الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علماء تونسيون في دمشق
(1)
الدكتور صلاح الدين المنجد
وأُنهي هذا البحث بذكر عالمين تونسيين كبيرين، هبطا دمشق، وأفادا أهلها. وهما: الأخوان العلامة الشيخ محمد الخضر حسين، وأخوه الشيخ زين العابدين، وقد ترجمتُ لهما تراجم طويلة في كتابي "أعلام العصر". وقد وُلد الشيخ الخضر في بلدة "نفطة" بالقطر التونسي سنة 1294 هجرية، والتحق وهو في الثانية عشرة من عمره بجامع الزيتونة، فدرس فيه، وتخرج منه سنة 1316 هـ. وأنشأ سنة 1904 م مجلة علمية أدبية كانت أول مجلة من نوعها في المغرب كله، سماها:"السعادة العظمى"، فأغلقتها السلطات الفرنسية، ثم تولى القضاء في مدينة "بنزرت" عام (1905 م / 1323 هـ). ولم يطب له القضاء، فعاد إلى الزيتونة والمدرسة الصادقية مدرّساً.
وقبيل الحرب العالمية الأولى حكم عليه الفرنسيون بالإعدام؛ لاشتغاله بالسياسة، وإثارته الخاصة والعامة، فهاجر إلى دمشق مع أسرته، وأخيه.
(1) بحث تقدم به الدكتور صلاح الدين المنجد في ذكرى مرور ثلاثة عشر قرناً على تأسيس جامع الزيتونة في (25 المحرم - 2 صفر عام 1400 هـ الموافق 15 ديسمبر كانون الأول- 21 عام 1979 م)، تونس. واخترنا من البحث ما يتعلق بالإمام محمد الخضر حسين.
وجلس في الجامع الأموي يلقي دروساً في أصول الفقه، والخلاف، والنحو، والأدب، والحديث النبوي. وكرمه علماء دمشق، وأحبّوه؛ للطفه، ودماثة خلقه، وحلاوة معشره. ثم سافر إلى الآستانة، وتولى التحرير في وزارة الحرب، وعاد منها أوائل سنة 1918 م.
وكانت دمشق تفور بفكرة الوطنية، فعاد يدرّس في الأموي. فلم ترُق دروسه لجمال باشا؛ لما كان يبثه في تلاميذه من معاني الوطنية والإصلاح، فاعتقله أشهراً في السجن، وفي سجنه نظم هذه الأبيات اليائسة:
غلَّ ذا الحبسُ يدي عن قلمٍ
…
كان لا يصحو عن الطرسِ فناما
أنا لولا همّةٌ تحدو إلى
…
خدمةِ الإسلام آثرتُ الحِماما
ليست الدنيا، ومايبسم من
…
زهرها إلا جَهاماً وقتاما
وتوسط له علماء دمشق، فأفرج جمال باشا عنه، وبقي في دمشق حتى عام 1920 م، وشهد مولد الحكومة العربية الأولى في سورية، وقرّبه الملك فيصل، ورأيت رسالة بخطه وقعّ فيها: محمد الخضر حسين التونسي الدمشقي.
فلما دخلت الجيوش الفرنسية دمشق، وقام عهد الانتداب، لجأ إلى مصر، وكان له فيها كفاح جديد وطويل في خدمة الإسلام. وكانت همته شمّاء، فالتحق بالأزهر، وقدّم الامتحان للشهادة العالمية، فنالها، وألّف "جمعية الهداية الإسلامية"، وأصدر لها مجلة باسمها رأس تحريرها، ثم درّس في الأزهر في كليتي الشريعة وأصول الدين، وعُيّن رئيساً لتحرير مجلة "الأزهر"(1)
(1) هي نفسها مجلة "نور الإسلام" قبل تسميتها بمجلة "الأزهر"، ولم يتسلم الإمام =
مدة، كما تولى رئاسة مجلة "نور الإسلام". وانتهى به الأمر أن انتُخب شيخاً للجامع الأزهر عام 1952 م، وكان أول عالم غير مصري الأصل يُنتخب شيخاً للأزهر.
