الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نقض كتاب "الإسلام وأصول الحكم
" (1)
منذ عام تقريباً ظهر في عالم المطبوعات كتاب، كان لما تضمنه واشتمل عليه من آراء ونظريات، له مظهر فاتن، وباطن مظلم، فانخدعت بالمظهر عقول، ونفذت إلى الباطن عقول، فاحتدم الجدل، وثارت عاصفة وعاصفة، إحداهما تناقش الكتاب من الوجهة الدينية، والأخرى تحاسب المؤلف من الوجهة السياسية.
واشتدت العاصفتان حتى ألقت إحداهما مؤلف كتاب "الإسلام وأصول الحكم" خارج زمرة العلماء، واقتلعت الثانية بعض الوزراء من كراسيهم اقتلاعًاا، تلاه حرمان الشيخ علي عبد الرازق مؤلف الكتاب من مركزه في القضاء الشرعي.
وليس عجيباً أن يثير هذا الكتاب مثل هاتين العاصفتين، ففي اسمه ما يدل على خطورة موضوعه، وعلى أن مؤلفه قد تعرض للخلافة، وللخلافة في نظر العالم الإِسلامي وغير العالم الإِسلامي أهمية عظيمة، ومكانة خطيرة؛ لأنها تمثل معنى الحكومة التي تقود المسلمين وتسوسهم، ولأنها المجمع
(1) مجلة "المكتبة" الجزء الثاني من السنة الثانية، الصادر في رمضان 1344 هـ. وهي مجلة شهرية تبحث عن المؤلفات وقيمتها العلمية، ومديرها الأستاذ عبد العزيز الحلبي - القاهرة.
الذي تجتمع حوله قلوب المسلمين على اختلاف مشاريهم، وتباين جنسياتهم، والمصدر الذي تصدر منه بواعث حركتهم، ودواعي سكوتهم.
على أن مؤلف كتاب "الإسلام وأصول الحكم" وقد تعرض لهذا الموضوع الخطير بصفمَه عالماً من علماء الإِسلام، وقاضياً من قضاة المحاكم الشرعية في مصر، لم يتجه في مباحثه الاتجاه الذي كان يجب أن يتجه فيه مؤلف اجتمع له مثل هاتين الصفتين الإسلاميتين، ولم يبن آراءه ونظرياته التي قصد إلى إذاعتها وترويجها بتأليف هذا الكتاب على أدلة تشهد بأنه درس العلوم الإسلامية، وتشبّع بمبادئها، وفهم أغراضها ومراميها، وأدرك حقيقة المصالح والثمرات التي يستفيدها الناس بالعمل بها، والسير على منوالها، بل كان اتجاهه في مباحثه اتجاه رجل يخالف المسلمين في عواطفهم وميولهم، وكانت الأدلة التي أقام عليها آراءه ونظرياته أدلة رجل لم يدرس العلوم الإِسلامية، ولم يدرك أسرارها، ولم يتشبع بمبادئها، وإنما هو رجل مهوّش أراد أن يستثمر ماله من صفة دينية في سبيل نشر مبادئ وآراء لا تقبلها العلوم الإسلامية، ولا ترضاها العقول السليمة، ولا تؤيدها أدلة صحيحة، فكأنما كان كل همه أن ينتزع من النفوس يقينها واطمئنانها، ويحل محلهما الشك والاضطراب.
ولسنا نتهم الرجل بسوء النية، وفساد الطوية، ولكنا نظن أنه كان يقرأ للعلماء الأجانب أكثر مما يقرأ للعلماء المسلمين، وان ذلك قد أثر في نفسه حتى خضعت لآراء الأجانب، واعتادت تلقيها بالقبول دون موازنة بينها وبين الآراء الإسلامية، وتمييز ما فيها من طيب وخبيث، وكان من أثر ذلك أن ضعفت الآراء الإسلامية في نظره، وانحطت قيمتها، وانطفأ نور أدلتها، والعقول مهما
رجحت، فلن تسلم من خطأ، والنفوس مهما قويت، فلن تبرأ من ضعف. وفوق ذلك، فإن موضوع كتابه من الموضوعات المتروكة التي يجهلها أكثر الناس، والتي لا يكاد يستطيع البحث فيها بحثاً علمياً صحيحاً إلا أفراد قليلون من علماء المسلمين
…
كل هذه العوامل مجتمعة هي التي أثرت في مؤلف كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، فحملته على أن يخرج للناس كتابه الذي أثار ما أثار من عواصف شديدة، وجدل عنيف.
على أن لكتاب "الإسلام وأصول الحكم" فائدة عظيمة لم نكن لنحصل عليها لولا صدوره، ولم يكن ليستفيد منها كثير من الناس لو لم يثر ما أثار من عواصف وجدال.
