوع الهام، فكتب بحثاً في القياس في اللغة نشره تباعاً في مجلة "المنار" سنة 1922، ثم نشره في كتاب خاص في 127 ص، وطبع بالمطبعة السلفية (1353/ 1934)، والطبعة الثانية نشرها حفيده ضمن كتاب "دراسات في العربية وتاريخها"(ص 5 - 112)، دمشق 1965، ثم إنه نقحه وجوّده وقدمه إلى هيئة كبار العلماء، فقبلته بالإجماع، وأصبح عضواً فيها سنة 1950، ومما نشره وغلق عليه كتاب "الموافقات" للشاطبي، وعليه تعليقاته، وطبع بالمطبعة السلفية سنة (1341/ 1923) في أربعة أجزاء.

13 -

"نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، المطبعة السلفية (1344/ 1925)، 44 ص 7 + 242.

14 -

"نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، المطبعة السلفية (1345/ 1926)، 7 + 364.

* المراجع:

- "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر"(2/ 193 - 230).

- "أركان النهضة الأدبية في تونس"(39 - 43).

- "أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث" لأحمد تيمور (القاهرة 1967)(378 - 381).

ص: 205

- "محمد الخضر حسين: حياته، وآثاره" لمحمد مواعدة (تونس 1974).

- "شيخ الأزهر الأسبق" دراسة مختارات سلسلة أعلامنا (4) لأبي القاسم محمد كرو، تونس 1973.

- "معجم المطبوعات"(1652).

- "مجمل تاريخ الأدب التونسي"(333 - 337).

- "معجم المؤلفين"(2/ 279 - 280)، وانظر عنه، وعن مجلة "السعادة العظمى":

ص: 206

محمد الخضر حسين (1)(1293 - 1377 هـ)(1876 - 1958 م)

خير الدين الزركلي

محمد الخضر بن الحسين بن علي بن عمر الحسني التونسي: عالم إسلامي، أديب، باحث، يقول الشعر، من أعضاء المجمعين العربيين بدمشق والقاهرة، وممن تولوا مشيخة الأزهر.

ولد في "نفطة"(من بلاد تونس)، وانتقل إلى تونس مع أبيه (سنة 1306) وتخرج بجامع الزيتونة. ودرّس فيه. وأنشأ مجلة "السعادة العظمى" سنة (1321 - 23)، وولي قضاء "بنزرت"(1323)، واستعفى، وعاد إلى التدريس بالزيتونة (سنة 24)، وعمل في لجنة تنظيم المكتبتين: العبدلية، والزيتونة. وزار الجزائر ثلاث مرات، ويقال: أصله منها. ورحل إلى دمشق (سنة 30)، ومنها إلى الآستانة. وعاد إلى تونس (31)، فكان من أعضاء (لجنة التاريخ التونسي)، وانتقل إلى المشرق، فاستقر في دمشق مدرساً في المدرسة السلطانية قبل الحرب العالمية الأولى.

وانتدبته الحكومة العثمانية في خلال تلك الحرب للسفر إلى "برلين" مع الشيخ عبد العزيز جاويش وآخرين، فنشر بعد عودته إلى دمشق سلسلة

(1) ترجمة الإمام محمد الخضر حسين في كتاب الموسوعة "الأعلام" للأستاذ الأديب والشاعر خير الدين الزركلي - طبعة 1990، بيروت.

ص: 207

من أخبار رحلته، في جريدة "المقتبس" الدمشقية.

ولما احتل الفرنسيون سورية، انتقل إلى القاهرة (1922)، وعمل مصححًا في دار الكتب خمس سنوات. وتقدم لامتحان (العالمية) الأزهرية، فنال شهادتها. ودرّس في الأزهر. وأنشأ جمعية الهداية الإسلامية، وتولى رئاستها، وتحرير مجلتها. وترأس تحرير مجلة "نور الإسلام" الأزهرية، ومجلة "لواء الإسلام"، ثم كان من (هيئة كبار العلماء)، وعُين شيخاً للأزهر (أواخر 1371)، واستقال (73)، وتوفي بالقاهرة. ودفن بوصية منه في تربة صديقه أحمد تيمور (باشا).

وكان هادئ الطبع، وقوراً، خص قسماً كبيراً من وقته لمقاومة الاستعمار، وانتخب رئيساً لجبهة الدفاع عن شمال إفريقية. في مصر. وله تًاليف، منها "حياة اللغة العربية- ط "، و "الخيال في الشعر العربي- ط "، و"مناهج الشرف- ط "، و"طائفة القاديانية- ط "، و"مدارك الشريعة الإسلامية- ط "، و"الحرية في الإسلام- ط "، محاضرة، و"نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم- ط "، و"نقض كتاب في الشعر الجاهلي- ط "، و "خواطر الحياة- ط " ديوان شعره، و"بلاغة القرآن- ط "، و"محمد رسول الله- ط "، و"السعادة العظمى- ط "، و"تونس وجامع الزيتونة-"(1).

