الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من تاريخ الصحافة التونسية "السعادة العظمى 1904" ودورها الحضاري
محمد الشعبوني (1)
إن صاحب مجلة "السعادة العظمى" هو أحد أعلام هذا العصر، الشيخ محمد الخضر حسين، ولدب "نفطة" سنة 1874، والتحق وهو ابن 12 سنة مع والده إلى تونس العاصمة، ودرس بالمعهد الزيتوني، وأحرز على شهائده العلمية والأدبية، وأصدر مجلة "السعادة العظمى"، ثم تولى القضاء ببنزرت حتى سنة 1905، فتولى التدريس بالزيتونة، وبالصادقية، ثم هاجر إلى دمشق مطارداً من طرف الاستعمار، ثم إلى مصر كلاجئٍ سياسي سنة 1922، واستلم رئاسة تحرير مجلة "نور الإسلام"، وعين مدرساً بكلية أصول الدين، ثم أستاذاً متخصصاً. وأنشأ جمعية "الهداية الإسلامية"، وأصدر مجلة باسمها، وعيّن عضواً بالمجمع العلمي العربي بدمشق، وعضواً بالمجمع اللغوي بالقاهرة، ونال عضوية مجلس كبار العلماء برسالته "القياس في اللغة العربية"، وأدار تحرير مجلة "لواء الإسلام"، وترأس (جبهة الدفاع عن شمال أفريقيا)، ثم اختير شيخاً للأزهر سنة 1952، وتوفي سنة 1958 بالقاهرة، ودفن بالمقبرة (التيمورية).
(1) كاتب تونسي معروف - جريدة "الصباح" العدد الصادر في 29/ 8 / 1990 م - تونس.
هذا هو صاحب "السعادة العظمى"، فإذا عن هذه المجلة؟ في وقت لم يكن فيه للمجلة الدينية مكان ببلادنا؟
ظهرت "السعادة العظمى" في 16 محرم 1322 م بقطع من الورق الجيد مقياس 17 - 24، وبعدد 16 صفحة، وقد جاء تحت اسم المجلة ما يلي:"مجلة علمية أدبية إسلامية تصدر غرة كل شهر عربي، وفي سادس عشر منه". ولما ظهرت المجلة، استقبلها أهل العلم والأدب بكل حفاوة وترحاب، وكانت في الوقت نفسه وخزاً للمستعمرين الذين حاربوا ولاحقوا أصحابها، وضايقوا مديرها، حتى تعطل صدورها، ولم يمض عام على ظهورها، وكان آخر عدد ظهر منها يحمل رقم (21) قعدة 1322 هـ، وكان صاحبها يصدرها من منزله نهج (رحبة الغنم)(1) بالعاصمة.
أما عن محتواها، فهو كما أشار العدد الأول في افتتاحيتها التي استغرقت صفحات كامل العدد ما نقتصر على بعض عناصره: "تفاتح مطالعيها بمقالة تتخذ مظهراً لبعض مطالب تقتضيها المحافظة على حياة مجدنا القديم، ويتلوها باب تعتبره معرضاً لعيون مباحث علمية، ولا تريد إلا انتظامها في ما هو التحقيق، بما يتخللها من الأفكار السامية، ويتلوهما باب ثالث تنشر فيه من الآداب ما يكون مرقاة للتقدم في صناعتي الكتابة والشعر لا يتمتع بها عند المسايرة ثم ترقص كأضغاث أحلام - ونقصّ في هذا الباب من التاريخ أحسن القصص، ويتصل بذلك باب رابع في الأخلاق، ويلي باب آخر للأسئلة والاقتراحات، ثم خاتمة عنوانها مسائل شتى.
ومن مقاصد هذه المجلة: التعرض لما تتناوله الألسنة، وتتناقله الأقلام
(1) المعروف اليوم باسم: (معقل الزعيم).
