المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عرض مختصر عن حياة الشيخ الخضر بن الحسين - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٤/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(27)«كِتَابَاتٌ حَولَ الإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين»

- ‌المقدمة

- ‌باقات شعر مهداة إلى الإمام محمد الخضر حسين

- ‌الشجرة المباركة

- ‌تهنئة للإمام محمد الخضر حسين بتوليه القضاء في مدينة "بنزرت

- ‌الملحق

- ‌التهاني التدريسية

- ‌تهنئة الأدباء

- ‌رحلة مفتي القيروان الشيخ محمد الجودي

- ‌نقض كتاب "الإسلام وأصول الحكم

- ‌السيد محمد الخضر حسين

- ‌إلى العلامة الجليل السيد محمد الخضر حسين بمناسبة سفره إلى الأقطار الحجازية

- ‌الترحيب بالإمام محمد الخضر حسين بمناسبة عودته من أداء فريضة الحج

- ‌محاضرة الأستاذ الخضر بن حسين

- ‌مصنفات الأستاذ السيد محمد الخضر حسين

- ‌في سبيل الله والوطن شيخ الأزهر الجديد

- ‌حظوة شيخ الأزهر الجديد

- ‌تهنئة إلى الأستاذ الإمام فضيلة شيخ الجامع الأزهر الجديد سماحة الشيخ محمد الخضر بن الحسين

- ‌أي مغزى سامٍ في وضع الشيخ الخضر على رأس الأزهر الشريف

- ‌القياس في دراسات المحدثين

- ‌الحركة الأدبية والفكرية في تونس

- ‌محمد الخضر حسين أحد زعماء النهضة الإسلامية

- ‌لماذا ذهب الشيخ الخضر إلى ألمانيا

- ‌محمد الخضر حسين حياته وآثاره

- ‌وثيقة تاريخية هامة صادرة عن جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية

- ‌علماء تونسيون في دمشق

- ‌أعلام العلماء الشيخ الخضر حسين

- ‌الأدب التونسي وصداه في الشرق قديماً وحديثاً

- ‌من تاريخ الصحافة التونسية "السعادة العظمى 1904" ودورها الحضاري

- ‌شيخ الجامع الأزهر السابق تونسي الشيخ محمد الخضر حسين

- ‌أعلام من تاريخنا الشيخ محمد الخضر حسين

- ‌أعلام الإعلام في تونس محمد الخضر بن الحسين

- ‌من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر الشيخ محمد الخضر حسين

- ‌بين القاسم الشابي ومحمد الخضر حسين

- ‌أعلام محمد الخضر حسين وخطابه الحداثي

- ‌عرض مختصر عن حياة الشيخ الخضر بن الحسين

- ‌أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث محمد الخضر حسين

- ‌مشاهير القرن العشرين محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر وأحد زعماء النهضة الإسلامية

- ‌جمعية قدماء الصادقية تحيي ذكرى الشيخ محمد الخضر حسين العالم والمناضل

- ‌فهارس مؤلفات الإمام محمد الخضر حسين

- ‌من رسائل الوفاء

- ‌الجمهورية التونسية - رئاسة الجمهورية الكتابة الخاصة(عدد - 4541)

- ‌النشرة الأدبية الأولى لجمعية شَباب الخضرِ بن الحُسينِ النفطِيّ

- ‌كلمة الافتتاح

- ‌نبذة من تاريخ "نفطة

- ‌والذكر للإنسان

- ‌من حياة الشيخ الخضر بن الحسين

الفصل: ‌عرض مختصر عن حياة الشيخ الخضر بن الحسين

‌عرض مختصر عن حياة الشيخ الخضر بن الحسين

(1)