(1) من ترجمة له بقلمه وبخطه، عندي. وجريدة "الفتح" 17 ذي القعدة 1350، و"الأهرام" 21/ 9/ 52، ثم 3/ 2/ 58، ومجلة "الحج":(12: 66)، و"معجم المطبوعات"، 1652 ومجلة "المجمع العلمي العربي" (81: 18)، والأزهر في ألف عام (1: 165، 195)، و "مجمع اللغة" (14: 323 و 4: 232 - 33)، و"مذكرات المؤلف".

ص: 208

محمد الخضر حسين شيخ الأزهر (1)(1293 - 1377 هـ)(1873 - 1958 م)

محمد مطيع الحافظ، ونزار أباظة

محمد الخضر، أو الأخضر (2) بن الحسين الشريف التونسي.

ولد ببلدة "نفطة"(3) في (26 رجب 1293 هـ، الموافق 21 تموز 1873 م) لأسرة تهتم بالعلم، وتتصف بالفضل، وكان والده وجدّه من كبار العلماء، واشتهر خاله محمد المكي بن عزوز في تونس والجزائر وإستانبول، ويرجع أصل أسرته إلى أسرة العمري من قرية "طولقة"، إحدى واحات الجنوب الجزائري.

نشأ في بلدة "نفطة" بجو أسرته العلمي، فحفظ القرآن الكريم، ثم رحل به والده في ربيع الأول من سنة 1306 إلى تونس العاصمة لتلقي العلوم بجامع الزيتونة، وصحب معه إخوته: محمد الجنيدي، ومحمد العروسي،

(1) ترجمة الإمام محمد الخضر حسين من كتاب "تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر"(الجزء الثالث) للأستاذين: محمد مطيع الحافظ، ونزار أباظة، بدمشق - الطبعة 1991 م دمشق.

(2)

أبدلت الخضر بالأخضر منذ طفولته للاختصار.

(3)

في جنوب تونس، وتسمى عندهم: الكوفة الصغرى.

ص: 209

ومحمد المكي (على اسم خاله)، وزين العابدين. وفي تونس التحق بجامع الزيتونة سنة (1307/ 1887)، والتقى بالطبقة العالية من علمائه، وأشهرهم خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز (ت 1333)، والشيخ عمر بن الشيخ (ت 1329)، والشيخ محمد النجار (ت 1329)، وبه تأثر في الاتجاه المحافظ، والشيخ سالم بو حاجب (ت 1343)، وتأثر به في الاتجاه الإصلاحي. والشيخ مصطفى رضوان، والشيخ إسماعيل الصفايحي. وقد بقيت صلته بشيوخه هؤلاء حتى سفره إلى المشرق.

واصل الشيخ دراسته في الزيتونة باهتمام، حتى حصل على شهادة التطويع منه سنة 1316، وكان قبل انتهاء دراسته طُلب للمشاركة في بعض القضايا العلمية، فأبى.

ثم حاول القيام برحلة إلى الشرق عن طريق ليبيا، فخرج سنة 1317، لكنه لم يجاوز حدود مدينة طرابلس، فرجع إلى تونس. وبعد سنوات قام بزيارة إلى الجزائر دفعه إليها الصلة بين أصله الجزائري، وميله إلى الرحلة للعلم، فوصلها سنة 1321. ثم قام برحلة إليها ثانية في السنة التالية. وهناك تعرف على عدد كبير من الشيوخ؛ كالشيخ محمد بن شنب، والشيخ عبد القادر المجاوي. وفي هذه المدة أصدر مجلة "السعادة العظمى"، التي توقفت سنة (1323 هـ / 1905 م).

تولى إثر ذلك القضاء في "بنزرت" بتأثير من الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وبقي فيه أشهراً قليلة، قدّم بعدها استقالته، ورجع إلى بلده تونس سنة 1324؛ ليباشر التدريس بجامع الزيتونة، إضافة إلى عمله فيه بتنظيم المكتبة.

ص: 210

وفي سنة 1326 عيّن مدرساً بالصادقية، وكلف بالخطابة في جامع الخلدونية.

ولما قامت الحرب بين الطليان والدولة العثمانية، كان من أعظم الدعاة للوقوف في وجه العدو، ونشر في جريدته ما يحمّس ضدّ الاحتلال الإيطالي.

