الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تهنئة للإمام محمد الخضر حسين بتوليه القضاء في مدينة "بنزرت
" (1)
* الإمام محمد الطاهر بن عاشور:
أيها السادة الأعيان! ويا أيها الصديق النحرير!
إذا تنازع العقل والوجدان، افتقرت اللغة، وضاق البيان، فالوجدان يقنع النفس بما تجده محضراً، والعقل يصرفها إلى غب الشيء وفائدته المرجوة.
وأنا الآن تتجاذبني قوتان بجاذب متضاد: أراني فيها ميتهجاً مسروراً بارتقاء صديقنا النحرير، واسطة عقد جمعنا في هاته الليلة النيرة، على حين أجدني -مهما تذكرت لازم هذا الارتقاء؛ من مبارحته نادي أنسنا - أسِفاً على بُعد من أبعته نفسي، واتخذته صديقاً خالصاً منذ سبع سنين.
ولكني أغالب وجداني، وأجمع حافظتي، وأزجر لساني، فأغلّب السرور على الأسف، وكذلك ينتصر أحد الخصمين على قِرنه متى قامت الحجة.
(1) أوراق مخطوطة بخط الإمام محمد الطاهر بن عاشور تتضمن الخطاب الذي ألقاه مساء يوم 15 ربيع الثاني 1323 هـ في داره بالمرسى من الضواحي الشمالية لمدينة تونس، بمناسبة تولية الإمام محمد الخضر حسين القضاء في مدينة "بنزرت".
وهذه الكلمة تمثل مدى سمو وصفاء الصداقة بين الإمامين - رضوان الله عليهما -.
وهذا احتفالنا الآن يمثل انتصار العقل على الوجدان، فلنا أن نعتبره رسمًا محسوساً يشخص معنى فلسفياً علياً.
ما كان للعقل أن ينتصر على وجداننا القوي، لولا تجلي المستقبل من خلال هذا الارتقاء باسمًا عن نتائج علمية، وأريج ثناء تفخر به الفيئة الأدبية (وربما غُلب القوي بابتسامة تملك لبّه) سيظهران للعيان في استقامة وكمال صديقنا هذا، اللذين لم يزالا مجهولين عن كثير من الذين لم يبتلوا أخلاقه، كما يجهل شذى العنبر من لم يختبره.
وقد عرفت الحكومة من صديقنا هذا، وعرف الناس منه، بما جاءت مجلته العلمية العظمى (1)، التي أنشأها في السنة الماضية من البرهان على أن في الطبقة العلمية العربية التونسية، المتهمة بالبعد عن الشعور بالحاجات القومية، رجالاً يقتاد الواحد منهم الأفكار، ويأتي بالآيات والأعمال الكبار.
هكذا جعل رفيقنا هذا بمجلته لهاته الفيئة اسماً شهيراً في النهضة، وهو اليوم يرفع شأن أهل التحرير في أعين من يسوء ظنهم فيه؛ إذ يرون كافة ثقة الحكومة، لهذا أسهم بواحد من رجال القلم .. وهو بذلك ثاني رجل في الإِسلام ارتقى من دور التحرير إلى مقام الخطط الشرعية، ولعلكم تعرفون أن الأول هو الأستاذ الشهير الشيخ محمد عبده.
عجباً لناموس الارتقاء كيف تأخذ نظائره بأيدي الاتحاد، فتنتاب الأفكار كما تنتاب الأمم والأفراد.
(1) إشارة إلى مجلة "السعادة العظمى" التي أصدرها الإمام محمد الخضر حسين بمدينة تونس.
لقد مضى حين من الدهر على مرسى "بنزرت" الجميلة المنيعة، كانت تعد مع الأخريات، فلما أتاح لها حكم القدر أن يعتني بها المعتنون، فتكون من أشهر المراسي الحربية على ساحل البحر المتوسط، وأن تصبح كما هيّأتها الخِلقة من المملكة التونسية على صورة العين من رأس الفتاة العربية (1). استدعت نباهتها السياسية إصلاح حالها المدنية، وابتدأت بإصلاح قضويتها؛ لأن القاضي هو سوط عدل الله يرفع على الظالمين؛ حتى يُصلح الناس أجمعين.
وعسى أن يقوم من شذى الثناء على صديقنا في تلكم الأصقاع، ما تفاخر به بقية البقاع، فتهرع كلها تطلبه إلى وظائفها وتنصاع.
أريد أن أختم قولي، فألتمس منك أيها الصديق المخلص، أن تتقبل مني أبيات أملاها عليّ الضمير، على بُعد ما بيني وبين الشعر:
قسماً بإحساس المودَّة بيننا
…
أكَّدتُ في ملأ من الأحباب
لَسرورُ ساعات تذكِّر أُنْسَكُم
…
في النفس أحلى من نَوال طِلاب
والآن قُدِّر أن يشطّ مزارُنا
…
حتى يعوَّض جمعُنا بكتاب
ولتلك في قلب الصديق حزازةٌ
…
ما هي دون نوافذ النشّاب
لكنَّ للعدل المضيَّع دعوة
…
تقضي علينا بامتثال جواب
فاهنأ بهذا الارتقاء وكُن به
…
مَثَلَ الفضيلة مظهرَ الإعجاب
(1) أردت الإشارة إلى هيئة المملكة من الخريطة، فإنها تشبه فتاة عربية مادّة يدها للشرق، وبنزرت منها بمكان العين من الرأس شمالاً. "هذا التعليق للإمام محمد الطاهر بن عاشور في المخطوط".
وإليك أيها الصديق تحية طيبة، تصحبونها معكم؛ لتذكركم وداداً لا يفنى وإن طال الزمان، وتفارقت الأبدان (1).
(توقيع الإمام محمد الطاهر بن عاشور)
(1) وفي نهاية المخطوط، دوّن الإمام محمد الطاهر بن عاشور بخطه هذه الكلمات:"خطاب ألقيته على مأدبة ودل الشيخ النحرير محمد الخضر بن حسين، إذ تعين قاضياً ببنزرت في يوم السبت مساء 15 ربيع الثاني 1323 بمنزلي بالمرسى، وبحضور طائفة من الأعيان، ومن رجال القلم والعلم".
(توقيع الإمام محمد الطاهر بن عاشور)