محمد بلقاسم خمار

رئيس اتحاد الكتاب العرب الجزائريين

"طولقة" هذه المدينة الأصيلة في حضارتها، العريقة في تاريخها، الجميلة بظلالها، ومياهها، وثمارها، المتمسكة بإيمانها وقيمها وتقاليدها السامية. طولقة هذه الواحة الوارفة الرائعة كانت ولم تزل موئلاً للعلم، وملتقى للمآثر، وجامعة للإسلام، منبتاً للرجال المتفوقين فكراً وتقى، سلوكاً وأخلاقاً .. وصدق من قال: لا تنبت الأرض الطيبة إلا طيّباً .. وبالفعل فإن من مثل هذه الأرض الطيبة كانت الجزائر تبني تاريخها الثقافي المجيد، وتعلي راية فخرها بين الأمم والشعوب، وتفيض عبقريات، ورسالات، وجهاداً؛ لتغمر أشقاءها وجيرانها إصلاحاً وخيراً، ولتعمر العالم أمناً وحباً وسلاماً.

في هذه الأرض المباركة؛ انطلقت منابع العلم والتقى، ومن هذه الأرض المباركة تزودت أجيال وأجيال بكنوز معارفها، وسلاح حصانتها، ورسوخ مبادئها، ومن هذه الأرض المباركة أضاءت شموس نيّرة في أهم العواصم العربية والإسلامية؛ كتونس، والقاهرة، ودمشق، وإسطنبول،

(1) مجلة "الثقافة" مجلة فكرية تأسست في دمشق عام 1958 م. العدد الصادر في (ربيع الثاني 1418 هـ - آب 1997 م)، دمشق.

ص: 176

وما زالت أشعتهم ساطعة دافئة قوية حتى اليوم.

لقد كانت الروابط الوحدوية - التي تجمع بين أبناء المغرب العربي منذ القدم - روابط قوية متينة، جمعتها القرابة والنسب، ولحمتها العقيدة واللغة، وصقلتها التجارب التاريخية، والآلام والآمال المشتركة، وأكدتها الأرض والجوار، فلم يكن هناك فرق بين مراكشي أو جزائري أو تونسي أو ليبي، كلهم في مشاعرهم ومصائرهم سواء، رغم ما طرأ من اختلاف عليهم في أنظمة الحكم التي سادت أقطارهم خاصة منذ احتلال فرنسا للجزائر في بداية العقد الثالث للقرن التاسع عشر.

ودعماً لذلك أرى من المهم أن أثبت ما قاله الشيخ عبد الحميد بن باديس، عندما تكلم عن وحدة أبناء المغرب العربي، قال رحمه الله: حيثما توجهنا إلى ناحية من نواحي التاريخ، وجدنا هذا المغرب العربي: طرابلس، تونس، الجزائر، مراكش، يرتبط بروابط متينة روحية ومادية، تتجلى في وحدته للعيان، ولسنا نريد هنا أن نتحدث عن التاريخ القديم، وإنما نريد أن نعرض صفحة من التاريخ الحديث الجاري.

ويذكر رائد النهضة الجزائرية الإمام ابن باديس كيف أن أبناء المشرق العربي ينسون، أو يتجاهلون أبناء المغرب العربي، مع أننا دائماً نمدهم بخيرة ما عندنا من رجالو السيف والقلم؛ كالأمير عبد القادر الجزائري وأبنائه الشهداء من أجل سورية، وأحفاده؛ مثل: الأمير خالد، ويسترسل في عرض أسماء بعض الأعلام؛ كسليمان باشا الباروني الطرابلسي، والشيخ السنوسي الطرابلسي الجزائري الأصل، والشيخ طاهر الجزائري الأصل، والشيخ عبد العزيز الثعالبي زعيم تونس، الجزائري الأصل، والشيخ الخضر حسين التونسي الأصل، وغيرهم

ص: 177

من أقطاب المعرفة والعلم.

من المعلوم أن الكثير من أبناء الجزائر كانوا يتوجهون إلى (القرويين) في المغرب، أو (جامع الزيتونة) في تونس، أو إلى (الجامع الأزهر) في القاهرة؛ لطلب العلم، والاستزادة من المعارف، خاصة بعد أن دبّ الضعف في كتاب الحكم العثماني، واستُعمرت الجزائر من طرف فرنسا، مما أثر في مسيرة نهضتها العلمية التي حوربت بشتى الوسائل والأساليب.