رغب بالرحلة إلى الشرق، واشتاق إليه إثر انتقال إخوته الثلاثة إلى دمشق، واستقرارهم بها، فرحل سنة 1330 قاصداً بلاد الشام. واستغرقت رحلته أربعة أشهر وستة أيام، زار خلالها جزيرة مالطة، والإسكندرية، ثم القاهرة، واجتمع فيها بكبار العلماء، وألقى درساً في الأزهر، ثم بورسعيد، ويافا، وحيفا، ودخل دمشق أول رمضان سنة (1330/ 31 تموز 1912)، وفيها التقي بإخوته، واستقبله علماء دمشق ووجهاؤها استقبالاً حاراً، وألقى دروساً في الجامع الأموي، وبقي فيها شهر رمضان جممله. وزار خلال ذلك المؤسسات الثقافية، ثم غادرها في 2 شوال، وقصد بيروت، فالتقى فيها ببعض رجالات الفكر؛ كالسيد شفيق المؤيد. ومنها سافر إلى إستانبول، لزيارة خاله وأستاذه الشيخ محمد المكي بن عزّوز. وبقي في تركيا ما يقارب الشهرين، واتصل بكبار علمائها صحبة خاله. ثم غادرها إلى تونس، حيث وجد قراراً بفصله ينتظره هناك لسبب سياسي، لما قام به من أعمال تمسّ النظام الفرنسي الحاكم بتونس، فواصل على الأثر نشاطه العلمي، والتدريس في نادي جمعية قدماء الصادقية، وغيره، ونشر حديثاً ببعض الصحف عن رحلته.

بعد ذلك رغب بالهجرة إلى الشام، فودع زوجته سنة (1331/ 1912)، وقد رفض أهلها أن ترافقه، فحزن على فراقها، وأنشد:

جارتي منذ ضحوة العمر عذراً

لأخي خطرة نأى عنه بيتك

ص: 211

قال يوم الوداع وهو يعاني

سكرة البين: ليتني ما عرفتك

قصد أول أمره مصر، فاتصل بعدد من علمائها؛ كالشيخ رشيد رضا، ثم انتقل إلى دمشق، فأقام بها مدة يسيرة، سافر بعدها إلى الحجاز، ثم ألبانيا، والآستانة، ثم رجع إلى دمشق، واستقرّ بها مع إخوته في حيّ الميدان.

بدأ دروسه بدمشق بالجامع الأموي، والتدريس بالمدرسة السلطانية، فقدره أهل العلم، وتوثقت الصداقة بينه وبين الشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ جمال الدين القاسمي. وبعد وفاة هذا الأخير قرأ عليه طلابه أمهات الكتب؛ كـ"المستصفى في أصول الفقه" للغزالي، و"بداية المجتهد" في علم الخلاف لابن رشد، و"المغني في النحو" لابن هشام، و"الكامل في الأدب" للمبرد، و"صحيح مسلم"، فكان في ذلك كله إماماً مستقلاً مستدلاً.

شارك في الكتابة بالصحف والمجلات، وكان له اهتمام واضح بالمشكلة العربية التركية، ودعا للألفة بين العرب والأتراك في ظل الخلافة العثمانية. وكان جلّ اهتمامه بالعلم والعلماء بدمشق. قال عنها:"نزلت دمشق، وللشعر فيها سوق غير كاسدة، ولكني آثرت أن أصرف القريحة في البحث العلمي، أو في العمل للقضية الإسلامية بقدر ما أستطيع"(1).

وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، وتولى جمال باشا السفاح حكم سورية، عمل الشيخ مع عدد من المفكرين ضدّ حكمه الجائر، فسجن يوم 15 آب 1916، متهماً بالتستر على المتآمرين، وحوكم، ثم أطلق سراحه، بعد أن بقي في السجن حتى يوم 29 كانون الثاني 1917. وحزّ في نفسه وهو سجين أن يمنع من المطالعة والكتابة، وقال في هذا:

(1)"خواطر الحياة"(ص 5).

ص: 212

غلّ ذا الحبسُ يدي عن قلم

كان لا يصحو عن الطرس فناما

هل يذود الغمض من مقلته

أو يلاقي بعده الموت الزؤاما

أنا لولا همة تحدو إلى

خدمة الإسلام آثرت الحِماما

ليست الدنيا وما يقسم من

زهرها إلا سراباً أو جَهاما

وعاد بعد سجنه إلى التدريس في المدرسة السلطانية، والجامع الأموي.

ثم استدعي للعمل في الآستانة منشئاً عربياً بوزارة الحربية، بسعي من الشيخ حسن ظافر، وعلي باش حامبة الزعيم التونسي؛ ليتولى الإرشاد في جامع الفاتح.