تلك هي تحرك العلماء إلى البحث في هذه الموضوع، والكتابة فيه، مبينين وجه الحق والصواب، كل بقدر ما وسعه طوقه، وأحاط به علمه. فقد بقيت الصحف المصرية عدة شهور تنشر الفصول الممتعة، والمقالات الضافية في هذا الموضوع، والناس يقرؤونها باهتمام عظيم، ورغبة صادقة.
ولكن هذه الفصول والمقالات التي كانت تنشرها الصحف، لم تكن خالصة للبحث العلمي البريء الذي يهدم الشكوك، ويزيح عن وجه الحق سحب الغموض والإبهام، بل كانت مشحونة بما أثارته كهرباء الغضب والحنق التي استولت على أكثر الكاتبين؛ مما حطّ من قيمة هذه المقالات، وذهب برونقها، وأضعف من فائدتها.
لذلك بقي أكثر الناس يعتقدون أن كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لا يزال قائماً يبث الشكوك والأوهام في النفوس والعقول، حتى ظهر كتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" الذي ألفه فضيلة الأستاذ (السيد محمد
الخضر حسين) أحد مدرسي جامع الزيتونة، وأحد قضاة المحاكم الشرعية بتونس سابقاً.
فقد تناول هذا الكتاب نقض ما جاء في "كتاب الإسلام وأصول الحكم" مما يخالف المبادئ الإسلامية، ويحود عنها، بطريقة تدل على رسوخ قدم الأستاذ السيد محمد الخضر في العلوم الإسلامية والعربية، وتضلعه منها تضلعًا يجعله في صفوف كبار العلماء الباحثين الذين يعرفون كيف يصلون بالقارئ إلى الحق الناصع في رفق وسهولة، دون أن يرهقوا ذهنه، أو يحرجوا صدره.
فأدلة ناصعة، ولغة بينة، وقصد في التعبير في غير غموض أو إبهام، وأدب صريح، وخلق متين، يدل على أن صاحبه ممن تأدبوا بالأدب الإسلامي، وتشبعوا به، وفهموا معنى قوله تعالى:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. ثم حسن ترتيب وتنسيق في المناقشة وسوق الأدلة، لا يدع في نفس القارئ مجالاً للشك، ولا يترك شبهة تتردد في صدره دون أن يقضي عليها قضاء نهائياً.
كل ذلك في تواضع العالم الصادق النظر، النزيه الغرض، الذي لا يقصد من بحثه وجدله إلا إحقاق الحق، وإزهاق الباطل.
ونريد أن نأتي لك بمقدمة كتاب "نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم"؛ لتقوم عنا بإرشادك بعضَ الشيء إلى قيمة الكتاب، ومقدرة مؤلفة الفاضل، فقد نشعر بالعجز عن إيفائه حقه من المدح والتقريظ. قال:
"وقع في يدي كتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ علي عبد الرازق، فأخذت أقرؤه قراءة من يتغاضى عن صغائر الهفوات، ويدرأ تزييف الأقوال
بالشبهات. وكنت أمر في صحائفه الأولى على كلمات ترمز إلى غير هدى، فأقول: إن في اللغة كناية ومجازًا، ومعميات وألغازاً، ولعلها شغفته حباً حتى تخطى بها المقامات الأدبية، إلى المباحث العلمية، وما نشبت أن جعل المعاني الجامحة عن سواء السبيل تبرح عن خفاء، وتناديها قوانين المنطق فلا تعبأ بالنداء. وكنت -بالرغم من كثرة بوارحها- أصبّر نفسي على حسن الظن بمصنفها، وأرجو أن يكون الغرض الذي جاهد في سبيله عشر سنين حكمة بالغة، وإن خانه النظر فأخطأ مقدماتها الصادقة. وما برحت أنتقل من حقيقة وضّاءة ينكرها، إلى مزية مجاهد خطير يكتمها، حتى أشرف على خاتمته، وبرزت نتائجه، وهي أشبه بمقدماته من الماء بالماء، أو الغراب بالغراب.
فوَّق المؤلف سهامه في هذا الكتاب إلى أغراض شتى، والتوى به البحث من غرض إلى آخر، حتى جحد الخلافة، وأنكر حقيقتها، وتخطى هذا الحد إلى الخوض في صلة الحكومة بالإسلام، وبعد أن ألقى حبالاً وعصيًّا من التشكيك والمغالطات، زعم أن النبي عليه السلام ما كان يدعو إلى دولة سياسية، وأن القضاء وغيره من وظائف الحكم، ومراكز الدولة ليست من الدين في شيء، وإنها هي خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها. ومسَّ في غضون البحث أصولاً لو صدق عليها ظنه، لأصبحت النفوس المطمئنة بحكمة الإسلام وآدابه مزلزلة العقيدة، مضطربة العنان.