ومن المعلوم أيضاً أن الجزائر قد مدّت المغرب والمشرق العربيين بالكثير الكثير من العباقرة والعلماء، أولئك الذين حوصروا في آرائهم وعقائدهم، وحرموا من أداء أماناتهم العلمية، وواجباتهم الإسلامية، ومُسوا في كرامتهم وحرياتهم، فاتجهوا إلى ديارهم الأخرى في المغرب أو المشرق، يدافعون عن الشريعة، ويدعون إلى الإصلاح، وينشرون العلم، ويجاهدون في سبيل الله من أجل وحدة العرب والمسلمين، لا فرق بين قطر أو قطر، ولا بين مسلم ومسلم، إلا بالتقوى والعمل الصالح.

ومن بين هؤلاء الجزائريين المهاجرين: الشيخ مصطفى بن عزوز، جدّ الشيخ الخضر لأمه، ثم الشيخ الحسين بن علي بن عمر والد الشيخ الخضر، وقد كان من مريدي الشيخ مصطفى بن عزوز، حيث التحق بالشيخ ابن عزوز إلى بلدة "نفطة" في منطقة الجريد التونسي، وتزوج من ابنته والدة الشيخ الخضر، وقد أسس الشيخ مصطفى بن عزوز البرجي في "نفطة" عندما هاجر إليها مع عدد كبير من أتباعه سنة 1837 م، أسس زاويته المشهورة، المشتملة على عدد كبير من المساكين لإيواء الواردين عليه من كل صقع، وأحدث بها مدرسته الحافلة، وأنشأ بها بيوتاً لسكنى المنقطعين لقراءة القرآن،

ص: 178

وتعلم العلم، وحشد لها العلماء والأعلام من كل جهة؛ ليدرسوا بها فنون العلم على اختلاف مشاربها.

ويبدو أن زاوية ابن عزوز في "نفطة" كانت فرعاً من الزوايا الكبرى في "طولقة"، و"البرج"، والتي تنتسب إلى الطريقة الرحمانية .. وكانت زاوية طولقة تعرف عندنا بالزاوية العثمانية، وبزاوية (سيدي علي بن عمر)، وقد ملأت شهرتها آفاق العالم الإسلامي، وذلك لما جمعته من علم وعلماء، وطلاب ومريدين، وكرم وزهد، وتقى، بالإضافة إلى مكتبتها العامرة.

وفي هذا الجو العائلي، المفعم بالعبادة، وحب العلم، وبالجلال والهيبة والوفاء، ولد الشيخ الخضر بـ "نفطة" سنة 1873 م، داخل أسرة متمكنة من تعاليم الشريعة الإسلامية، مستنيرة بآدابها، متمسكة بتقاليدها وأعرافها السامية، حيث كان جده لأمه الشيخ مصطفى بن عزوز يشغل مكانة القطب فقهاً وتديناً، ويعتبر شيخاً وزعيماً كبيراً بين أتباعه ومريديه، وكانت والدته بنت الشيخ ابن عزوز على جانب كبير من الثقافة والتعليم وقوة الشخصية، وكان خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز عالماً جليلاً، متبحراً في أصول الشريعة واللغة والآداب، وكان والده الشيخ الحسين بن علي بن عمر فقيهاً تقياً زاهداً، وقد توفي وكان ولده الشيخ الخضر ما زال صغيراً.

في هذا الجو العائلي المهيب قضى الشيخ الخضر بن الحسين طفولته الأولى؛ حيث حفظ القرآن الكريم برعاية مؤدبه الخاص الشيخ (اللموشي)، وأخذ مبادئ بعض العلوم الفقهية واللغوية والأدبية على عدد من العلماء في زاوية جدّه، وكان في مقدمتهم الشيخ محمد المكي خال الشيخ الخضر، والذي أحب ابن أخته حباً عميقاً، وتوسّم فيه مستقبلاً زاهراً، فمنحه عناية كبرى،

ص: 179

وأشرف على توجيهه وتعليمه وتثقيفه، وكان الشيخ الخضر يعترف بذلك، ويذكره باعتزاز في أكثر من مناسبة، ومنها قوله:"من أعزها ما تشرفت به من قلم أستاذي الذي شبّت في طوق تعليمه فكرتي، وتغديت بلبان معارفه من أول نشأتي، العلامة الهمام القدوة، خالنا الشيخ سيدي محمد المكي بن عزوز".