ولما استقر في الآستانة، كان خاله قد توفي سنة 1334، فباشر عمله، ثم كلف بمهمة في ألمانيا صحبةَ عدد من العلماء؛ كالشيخ صالح الشريف، وإسماعيل الصفائحي التونسيينِ، وبقي هناك تسعة أشهر على اتصال مع النازحين من ظلم الفرنسيين إلى ألمانيا. وتعلم خلال شهر اللغة الألمانية. ثم رجع إلى الآستانة، فبقي فيها مدة قليلة، عاد بعدئذٍ منها إلى "برلين" سنة 1337، ومكث بها سبعة أشهر حتى انتهت الحرب العالمية، وحين هزمت تركيا، رجع إلى الآستانة، ومنها إلى دمشق، التي دخلتها الجيوش العربية بقيادة الأمير فيصل.

وفي دمشق تابع التدريس بالمدرسة السلطانية وغيرها. وعندما تأسس المجمع العربي سنة 1919، وعقد جلسته الأولى في 30 تموز من هذه السنة، وقع تعيينه عضو شرف (1).

(1)"تاريخ المجمع العلمي العربي"(ص 10).

ص: 213

وبعد معركة ميسلون سنة (1339/ 1920) رحل إلى مصر هروباً من الحكم الفرنسي، الذي لاحقه خفية في تونس، ثم حكم عليه بالإعدام غيابيًا؛ لاتهامه إياه بالمشاركة بتحريض المغاربة في ألمانيا وتركيا ضدّ السلطة الفرنسية في شمال إفريقية، فأحزن سفره أصدقاءه ومحبيه في الشام، ومنهم: الأستاذ الشاعر خليل مردم، الذي وجه إليه -فيما يقول بعد- رسالة رقيقة تدل على مكانته عند الشاميين، وصداقته لهم، وفيها قوله:

إنّ خير ما أثبته في سجل حياتي، وأشكر الله عليه: معرفتي للأستاذ الجليل السيد محمد الخضر التونسي، وإخوانه الفضلاء، وصحبتي لهم. وقد صحبت الأستاذ عدة سنين، رأيته فيها الإنسان الكامل، الذي لا تغيره الأحداث والطوارئ، فما زلت أغبط نفسي على ظفرها بهذا الكنز الثمين، حتى فاجأني خبر رحلته عن هذه الديار، فتراءت لي حقيقة المثل:"بقدر سرور التواصل تكون حسرة التفاضل".

وأتبع الشاعر رسالته بقصيدة سماها: الرتيمة (1)، ومطلعها:

طيفٌ للمياء ما ينفك يبعث لي

في آخر الليل إن هوّمت أشجانا

يغري الدموع بأجفان مسهَّدَةٍ

من حيث يوري على الأحشاء نيرانا

فلو تراني وأمر الليل مجتمع

مشتت الرأي إثر الطيف حيرانا

حسبتني مطفلاً قد ضلّ واحدُها

عنها فطبقت الآفاق تحنانا

إلى أن قال:

كاد أقضي جَوًى والدار جامعة

فكيف حالي إذا وقت النوى حانا؟!

(1) الرتيمة: خيط يعقد في الإصبع للتذكير. "المعجم الوسيط".

ص: 214

فأجابه الشيخ بقصيدة عنوانها: (الصداقة هي الرتيمة)، ومطلعها:

ما النجم تجري به الأفلاك غَسَقٍ

كالدر تقذفه الأقلام في نَسَقِ

ومنها قوله:

هي الرتيمة فيما قال مبدعها

وهل يغيب السنا عن طلعة الفلق

إني على ثقة من أنّ ذكرك لا

ينفك مرتسماً في النفس كالُخُلق

وكيف أنسى (خليلًا) قد تضوَّع في

حشاشتي ودُّه كالعنبر العَبِقِ

ولم ينس الشيخ بقية أصدقائه العلماء في دمشق، كما أنه لم ينس ما وجده في دمشق من تقدير واحترام، جعلاه يذكر تلك المرحلة من حياته في كل مناسبة، ويميزها عن بقية مراحل حياته. ويصف رحلته إلى الشام. فيقول:"هذه الأوطان الثلاثة: (تونس، وسورية، ومصر) التي قضيت بها عمراً غير قصير، وإذا كان فضل العلماء والمحققين، والأدباء المستقيمين، والرؤساء الراشدين قد غطى في تونس ومصر على ما أشرت إليه من مناوأة بعض الغافلين أو الجاحدين حتى أنسى، ولم تبلغ أن يكون لها في حياتي الأدبية أثر، فإن الأعوام التي قضيتها بين أهل دمشق، لم أشعر فيها -على ما أذكر- إلا برقة العطف، وحسن اللقاء أينما كنت، فإذا حننت إلى دمشق، فإنما أحن إلى الخلق الكريم، والأدب الأخاذ بالألباب، وقد شهد لها بهذه المزايا كثير من نزلائها العلماء والأدباء من قبلي".

