الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رحلة مفتي القيروان الشيخ محمد الجودي
(1)
وكان ممن اجتمعت به بالشام: الأخ العزيز الفاضل، العالم العامل، الشيخ سيدي الإمام محمد الخضر بن الحسين، كان من المدرسين بجامع الزيتونة، وهاجر إلى الشام، ورتب بمدرسة أسست لمدة نحو شهر، وجعل له في المرتب ما يساوي مئة وسبعين فرنكاً، وهي مدرسة تشتمل على عشرة أقسام، تزاول حفظ القرآن العظيم، والعلوم الشرعية والطبيعة.
وكان من المعلمين بها أخوه الشيخ زين العابدين، له في المرتب ما يساوي مئة وثلاثين فرنكاً.
وقد زرناها، فوجدناها في غاية الاتساع والانتظام، وبوسط صحنها خصة وحوض كبير، وهو يتدفق ماء، وبيوتها علوية وسفلية، وبوسط الصحن
(1) رحلة مفتي القيروان الشيخ محمد الجودي المتوفى سنة 1943 م إلى الحج وبلاد الشام. نسخة خطية في كراس بخط المؤلف. بمكتبة الأستاذ إبراهيم شبوح. وقد زودني مشكوراً بورقات مصورة عن المخطوط، والتي تتعلق بالإمام محمد الخضر حسين، والشيخ محمد الجودي التميمي القيرواني (1278 - 1362 هـ = 1861 - 1943 م) مسند وفقيه ومؤرخ، نشأ في القيروان، وله عناية بالتاريخ والتراجم والبحث عن الكتب النادرة، زار الديار المقدسة للحج ثلاث مرات، وزار دمشق. من مؤلفاته:"تاريخ قضاة القيروان".
جنينة مغروسة أشجاراً، يتنزه بها التلامذة عند خروجهم للراحة.
واجتمعنا بمديرها، واسمه محمد كامل القصاب، وهو رجل في غاية الرياضة واللطافة، وله معارف جمة على الطراز الحديث، فتلقانا بأحسن الملاقاة، وفرح بنا كثيراً، وقدم لنا القهوة.
وكان ممن اجتمعنا به مع الشيخ الأخضر، إخوته: الشيخ الجنيد، والشيخ العروسي، وأخوهم الشيخ المكي معلم بالمدرسة العثمانية الدمشقية، والشيخ حسونة ابن أخيهم، وزرنا هاته المدرسة صحبة الشيخ العروسي، وتلقانا مديرها بالترحاب والإكرام، وعرفنا، وفرح بنا فرحاً شديداً، وهو الشيخ محمد كامل القصاب، رأسها السيد محمد كامل القصاب، ومديرها أحمد جودت المارديني، وأستاذ العلوم الدينية السيد محمد الحمصي، ومدرس الأخلاق الشيخ إبراهيم رمضان، وأستاذ القرآن اثنان هما: الشيخ محمد الحلواني، عبد القادر السرداني، وأستاذ العلوم العربية سليم أفندي الجندي، ومحمد أفندي البزم، ومحمد المكي بن الحسين التونسي أخ الشيخ الأخضر، وأستاذ الرياضية عبد الغني أفندي المحملجي، وكذا الطبيعيات، وأستاذ الرياضية واللغة الفرنساوية درويش أفندي القصاص، أستاذ التاريخ توفيق بك البساط، اللغة الفرنساوية مصطفى أفندي كاظم، والجغرافية واللغة العثمانية الأمير فايز الشهابي، حسن الخط والرسم موسى أفندي الشلبي، وسليم أفندي الحنفي، والتركية والفقه محمد أحنف الحقفي، والأعداد والحساب أفندي الحمصي، ومبادئ القراءة والكتابة توفيق أفندي، وأستاذ الرياضة البدنية وناظر المدرسة رضا أفندي الحلو.
وعرض علينا أربعة من أصغر التلامذة، لا يتجاوز سن الواحد سبعة
أعوام، وناولني مصحفاً، وقال: عين لهم مكاناً يقرؤون منه، ففتحت المصحف، فأول ما رأيت:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58} فناولته أحدهم، فقرأ قراءة تدبر مع حسن أداء، وإعطاء مخارج الحروف حقها، ثم سئل عن معاني الألفاظ، فأجاب بأحسن جواب، ثم سئل عن معاد الضمائر وإعراب الكلمات، فأجاب كذلك، لم يتلعثم في جوابه، ثم وقف أحدهم، وسرد قصيدة المعري التي منها:
وإني وإن كنت الأخير زمانه
…
لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل
مع إشارة حسية بيده، وإعراب لكل ما سئل عنه من الأبيات، وبيان المعاني؛ بحيث أني شاهدت ما يبهر العقل من الأجوية الحاضرة على صغر السنن" ثم أذن لهم بالذهاب، فقاموا بآداب، وودعونا، وخرجوا.
ثم دعا أربعاً من قسم أعلى منهم، فأتوا بما هو أرقى، وكانت القراءة في المصحف من قوله تعالى:{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف: 16] ، فبينوا، وأعربوا، وفسروا المعاني بأحسن تفسير، ثم سئلوا عن الجغرافية، فأجابوا عن القطر المصري والأفريقي ومن احتله، ومن جملة ما ذكر عن تونس: أن جميع الدول صادقت على الاستعمار، إلا الدولة العثمانية فلم تصادق.