وفي سنة 1886 م انتقلت عائلة الشيخ الخضر من "نفطة" إلى تونس للإقامة الدائمة، ويبدو أن سبب هذا الانتقال يعود إلى رغبة والدة الشيخ الخضر في أن يواصل أبناؤها تعليمهم في جامع الزيتونة الذي كان محطة أنظار طالبي العلم. وأن يتعمقوا في معارفهم وعلومهم خاصة، منهم: الشيخ الخضر الذي كانت تلوح منه سمات الذكاء والتفوق منذ صغره، والذي بدأ يقول الشعر وهو في الثانية عشرة من عمره، وكانت والدته تتوسم فيه العظمة والنجاح، وتغني له وهو صغير قائلة:

يا رب الأكبر

خلّيلي محمد الأخضر

في الجامع الأزهر

يعود يقزي وأنا حيّة

التحق الشيخ الخضر بجامع الزيتونة وهو في الرابعة عشرة من عمره؛ أي: بعد سنة من استقرار عائلته بتونس.

وبعد إحدى عشرة سنة من الدرس والجهد والتحصيل في علوم الدين واللغة والأدب، وهي المواد التي كانت متداولة بصفة عامة في جامع الزيتونة لذلك الوقت، وبواسطة علماء بارزين، ومن بينهم: الشيخ المكي بن عزوز، بعد هذه المدة تحصَّل الشيخ الخضر على شهادة (التطويع)، وهي شهادة يستطيع حاملها أن يكون مدرساً في جامع الزيتونة، أو أن ينال مناصب علمية أو

ص: 180

دينية في الوظيف، وقد فضل الشيخ الخضر التفرغ للعلم، واختار أن يكرس حياته للتعليم والتئقيف، والتزود بمختلف المعارف، والتعمق فيها، لذلك انخرط في سلك المدرسين بجامع الزيتونة، وفي الوقت نفسه تابع تحصيله بالمطالعة الجادة، وحضور الدروس الهامة، إلى أن تسامت مكانته، وارتفع شأنه بين أقرانه، وأصبح مضرب المثل في اتساع الباع، وقوة الحجة، وبلاغة المنطق، ورجاحة العقل، وجاذبية الشخصية التي كان يتميز فيها بهدوء الطبع، والتواضع، والتقى، وبالروح الأدبية المرحة.

حصل الشيخ الخضر على (التطويع) سنة 1898، وفي سنة 1904، أسس مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول مجلة عربية تظهر في تونس، وكان يحرر أغلب مقالاتها، وينشر فيها مختلف المواضيع المتعلقة بالشريعة والأخلاق، واللغة والآداب، والتفسير، والفتوى، والرحلات، إلى غير ذلك من المواضيع الهادفة إلى إصلاح المجتمع، وترقية المسلمين.

وقد توقفت هذه المجلة عن الصدور سنة 1905؛ أي: بعد سنة من تأسيسها، وذلك لأسباب مادية، ولموقفها الحيادي بين صراعات العلماء المحافظين والمصلحين في تونس؛ حيث إنها كانت تعبر عن الاتجاه المعتدل لصاحبها، ولم تتورط في الذوبان لصالح فئة ضد أخرى.

وعلى أثر توقف مجلة "السعادة العظمى" تولى الشيخ الخضر منصب القضاء ببنزرت، بتأثير صديقه الحميم الشيخ الطاهر بن عاشور، ولكنه استقال بعد شهور من ذلك المنصب، وعاد إلى التدريس في جامع الزيتونة، وكان في طليعة الداعين إلى إصلاح التعليم، ومن أوائل المؤسسين لجمعية (تلاميذ جامع الزيتونة) سنة 1906.

ص: 181

ونشير إلى أن الشيخ الخضر كان قد قام برحلتين إلى الجزائر سنة 1953، وسنة 1904، زار فيها الأهل والأقارب، والتقى خلالها بعدد كبير من العلماء الأجلاء خاصة في "سوق أهراس"، و"عين البيضاء"، و"قسنطينة"، و"باتنة"، والجزائر العاصمة، كما سجل ذلك في كتاباته.