ولما استقر في القاهرة بعيداً عن أهله وأقاربه وأصدقائه ومحبيه، تقدم إلى امتحان العالمية الأزهرية، فنال شهادتها، واتصل ببعض المصريين الذين عرفهم في زياراته السابقة لمصر، وتعرف إلى العلامة أحمد تيمور، وقدّر

ص: 215

مكانته وقيمته العلمية، وساعده هذا الأخير على الاستقرار، وكان بينهما محبة وود.

عمل الشيخ مصححاً بدار الكتب المصرية، واشتغل بالفهارس، إضافة إلى الدروس والمحاضرات التي كان يلقيها في المساجد، والبحوث والمقالات التي يكتبها في الصحف والمجلات.

أسس محمد الخضر في مصر (جمعية تعاون جاليات إفريقية الشمالية)(1343/ 1924)، ضمت أعضاء من تونس والجزائر والمغرب وليبيا. وكانت مهمتها رفع مستوى هذه الجاليات ثقافياً واجتماعياً. كما أسس (جمعية الهداية الإسلامية) سنة (1346/ 1927). وكان من أعضائها الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر، والشيخ عبد الحليم النجار. وكانت تهدف إلى تمتين الصلات بين الشعوب الإسلامية، والتعريف بحقائق الإسلام، ورفع شأن اللغة العربية، عن طريق إلقاء المحاضرات، وإصدار المجلة المعروفة باسم هذه الجمعية. وقد استمرت هذه المجلة حتى الحرب العالمية الثانية.

وظهر تقدير علماء مصر للخضر حسين عندما وقع الاختيار عليه ليقوم بالتدريس في قسم التخصيص بالجامع الأزهر سنة (1346 هـ / 1927 م).

وعندما أسندت مشيخة الأزهر إلى الشيخ محمد الأحمدي الظواهري (ت 1944)، اهتم بمشروع مجلة دينية، فصدرت مجلة "نور الإسلام " التي تمثل الجامع الأزهر، وتولى إدارتها عبد العزيز محمد، ورئاسة تحريرها محمد الخضر حسين. إضافة إلى الإشراف العلمي عليها. وهو الذي كتب افتتاحية العدد الأول الذي صدر في المحرم من سنة 1349 هـ.

ثم ترأس الشيخ تحرير مجلة "لواء الاسلام"، وكان من هيئة كبار العلماء.

ص: 216

وعندما أنشئ مجمع فؤاد الأول في القاهرة مشة (1351/ 1932)، كان محمد الخضر من بين الأعضاء الأوائل، الذين صدر مرسوم بتعيينهم سنة (1352/ 1933)، وكان له نشاطه البارز في أعمال المجمع العلمية.

طان خلال حياته في مصر يتلهف إلى زيارة دمشق، ويحنّ إليها في كل مناسبة، وهو القائل عنها:

أحنّ إلى لياليها كصبٍّ

يحنّ إلى ليالي الرقمتينِ

ومطمح همتي في أن أراها

تسامي في علاها الفرقدينِ

واستجابة لهذا الشوق، وتلبية لرغبة أسرته، سافر إلى دمشق في 25 ربيع الثاني سنة (1356/ 1937)، وأقام بها شهرين، وكتب في مجلة "الهداية الإسلامي" حديثاً عن هذه الرحلة، تكلم فيه عن اجتماعه بالعلماء الشاميين، واستقبالهم له في عدد من حفلات التكريم، التي كانت تقام له (1).

وألقى بدمشق في بهو المجمع العلمي العربي محاضرة عنوانها: (أثر الرحلة في الحياة العلمية والأدبية)(2)، ختمها بقصيدة مطلعها (3):

زارها بعد نوى طال مداها

فشفى قلباً مجداً في هواها

ومنها قوله:

راحَ نشوانَ ولا راح سوى

أن رأى الشام وحيّاه شذاها

نظرة في ساحها تُذْكره

كيف كان العيش يحلو في رباها

(1) العددان 5، 6 من المجلد العاشر.

(2)

مجلة "مجمع اللغة العربية"(15/ 285).

(3)

ديوان "خواطر الحياة".

ص: 217

ما شكا فيها اغتراباً وإذا

حدثته النفس بالشكوى نهاها

ثم يقول:

فهنا قامت نوادي فتية

تبلغ النفسُ بلقياهم مناها

أدب يزهو كزهر عطرٍ

أرشفته السحبُ من خمر نداها

ملؤوا جلق أنساً فأرى

ليلها طلقَ المحيا كضحاها

شدّ ما لاقوا خطوباً فانتضوا

مرهفاتِ العزم طعناً في لَهاها

وعقّب على المحاضرة الشيخ محمد بهجة البيطار، عضو المجمع، فألقى كلمة تحدث فيها عن الشيخ محمد الخضر، وأثنى عليه.