ثم سئلوا: هل يمكن للإسلام عود شبابه؟ فأجابوا: نعم، يعود باتباع ما جاء به الشرع، والاتحاد، فسئل عن الدليل، فأجاب بقوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. ثم قام أحدهم، وسرد قصيدة حماسية، تبعث النفوس على الشهامة وعلو الهمة، ثم أذن لهم بالانصراف بعد أن سقاهم المدير القهوة، وخرجوا بالآداب كالأول. واستأذنا بالخروج، وقام المدير مشيعاً لنا لباب المدرسة.
وأخبرنا الشيخ الخضر -لما أعلمناه بما ذكر- بأن ما وقع من إكرامنا لم يقع لغيرنا، وأن عادته إذا أتى أكبر كبير، يذهب معه للأقسام، ويقول له: سل عما شئت، ولا يعرض للوافد، ولا يشيعه، وكان ذلك في يوم الأحد المذكور.
وفيه زرنا العلامة النحرير، فريد عصره الشيخ بدر الدين، عالم البلد بدار الحديث، التي كان بها الإِمام النووي وغيره، وهي مدرسة كبرى، فوجدنا الشيخ ببيت منها، وهو رجل مسن عليه علامة الصلاح، وحوله كتب، وهو يتدفق علماً، فسأل سي العربي بسيس عن أحوال المسلمين مع الدولة الحامية، فأجابه بأن الشعائر مقامة على أحسن ما يكون، وأنهم أحسن من غيرهم في الدول الأجنبية، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال: روينا بالسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحب في الله، والبغض في الله من الإيمان"، ثم سألته أن يجيزني، فأجابني إلى ذلك.
واستدعانا الشيخ الخضر للعشاء بداره، وحضر معنا إخوته وابن أخيه، وذكر لنا أنه لما ذهب إلى المدينة المنورة في رمضان، أنشأ قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، ووعدني بإعطاء نسخة منها، وذكر أنها نشرت بالجرائد الشرقية، والتمستها منه ليسلم لي الجريدة التي فيها. وجرت بيننا مذاكرات أدبية، وأنشدنا بيتين، ذكر أن رجلاً أتى إلى صلاح الدين الأيوبي بمروحة، وقال له: هذه هدية لم ينلها أحد من أسلافك، ولا من الملوك، فغضب صلاح الدين، فقال له: اقرأ ما بها، فإذا بها منقوش:
أنا من نخلة تجاور قبراً
…
ساد من فيه سائرَ الناس طرّا
شملتني سعادة القبر حتى
…
صرت في راحة ابن أيوب أُقرا
فسرّ بذلك، وأجازه.
وذكر أن الشيخ سالم بوحاجب قرأ بين يدي الملك الناصر بأي تونس "فتح المتعال في مدح النعال" للمقري، وكان بخط الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي، فأنشأ بيتين على هذا المثال لم يستحضر إلا الثاني، وهو:
شملتني سعادة الخط حتى
…
صرت في كف ناصر الدين أُقرا
وقد اجتمعت بمجلس مولانا العالم سيدي محمد أمين السفرجلاني بمسجد السنجقدار بتلامذته الأفاضل ذوي الأخلاق الحسنة الطيبة: سيدي الحاج محمود رمضان الدمشقي، وسيدي الحاج محمد الشرايبي، وسيدي الحاج علي بن سعيد حافز، والسيد رسلان الرفاعي، وسيدي كمال بن مصطفى الإِمام، والشيخ إبراهيم بن مصطفى العطري.
وفي يوم الاثنين من 22 صفر، زرنا مقام القطب الغوث سيدي محيي الدين، ورأينا بتابوته بيتين:
قبر محيي الدين ابن العربي
…
كل من لاذ به أو زاره
قضيت حاجاته من بعدما
…
غفر الله له أوزاره
وبأركان القبة الأربع:
إنما الحاتمي في الكون فرد
…
وهو غوثٌ وسيدٌ وإمام
إن سألتم متى توفي حميداً
…
قلت أرخ (مات قطب همام)
مولده سنة 560 - وفاته سنة 638
وبلصق ضريحه شريح ابنه سيدي عماد الدين جوفيه، وجوفيه ضريح
ابنه الآخر سيدي سعد الدين. وتوفي هذا الثاني المجاهد عبد القادر بن محيي الدين وعلى قبره:
لله أفق صار مشرق دارتي
…
قمرين هلا من ديار المغرب
الشيخ محيي الدين ختم الأوليا
…
قمر الفتوحات الفريد المشرب
والفذ عبد القادر الحسني الأمير
…
قمر المواقف ذا الولى ابن النبي
من نال من أعلى رفيق أرخوا
…
(أزكى مقامات الشهود الأقرب)
في 19 رجب سنة 1300 هـ
وكان الذي بالمقام السيد محمد سليم الأكرمي الدمشقي، وابن عمه الشيخ مصطفى، وبعد زيارتنا للشيخ محيي الدين، زرنا ضريح الشيخ عبد الغني النابلسي، وهو بيت لطيف فيه قبره، وقبليه بيت صغير به قبر ابن ابنه سيدي مصطفى النابلسي، وأبو مصطفى إسماعيل بن الشيخ عبد الغني، والبيتان بوسطه مسجد جامع خطبه.
وبعد زياراتنا للمقامات المذكورة، توجهت مع الفاضل الكامل سيدي العروسي بن الحسين لحضرة الأستاذ سيدي بدر الدين، واستلمنا منه الإجازة التي وعدنا بها، ووجدناه يقرئ في "مختصر السعد على التلخيص" في مذهب الاستعارة بالكتاب على مذهب الجمهور، والسكاكي، بأحسن تقرير مع رياضة تامة. وكان من الحاضرين بدرسه الشيخ عبد الرحمن (1) ..
(1) انتهت الأوراق المصورة من الرحلة، والمرسلة لي.