وربما يكون الشيخ الخضر قد قام بأكثر من رحلتين إلى الجزائر، خاصة عندما كان صغيراً، ويقيم في منطقة الجريد، ولا تفصله مسافة بعيدة من "طولقة". كما أن رحلاته من مصر إلى سورية كانت أكثر مما سجل وعرف عنها، فقد زار دمشق سنة 1952، وزارها كذلك سنة 1955، وتدخل كل تلك الرحلات في إطار خاص، ألا وهو زيارة الأهل والأقارب، سواء إلى "طولقة" لزيارة الأهل والأقارب، أو إلى "دمشق" لرؤية أخيه الشيخ زين العابدين وعائلته.

لقد اشتهر الشيخ الخضر بن الحسين خلال تواجده بتونس، وفي مطلع القرن العشرين، اشتهر بنشاطه الجم في مجالات الإصلاح الديني والاجتماعي، والدعوة إلى يقظة الشباب، وتكتلهم وتشجيعهم على الأخص بمختلف العلوم الحديثة، وممارسة فن الخطابة، والجرأة على قول الحق ومواجهة الصعاب .. اشتهر عنه هذا، إلا أن جانب الخوض في الصراعات السياسية ظل غير واضح إلى حد الآن؛ بسبب ما كان يتصف به الشيخ الخضر من هدوء ووقار، ومن تركيز على الجوانب الدينية الإصلاحية، والبحوث اللغوية والأدبية، غير أن هذا السلوك الظاهري لا ينبغي أن يكون الشيخ الخضر قد قام بأنشطة سياسية كثيرة، ولكن باشكال وصور خفية ومتسترة، نتأكد من ذلك فيما كان يتمتع به من حساسية ووعي ووطنية صادقة .. ومن رفضه عضوية المحكمة التونسية الفرنسية، ومن مشاركته الفعالة للتنديد بالحملة الاستعمارية الإيطالية

ص: 182

ضد ليبيا سنة 1911، ودعوة أبناء المغرب العربي لمساعدة إخوانهم الليبيين، وكذلك من مضايقة السلطات الاستعمارية الفرنسية، ومناوأة أتباعها؛ مما دعاه إلى الخروج من تونس، والهجرة إلى سورية سنة 1912 .. ونتأكد أيضاً من اهتماماته السياسية فيما كان ينشره أو يقوله من نثر وشعر، ومن ذلك ما جاء في قصيدته الداعية إلى نصرة ليبيا حيث يقول فيها:

ردّوا على مجدنا الذكر الذي ذهبا

يكفي مضاجعنا نوم دهى حقبا

ولاتعود إلى شعب مجادته

إلا إذا غامرت همّاته الشهبا

وهي قصيدة عظيمة، منشورة في ديوانه:"خواطر الحياة".

إذن، فالشيخ الخضر -بالإضافة إلى شخصيته الدينية العلمية الأدبية الغالبة- كان يعيش أحداث وطثه السياسية، وكان يسعى بأسلوبه الخاص إلى ضرورة التحرر من الاستعمارة بمحاربته، والتصدي له.

ولعل الدوافع التي أدت لخروج والده وجدّه من "طولقة" إلى "الجريد"، ثم إلى تونس، هي نفس الدوافع التي أدت بهجرة خاله وأستاذه الشيخ محمد المكي بن عزوز إلى تركيا، ثم بهجرة والدته الفاضلة مع إخوته إلى دمشق بسورية سنة 1911، ثم التحاق الشيخ الخضر بهم سنة 1912، وهي دوافع لا تخرج عن مفهوم الابتعاد من مضايقة المستعمر، والبحث عن مناخ تتوفر فيه حرية طلب العلم، وحرية الحركة في ميادينه بكرامة واعتزاز.