وزار محمد الخضر دمشق مرة أخرى سنة (1363/ 1943)، فاحتفى به أهلها، وعند وداعه أقاموا له حفلًا ضمّ رجالات النهضة الإصلاحية، وألقى هو قصيدة مطلعها:

ولدتك تبغي في الحياة أنيساً

يرعى عقولاً أو يقود خميسا

ولربَّ أمٍّ أملت في طفلها

همم الملوك فقام يحدو العيسا

وعند مغادرته دمشق، وجّه رسالة إلى علمائها وأدبائها، شكر لهم فيها بقوله:"ما أبهج أياماً قضيتها في ربوع دمشق. وما بهجة الأيام إلا أن تلقى وجوهاً باسمة، وأنظارًا سامية، ومعارف زاهرة، وآداباً زاهرة، وغيرة على الكرامة ملتهبة".

فكان حنينه إلى دمشق لا ينقضي، ولا يزال ينشد شعره يتغنى بها دوماً، ومن ذلك قوله يخاطب شقيقه الشيخ زين العابدين، وقد دعاه لزيارة دمشق والتمتع بربيعها:

ص: 218

دعوتَ إلى دمشق وفي فؤادي

لها شوق أحر من الهجير

تقول: حنا الربيع على رباها

وحاك طنافسَ الزهر النضير

وهب نسيمها الفياح يُهدي

إلى أرجائها أزكى عبير

هلم نُعد بها عهداً مليئاً

بما نهواه من عيش غرير

أثرت بمهجتي ذكرى ليالٍ

قضيناها بدمر في حبور

وكان الشيخ محمد الخضر متفتحاً للقاء الشخصيات المهمة، يزورها، ويأنس بها، ويودها. وقد زار الأمير محمد عبد الكريم الخطابي (1) عندما رست باخرته بميناء السويس في منتصف ليلة السبت 11 رجب (1366/ 1946)، وقال بعد عودته من زيارته:

قلت للشرق وقد قام على

قدم يعرض أرباب المزايا

أرني طلعة شهم ينتضي

سيفه العضب ولا يخشى المنايا

(1) زعيم ثورة الريف بالمغرب ضد الاحتلال الإسباني، وقدر جيشه بمئة ألف، وأنشأ جمهورية الريف. وخاف الفرنسيون امتداد الثورة إلى داخل المغرب، فحالفوا الإسبان، وأطبقت عليه الدولتان، فاستسلم مضطراً إلى الفرنسيين في 12 ذي القعدة (1344/ 1925) بعد أن وعدوه بإطلاق سراحه، ولكنهم غدروا به، فنفوه مع أخ له وبعض أقربائهما إلى جزيرة "رينيون" في بحر الهند شرق إفريقية؛ حيث مكثوا عشرين عاماً، ثم صدر الأمر بنقلهم إلى فرنسا سنة (1366/ 1946)، فلما بلغوا السويس، كان شباب المغاربة قد هيؤوا لهم أسباب النزول من الباخرة، فنزلوا واستقروا في القاهرة، وبها توفي الخطابي بالسكتة القلبية سنة (1382/ 1926). "الأعلام"(6/ 216).

ص: 219

أرنيها إنني من أمة

تركب الهول ولا ترضى الدنايا

فأراني بطل الريف الذي

دحر الأعداء فارتدوا خزايا

غضبة حرّاء هزّته لأن

يقنذ المغرب من أيدي الرزايا

شبّ حرباً لو شددنا أزرها

لأصابت كل باغ بشظايا

وبعد قيام الثورة في مصر سنة (1372/ 1952) وقع الاختيار على الشيخ محمد الخضر ليكون شيخاً للأزهر (1)، ولم يُقبل منه اعتذاره بسبب كبر سنه، إذ أشرف على الثمانين، وكان أُحيل على التقاعد سنة (1370/ 1950). وبعد أن درّس في الأزهر عشرين سنة، وأقنعه وزير الأوقاف بالقبول، فتولى المشيخة حتى شهر جمادى الأولى من عام (1373/ 1954)، فقرر الاستقالة من المشيخة؛ لهزاله، وتأخر صحته.

عكف بعدئذٍ على كتبه في منزله، وبقي يتابع أعماله العلمية مع أعماله في مجمع اللغة العربية، واجتماعاته في جميعية كبار العلماء، وكتاباته في المجلات، ومجالساته العلمية مع أصدقائه ومحبيه. وبقي على هذه الحال حتى وافاه الأجل.

ترك محمد الخضر مؤلفات عديد: كتباً، وشعراً، ورسائل، ومحاضرات:

أ - المقالات:

- "السعادة العظمى"(مجلة صدر عددها الأول في نيسان 1904 بتونس، وأغلب مقالاتها من تحريره، واستمرت حتى كانون الثاني 1905).