وكان له في مصر مواقف باهرة في الدفاع عن العربية والإسلام. فألّف كتاباً في "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق. وكتاباً في "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" لطه حسين، وكتاب "الدعوة إلى الإصلاح"، و"رسائل الإصلاح"، و"دراسات في العربية وتاريخها"، و"الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان"، و "محمد رسول الله وخاتم النبيين"، و"تراجم الرجال"، و"بلاغة القرآن"، وغير ذلك.
وانتُخب عضواً في مجمع دمشق، ثم في مجمع القاهرة عند إنشائه سنة 1932 م، وكان رحمه الله نمطاً خاصاً في ثقافته الإسلامية والعربية، التي أحاطت بكل شيء، فكان: فقيهاً، أصوليّاً، مفسراً، محدّثاً، أديباً، شاعراً، لغوياً، مصلحاً.- وتوفي بالقاهرة سنة 1958 م، ودفن بالمقبرة التيمورية.
أما أخوه الشيخ زين العابدين بن حسين، فقد ولد بتونس سنة 1317 هجرية، فدرس في الزيتونة، وحفظ القرآن الكريم، ونال شهادة (التطوع)، وكان من أساتذته -كما كتب لي بخطه-: الشيخ محمد بن يوسف، وشيخ الإسلام أحمد بيرم، والشيخ الصادق بن القاضي، والشيخ الطاهر بن عاشور، والشيخ بلحسن النجار، والشيخ صالح المالقي رحمهم الله وكلهم من
= تحرير المجلة بعد التسمية الجديدة.
أعيان علماء تونس، ثم انتقل إلى دمشق مع أخيه الشيخ الخضر.
ودرّس اللغة العربية في مدرسة السلطاني العربي، وبقي في دمشق، ولم يغادرها مع أخيه، وعندما أُنشئت الجامعة السورية، التحق بكلية الآداب، ونال شهادة الآداب العليا. ثم درّس في مدارس دمشق الرسمية الابتدائية، ثم الثانوية، ثم دور المعلمين، حتى أُحيل على التقاعد عام 1950 م، بعد أن تخرج على يديه آلاف من التلاميذ الدمشقيين.
وكان أستاذي في (مدرسة البحصة) الابتدائية، يعلّمنا النحو والعربية. وكان التلاميذ يحبّونه؛ للطف كان فيه، ودُعابة. وألف مؤلفات مفيدة منها:"المعجم المدرسي"، و"المعجم في النحو والصرف"، وهو جيد، و"المعجم في القرآن"(1)، و"الدين والقرآن"، و"الأربعون الميدانية" في الحديث، وغير ذلك.
وكانت داره في حي الميدان مجمعَ الأفاضل، وكانت له دروس عامة يلقيها، ويجتمع فيها الكثيرون، ويفيدون منها. وكان في منتهى الذكاء، يخاطب كُلّاً على قدر عقله وفهمه، وكان لطيف المعشر، خفيف الظل، مع صلاح ووقار، وتوفي رحمه الله سنة 1977 م، جاءنا خبر وفاته إلى بيروت.
أيها السادة!
هؤلاء أنموذجات من علماء تونس الذين انطلقوا منها، ومن الزيتونة، فملؤوا دمشق والبلاد الإسلامية الأخرى بعلمهم، وقد تعمّدت ذكرهم؛ لأنهم أسهموا في ازدهار الثقافة الإسلامية في دمشق. ولي -ونحن في مطلع
(1)"المعجم في الكلمات القرآنية".
هذا القرن الخامس عشر- أملان: الأول: أن يتصدّى زملاؤنا الأساتذة التونسيون الشباب لإتمام هذا الموضوع، والبحث عن الأثر الثقافي التونسي في كل بلد عربي وإسلامي، والثاني: أن ينطلقوا هم أيضاً على خُطا أولئك، ويفيدوا البلاد الإسلامية كلها بعلمهم وثقافتهم. وإنهم لخليقون بذلك -إن شاء الله-.