كان للشيخ الخضر أربعة إخوة، وهم: الشيخ الجنيدي، وهو أكبرهم، وقد توفي في الجزائر، ويأتي بعده الشيخ الخضر، والشيخ العروسي، والشيخ المكي، والشيخ زين العابدين، ولهم ثلاث أخوات هن: ميمونة، وزبيدة، وفاطمة الزهراء، ومن المعروف أن كل أشقائه كانوا من العلماء الرجال الأفاضل،

ص: 183

ولهم مآثر قيمة في مجالات التدريس والتأليف.

وعندما هاجرت والدة الشيخ الخضر بأبنائها إلى دمشق، كان في استقبالهم عمنا الشيخ قدور خمار الذي كان قد سبقهم بالهجرة إلى تلك الديار سنة 1909، وكانت تربطه بعائلة الشيخ الحسين بن علي بن عمر علاقة قرابة ونسب، حيث كانت شقيقته متزوجة من أحد أفراد عائلتهم بطولقة، ثم بعد ذلك تزوج عمنا من بنات الشيخ العروسي شقيق الشيخ الخضر.

نشير إلى أن الشيخ الخضر عندما التحق بعائلته في دمشق، قد عاد إلى تونس بعد خمسة أشهر تقريباً أمضاها في عدة رحلات إلى سورية ولبنان وتركيا، وقام خلالها باتصالات كثيرة، وأنشطة ثقافية هامة، ولكنه عندما عاد إلى تونس، لم يطب له المقام؛ للمضايقات والتحرشات الاستعمارية التي وجدها، بالإضافة إدى فراغ الجو العائدي الذي أحس به، فعاد إدى سورية بعد شهرين فقط من مكوثه، واستقر بها، بعد أن ترك زوجته التونسية التي رفض أهلها مرافقتها له، وتزوج من دمشق، واستقر بها.

وقد لقي الشيخ الخضر في سورية كل تكريم وإجلال، وتولّى التدريس بالمدرسة السلطانية التي درس بها قبله عدد كبير من العلماء، من بينهم: الشيخ الإمام محمد عبده، كما كان يلقي المحاضرات في الجامع الأموي وغيره من الأماكن المشهورة، وكان يلتف حوله عدد كبير من الشخصيات العلمية والسياسية البارزة، وفي طليعتهم أبناء الجالية الجزائرية في سورية، وأبناء وأحفاد الأمير عبد القادر الجزائري، وذلك لطيب معشره، وارتفاع مكانته العلمية والعائلية، ولشهرته الواسعة التي كانت تعم البلاد العربية والإسلامية، خاصة بعد انتشار مؤلفاته، ومجلة "السعادة العظمى"، وكتب: "الدعوة إلى

ص: 184

الإصلاح"، و"الحرية في الإسلام" وغيرهما.

كان الشيخ من المؤيدين للخلافة الإسلامية، المؤمنين بوحدة المسلمين تحت راية واحدة، ولكنه خلال تواجده في سورية، وفي بداية الحرب العالمية الأولى، كان لا يخفي ألمه وحسرته أمام مظاهر الضعف والانحلال التي كان يراها تدب في كيان الدولة العثمانية، لذلك عندما قام الوطنيون السوريون خلال الحرب العالمية الأولى سنة 1916 ضد نظام الحكم العثماني، قام القائد التركي السفّاح جمال باشا بارتكاب مجزرته المشهورة في دمشق ضد رجال العلم والسياسة، فاعدمهم شنقاً، واتهم الشيخ الخضر بتعاطفه مع الوطنيين السوريين، وسجنه لمدة ستة أشهر، وكاد أن يعدم.

وبعد تبرئته وخروجه من السجن، استدعي من طرف الخلافة العثمانية للعمل في وزارة الحربية التركية ككاتب عربي بالآستانة، يشرف على المراسلات الواردة والصادرة من مركز الخلافة العثمانية إلى البلدان العربية والإسلامية المرتبطة بالدولة العثمانية، ثم أرسله الباب العالي بالآستانة في مهمة سياسية إلى ألمانيا التي كانت تربطها بتركيا علاقة تحالف محورية خلال الحرب العالمية الأولى، ورغم الغموض الذي ما زال لم يتضح تماما حول مهمات الشيخ الخضر في ألمانيا، إلا أنها -في الغالب- تتعلق بموضوع الحرب، ولها صلة بقضية تحرير المغرب العربي، وزعزعة نظام الحكم الفرنسي فيه، ونجد في الوثائق: أن الشيخ الخضر كان قد اتصل في "برلين" بالزعيم التونسي محمد باش حامبه، كما يشارك في إمضاء التقرير الذي أرسلته اللجنة التونسية الجزائرية للدفاع عن المغرب العربي إلى مؤتمر الصلح المنعقد في فرنسا سنة 1917 تحت عنوان:(مطالب الشعب الجزائري التونسي).