(1) كانت والدته في حال صغره عند ملاطفتها له تردد الدعاء له بقولها باللهجة الشعبية: "لَخْضَر يا لَخْضَر، تكبر وتُوَلّى شيخ لَزْهَرْ".

ص: 220

- "رسائل الإصلاح"(مقالات في الأخلاق والاجتماع والدين)(1).

- "بلاغة القرآن"(2).

- "تونس وجامع الزيتونة"(3).

ب - المحاضرات:

- "الحرية في الإسلام"(4).

- "حياة اللغة العربية"(5).

- "العظمة النبوية"(6).

- "الخطابة عند العرب"(7).

- "علماء الإسلام في الأندلس"(8).

ج - الكتب:

- "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"(رد على الشيخ عبد الرازق في أسلوب الحكم في الإسلام)(9).

(1) طبعت في حياته، ثم أعيد طبعها بدمشق 1971 م.

(2)

ط دمشق 1971 م.

(3)

ط دمشق 1971 م.

(4)

ألقاها في تونس سنة 1906، وطبعت سنة 1909.

(5)

ألقاها في تونس سنة 1909، وطبعت في السنة نفسها.

(6)

ألقاها في القاهرة سنة 1928، وطبعت في السنة نفسها.

(7)

ألقاها في القاهرة سنة 1928، وطبعت في السنة نفسها.

(8)

ألقاها في القاهرة سنة 1928، وطبعت في سنة 1929.

(9)

ط 1926 م.

ص: 221

- "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"(رد على الدكتور طه حسين)(1).

- "دراسات في العربية وتاريخها"(2).

- "الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان"(3).

- "مناهج الشرف".

- "طائفة القاديانية".

- "مدارك الشريعة الإسلامية".

د - الرسائل والبحوث:

- "الدعوة إلى الإصلاح"(محاضرات في إصلاح المجتمع).

- "الخيال في الشعر العربي".

- "القياس في اللغة العربية".

- "محمد رسول الله وخاتم النبيين".

وبدأ محمد الخضر بنظم الشعر وله اثنتا عشرة سنة. ثم نضج شعره. وله ديوان سماه: "خواطر الحياة"، تناول فيه أغراضاً شعرية متنوعة، أهمها: الإخوانيات، والرثاء، والوصف، والوجدانيات، والإسلاميات، إضافة إلى ما أهمه من قضايا وطنه الكبير.

ومن ذلك قوله بمناسبة احتلال الإيطاليين لليبيا:

ردوا إلى مجدنا الذكر الذي ذهبا

يكفي مضاجعنا نوم دهى حقبا

(1) ط 1927 م.

(2)

ط 1961 دمشق.

(3)

ط 1971 دمشق.

ص: 222

ولا تعود إلى شعب مجادته

إلا إذا غامرت هماته الشهبا

حياكم الله قومي إنّ خيلكم

قد ضمّرت والسباق اليوم قد وجبا

وقال في رثاء أمه التي توفيت سنة (1335/ 1916):

قطّب الدهر فأبديتِ ابتساما

وانتضى الخطب فما قلت سلاما

لست أدري أن في كفيك يا

دهر رزءاً يملأ العين ظلاما

لست أدري أنك القاذف في

مهجتي ناراً ومُذْكيها ضِراما

فإذا العين ترى عن كثب

كيف تلقى نفسي الأخرى حِماما

يا سقاةَ التراب ماءً هاكُم

عبراتي إنّ في الجفن جماما

أفلا يبكي الفتى نازحة

سهرت من أجله الليل وناما؟!

(بنت عزوز) لقد لقنتنا

خشية الله وأن نرعى الذماما

ودرينا منك ألا نشتري

بمعالينا من الدنيا حُطاما

ودرينا كيف لا نعنو وإن

حارب الحق وإن سل الحساما

كنتِ نوراً في حمانا مثلما

مجتلى البدر إذا البدر تسامى

كان لي منك إذا أشكو النوى

كتب تحمل عطفاً وسلاماً

فادخلي في سلف قمتِ على

هديه الحق وأحسنتِ القياما

واسعدي نزلاً إلى الملقى إلى

يوم لا نخشى على الأنس انصراما

وقال عندما دخل القطار في بساتين دمشق لأول مرة سنة 1330 هـ:

لج القطار بنا والنار تسحبه

ما بين رائق أشجار وأنهار

ومن عجائب ما تدريه في سَفَر

قوم يقادون للجنات بالنار

ومن جميل شعره قوله:

ص: 223

أنشدتنا شعر لهفان على

وصل ليلى وليالي الرقمتين

قلت خلّي ذكر من قال ولم

يبرز المعنى: رأت بدراً بعيني

واذكري يوم تلاقينا على

ربوة والماء صافٍ كاللجين

غادة ترنو إلى ورد الربا

وفتى يلحظ ورد الوجنتين

وهذه الأبيات تشير إلى قول الشاعر المشهور:

رأت قمر السماء فأذكرتني

ليالي وصلها بالرقمتين

وقال:

رأت إذ كنت تخطبها غراماً

ومن بعد البناء رأت نشوزا

أكانت يوم خطبتها فتاة

وصارت إذ بنيتَ بها عجوزا؟!