كنا نسمع بعض مزاعم هذا الكتاب. من طائفة لم يتفقهوا في الدين، ولم يحكموا مذاهب السياسة خبرة، فلا نقيم لها وزناً، ولا نحرك لمناقشتها قلماً، إذ يكفي في ردها على عقبها صدورها من نفر يرون الحط في الأهواء
حرية، والركض وراء كل جديد كياسة.
كنا نسمع هذه المزاعم، فلا نزيد أن نُعرض عمن يلفظون بها، حتى يخوضوا في حديث غيرها. أما اليوم، وقد سرت عدواها إلى قلم رجل ينتمي للأزهر الشريف، ويتبوأ في المحاكم الشرعية مقعداً، فلا جرم أن نسوقها إلى مشهد الأنظار المستقلة، ونضعها بين يدي الحجة، وللحجة قضاء لا يستأخر، وسلطان لا يحابى، ولا يستكين.
لا أقصد في هذه الصحف إلى أن أعجم الكتاب جملة، وأغمز كل ما ألاقي فيه من عوج؛ فإن كثيراً من آرائه تحدثك عن نفسها اليقين، ثم تضع عنقها في يدك، دون أن تعتصم بسند، أو تستتر بشبهة، وإنما أقصد إلى مناقشته في بعض آراء يتبرأ منها الدين الحنيف، وأخرى يتذمر عليه من أجلها التاريخ الصحيح. ومتى أميط اللثام عن وجه الصواب في هذه المباحث الدينية التاريخية، بقي الكتاب ألفاظاً لا تعبر عن معنى، ومقدمات لا تتصل بنتيجة.
والكتاب مرتب على ثلاثة كتب، وكل كتاب يحتوي على ثلاثة أبواب، وموضوع الكتاب الأول:(الخلافة والإسلام)، وموضوع الكتاب الثاني:(الحكومة والإسلام)، وموضوع الكتاب الثالث:(الخلافة والحكومة في التاريخ).
وطريقتنا في النقض: أن نضع في صدر كل كتاب ملخص ما تناوله المؤلف من أمهات المباحث، ثم نعود إلى ما نراه مستحقاً للمناقشة من دعوى أو شبهة، فنحكي ألفاظه بعينها، ونتبعها بما يزيح لبسها، أو يحل لغزها، أو يجتثها عن منبتها، وتخيرنا هذا الأسلوب؛ لتكون هذه الصحف قائمة بنفسها،
ويسهل على القارئ تحقيق البحث، وفهم ما تدور عليه المناقشة، ولو لم تكن بين يديه نسخة من هذا الكتاب المطروح على بساط النقد والمناظرة".
لا شك أن القارئ بعد أن اطلع على هذه المقدمة، قد أدرك شيئاً من قيمة الكتاب الذي نحدثه عنه، وعرف أنه كتاب يحوي بين دفتيه من المباحث الخطيرة، والموضوعات الهامة، ما لا يتيسر لكثير من العلماء الوصول إليها رغم البحث الطويل، والجهاد المستمر، وأنه ليس كتاباً دينياً فقط لا يهم إلا المشتغلين بالمسائل الدينية، بل هو كتاب يحتاج إليه أكثر متعلمينا أشد احتياج، لا سيما المشتغلون منهم بالمسائل العامة، بل نقول: إن المشتغلين بالمسائل العامة والقانونية أحوجُ الناس إلى دراسة هذا الكتاب، والانتفاع بما جاء فيه في أكثر مسائلنا الخطيرة؛ كمسألة وجوب نصب الخليفة بناء على القاعدة الشرعية الثابتة التي تقول:"الضرر يزال"، وكمسألة معرفة المسلمين لعلوم السياسة، وكمسألة النظام الملكي، وهل هو ينافي الحرية والعدل؟ ومسألة شكل حكومة الخلافة، ومسألة القضاء في الإسلام في العهد النبوي وبعده، ومسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رسولاً، وكان رئيساً سياسياً أيضاً، ومسألة الاجتهاد في الشريعة وشرائطه، والشريعة الإسلامية وإدارة البوليس، والتشريع الإسلامي والزراعة والتجارة والصنائع، والتشريع الإِسلامي والأصول السياسية والقوانين
…
إلى غير ذلك من المسائل المهمة التي ينبغي لكل مشتغل بالمسائل العامة أن يدرسها دراسة جيدة، وقد أوفاها الأستاذ الجليل الشيخ الخضر حقها من البيان والتفصيل، بما امتاز به من تعمق ورسوخ في العلوم الإسلامية، مع معرفة وافية بالآراء الغربية المختلفة فيما يجب أن يكون عليه نظام الحكم في الأمم ليكون أضمن للحرية والعدل.