ص: 185

وعند سقوط الدولة العثمانية في أيدي الحلفاء، عاد الشيخ الخضر إلى تركيا، ثم إلى سوريا، وكان يعاني من ألمين محزنين: سقوط الخلافة العثمانية، وموت والدته -رحمها الله-.

وظل في دمشق يفيض نشاطاً وإبداعاً، يكتب، ويحاضر، ويدرس، ويؤلف الكتب، ويلتقي بأصدقائه في جلسات مسامرة وأدب، وفي سنة 1917 تم تعيينه كعضو عامل في المجمع العلمي العربي بدمشق، وباختصار، فقد كانت السنوات الثمانية التي عاشها في سورية من أسعد مراحل حياته، ومن أزخرها نشاطاً وحركة وإنتاجاً.

وتشاء الأقدار أن يظل الاستعمار الفرنسي يتتبع بشبحه الرهيب مسيرة شيخنا؛ حيث احتلت سورية سنة 1920 من طرف فرنسا، وكان دخولها إلى دمشق يحمل كل مخاطر التهديد والوعيد للشيخ الخضر، فما كان منه إلا أن يشد رحال السفر، ويهاجر إلى القاهرة عاصمة مصر.

صادف الشيخ الخضر بعض الصعوبات في مصر خلال المرحلة الأولى لإقامته فيها، ولكنه اعتمد على قوة علمه في شق طريقه بنفسه، والتفّ حوله أبناء المغرب العربي المتواجدين آنذاك بالقاهرة، فقام وأسس لهم جمعية (تعاون جاليات شمال إفريقيا)، وكان يدرّس في الجامع الأزهر، وينبري في كتاباته بالرد على المعارضين لمبدأ الخلافة الإسلامية، كما فعل في كتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" رد على كتاب الشيخ علي عبد الرازق، وكذلك فعل مع الدكتور طه حسين في الرد عليه بكتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي". ووقعت بينه وبين الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة "المنار" مشادات كتابية كبيرة، وأصبح الشيخ في مصر قبلة الأنظار، وكانت له المكانة السامية،

ص: 186

حتى لدى الملك فؤاد ملك مصر، واستقبله شخصياً.

ثم قام شيخنا مع بعض زملائه بتأسيس (جمعية الهداية الإسلامية) سنة 1928، وهي جمعية لتوحيد كلمة الشباب من أجل خدمة المجتمع والأخلاق، والاتجاه الديني الإسلامي الصحيح، كما قامت هذه الجمعية بإصدار مجلة تحمل اسمها وهي مجلة "الهداية الإسلامية"، وقد ترأس هيئتها الشيخ الخضر نفسه، ثم تأسست بعد ذلك مجلة "نور الإسلام" الأزهرية، وقد أعطيت رئاسة تحريرها للشيخ الخضرة لما كان يمتاز به من عمق التجربة، وسعة الاطلاع، وعظمة المكانة العلمية والاجتماعية في مصر، وكان ذلك سنة 1930. وفي سنة 1933 عيّن الشيخ الخضر بمرسوم ملكي عضواً في المجمع اللغوي مع أول هيئة مؤسسة من مشاهير العلماء في العالم.

ورغم زخارة النشاط العلصي والديني والصحفي الذي كان يقوم به الشيخ الخضر يومياً، فإن علاقته بأبناء المغرب العربي ظلت قائمة ومستمرة، وكان يقدم المساعدات والتسهيلات للمناضلين، والطلبة الوافدين إلى مصر، ثم قام أخيراً بتأسيس (جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية) التي لم ينقطع نشاطها حتى قيام مكتب المغرب العربي بالقاهرة.