هي العقبى لمن ركبت هواها

وكم أخزى الهوى عرضاً عزيزا

ولو نشدت أخا خلق مجيدٍ

بنت حرزاً لعصمتها حريزا

وقال يخاطب صلاح الدين الأيوبي

لو لم تبلّغك الحياة مناكا

لكفاك أنك قد قهرت عداكا

لك سيرة كادت تمثل للنهى

بشراً ينافس في العلا أملاكا

ومفاخر يوم استغاث الشرق من

خطر ألم ولم يُجره سواكا

أيتاح للشرق المعذب ذائد

يرمى ويبلغ في النضال مداكا؟

وقال في حب الوطن:

وطني علمتني الحب الذي

يدع القلب لدى البين عليلا

لا تلمني إن نأى بي قدر

وغدا الشرق من الغرب بديلا

ص: 224

عزمة قد أبرمتها همة

وجدت للمجد في الظعن سبيلاً

أنا لا أنسى على طول النوى

وطناً طاب مبيتاً ومقيلا

في يميني قلم لا ينثني

عن كفاح ويرى الصبر جميلا

هو ذا طاعنْ به خصمك من

قبل أن تخترط السيف الصقيلا

وعندما زار مصنع الزجاج بدمشق قال:

إن هذا الزجاج يُصنع كأساً

ليبيت الحليم منا سفيها

ويصوغ الدواة من بعد كأسٍ

ليصيرالجهول حبراً نبيها

فهو كالفيلسوف ينفث غياً

ثم يأتي بما يروق الفقيها

كان الشيخ محمد الخضر رجل علم وشريعة، متمكناً في علومه، الأمر الذي أهّله لمشيخة الأزهر، معتدلاً في أموره، غير متعصب في دينه، ولا مجدد التجديد الذي يحمّل الشريعة فوق ما تتحمل، فقد كان يتمسك بالقرآن الكريم، والسنّة المطهرة، ويعتمد عليهما الاعتماد المطلق، ويقول في هذا المجال:"يقع في وهم من لا يدري ما الإسلام: أن شريعته لا توافق حال العصر الحاضر، ويبني توهمه هذا على أن القوانين إنما تقوم على رعاية المصالح، ومصالح العصور تختلف اختلافاً كثيراً. فالدعوة إلى بقاء أحكامها نافذة، هي في نظره دعوة إلى خطة غير صالحة، ذلك ما نقصد إلى تفنيده، وتفصيل القول في دفع شبهته، حتى يثبت بالدليل المرئي رأي العين: أن الشريعة الغراء تساير كل عصر، وتحفظ مصالح كل جيل".

وكان الشيخ محمد الخضر لغوياً، مصلحاً، دؤوباً على العلم والعمل، هادئ الطبع، وقوراً، خصص قسماً كبيراً من وقته لمقاومته الاحتلال.

ص: 225

توفي بالقاهرة في 13 رجب 1377 هـ وفق 2 شباط (فبراير) 1958 م. وحضر تشييع جنازته كبار رجال الدولة، وعدد من علماء الشرق، ودفن في المقبرة التيمورية بوصية منه، حذو صديقه العلامة أحمد تيمور.

* المراجع:

- "الأعلام"(6/ 114)، خير الدين الزركلي.

- "أعلام الإسلام"(269)، محمد سعيد الطناوي.

- "أعلام الفكر الإسلامي"(378 - 381)، أحمد تيمور.

- "تاريخ المجمع العلمي العربي" أحمد الفتيح.

- مجلة "مجمع اللغة العربية"(5/ 50، 396، 569 - 6/ 577 - 7/ 2، 475 - 8/ 410 - 9/ 9 - 33/ 336 - 338 - 15/ 285).

- "مجمع اللغة العربية في ثلاثين عاماً"، مهدي علّام.

- "محاضرات المجمع العلمي العربي".

- "محمد الخضر حسين"(سلسلة أعلامنا)، أبو القاسم محمد كرو.

- "محمد الخضر حسين: حياته وآثاره"، محمد مواعدة.

- "معجم المؤلفين"(9/ 279 - 13/ 418)، محمد رضا كحالة.

- "المعجم الوجيز للمستجيز".

- "ملف الشيخ محمد الخضر حسين في المجمع العلمي العربي بدمشق".

- "يوم ميسلون"، ساطع الحصري.

ص: 226