وفي سنة 1950 اجتاز الشيخ الخضر امتحاناً علمياً صعباً، وتفوق فيه تفوقاً باهراً، وأحرز بامتياز على درجة الانتساب إلى (هيئة كبار العلماء)، وهي هيئة لا يصل إليها إلا المتحصلون على أعلى مراتب العلم والثقافة.

وفي سنة 1952 اختير العلامة الشيخ الخضر لتولي منصب مشيخة الجامع الأزهر، فامتنع عن ذلك؛ نظراً لحساسية المهمة وخطورتها، وهو منصب لم يتوله غير مصري من قبل، ولكنه قبل به بعد إلحاح أصدقائه، ووفد

ص: 187

الوزراء الذي زاره في منزله، وعرض عليه المهمة. ويعد تسييره لشؤون جامع الأزهر مدة سنتين، قدم استقالته؛ نظراً لكبر سنه، واعتلال صحته، وقد جاوز عمره الثمانين، وقد أمضى في التدريس بالأزهر أكثر من عشرين سنة، وأمضى عمره كله في الكد والجهد، والبحث والتنقيب، والحل والترحال، والكتابة والتأليف، بحيث لم يمض يوم واحد من عمره إلا وكان له فيه إبداع أو شعاع.

وفي يوم الأحد 13 رجب 1377 هـ انتقل الشيخ محمد الخضر بن الحسين إلى جوار ربه عن سن يناهز الخامسة والثمانين سنة أمضاها جهاداً في سبيل الإسلام والعلم، فرحمه الله، وطيب ثراه. وقد دفن بالقاهرة في مقبرة آل تيمور بوصية منه إلى جوار صديقه الأستاذ أحمد تيمور باشا الذي كان يكنّ له كل الود والتقدير والوفاء.

وبعد:

هل تراني قد قدمت صورة واضحة عن حياة الشيخ الخضر بن الحسين .. ؟ لا أعتقد ذلك .. ومهما فعل الكاتب مثلي لا يستطيع أن يلم بجوانب حياة حافلة بالمآثر لأكثر من نصف قرن، ولرجل كرّس كل أيامه للجهاد والاجتهاد في مختلف ميادين البلاغة والأدب، وأصول الشريعة، والذود عن الإسلام وعن الوطن بالكلمة والقلم، وبالحجة والحق، وبالشجاعة والصراحة، وبكل ما أوتي من قوة في الفكر والروح والبدن.

وقد ترك رحمه الله آثاراً كثيرة مطبوعة، أذكر منها الكتب التالية:"أسرار التنزيل"، "بلاغة القرآن"، "محمد رسول وخاتم النبيين"، "رسائل الإصلاح"، "الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان"، "محاضرات إسلامية"،

ص: 188

"القادياثية والبهائية"، "دراسات في الشريعة الإسلامية"، "السعادة العظمى"، "هدى ونور"، "الرحلات"، "الدعوة إلى الإصلاح"، "تراجم الرجال"، "تونس وجامع الزيتونة"، "راسات في العربية وتاريخها"، "دراسات في اللغة"، "الخيال في الشعر العربي"، "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، "خواطر الحياة"، وهو ديوان شعر.

كما أن للشيخ مخطوطات، وأشعاراً كثيرة، ما زالت لدى أقاربه أو أصدقائه، أو منشورة هنا وهناك في المجلات والصحف والمراسلات، لم تجمع وتنشر حتى الآن.

وأحسن ما اختتم به كلمتي هذه، هو: الدعوة إلى أن يخصص لقاء سنوي للشيخ الخضر بن الحسين، يكون على مستوى دولي عربي إسلامي، يجمع بين من كانوا على صلة به في مختلف أنحاء العالم، أو من لهم اهتمام به، وذلك لإعطائه بعض ما يستحق من الدراسة، والكشف عن شخصيته الفريدة من نوعها، والتي نعتز بها، ونرجو لها المزيد من التعريف والتكريم.

ص: 189