من الأحاديث الموضوعة. وأورد المؤلف في افتتاحية مجلته اثني عشر استطلاعاً لبيان ما سيدرج تحت كل باب منها، من دراسات ومعارف، ذاكراً أن المجلة مستعدة لقبول ما يرد عليها من الرسائل المنقحة التي تنطبق على المنهج الذي كنا بصدد تسويته، ولا أخاله إلا صراطاً سوياً، ونؤمل من عواطف هؤلاء الفضلاء أن ينظروا إلى ما تنطوي عليه صحائف هذه المجلة كيفما صدرت نظر بحث وانتقاد، وإن عثروا على نوع ما من الخلل، جاهرونا به، ولا نتلقاه إلا بفساحة الصدر، وغاية الارتياح، بل ربما استدللنا على ذلك بنجاح المسعى، ومن انسدت أمامه طرق الإذعان إلى الحق، عميت عليه أنباء التحقيق.
يقول الشيخ محمد العربي الكبّادي:
(سعادتكم) فينا لقد طلعت شمسا
…
فكلٌّ لها أضحى مشوقاً كما أمسى
ولله ما خطّت يراعتك التي
…
برقَّة ما تبديه تمتلك النفسا
مجلة علم لم تجل في ضلالة
…
ولكن جراحات الضلال بها تؤسى
أما الشيخ محمد الحشايشي، فقد حياها بقوله:
تشرفت باستطلاع فكركم الأسمى
…
وما ذاك إلا الدرّ ترسمه رسما
مجلتكم روض من العلم يانع
…
سترقى بفضل الله أغصانه النجما
وقد خلصت من كل بدعة زائغٍ
…
فحقاً بأن تدعى: (سعادتنا العظمى)
ومن لم يشارك في السعادة قاصر
…
على نيلها فاسعد ودم جهبذاً قرما
وكثير هم العلماء والأدباء الذين استقبلوا ظهور المجلة بقصائدهم؛ كالمشايخ: محمد النخلي، والصادق المحرزي، وإدريس محفوظ، وصالح سويسي، ومحمد شاكر، ومحمد العزيز الشيخ، والأمين بوعلاق، ومحمد
المذكور بن الصادق، والطاهر بو دربالة، والشاذلي خزندار، وغيرهم. مما نشرت قصائدهم بكتاب "السعادة العظمى".
يقول محمد الطاهر بودربالة:
ذا زهر روض عاطر الأردان
…
أعقود درّ في نحور غوانِ
أم ذي السعادة للهدى قد أقبلت
…
حيّت فأحيت مجمع العرفان
عربية شهدت لها أترابها
…
وغدت تحليها بحسن بيان
أما علّامة العصر، ومفخرة القطر، الشيخ الإمام محمد الطاهر بن عاشور، فقد أورد في كتابه لصاحب المجلة ما يشير إلى رأيه فيها:"ما زلت راجياً أن أرى منا ناهضاً يحيى لهاته الأمة فخاراً، ويقول لأهلها: امكثوا إني آنست ناراً، فهذا رجائي قد أسفر عن مجلتكم العظمى، وعسى أن يقارنها من تعضيد المؤازرين ما تحقق به الآمال، وسيكون-إن شاء الله- من اسمها للأمة أصدق قال. لكنك ستجد في صنيعك هذا ألسناً شاجرة، وصدوراً ثائرة، وعيوناً متغامزة؛ كما وجد الناهضون من قبلك، فإن استطعت أن لا تزيدك أراجيفهم إلا معرفةً بكبر نفسك، وتصميماً على غاية فكرك، ولهواً عن قولهم؛ فإنهم حاسدون، ويأساً من نصرتهم، فأولئك هم الخاذلون، ولتكن استعانتك وتوكلك على من كفل الهداية إلى الصراط المستقيم، فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم".
وهكذا أصبح اسم الشيخ الخضر حسين مقترناً باسم مجلته "السعادة العظمى"، هذه المجلة التي تناولت من المباحث العلمية:(الاعتصام بالشريعة)، و (الأخذ بالقول الراجح)، و (براءة القرآن من الشعر)، و (العمل والبطالة)، و (حياة الأمة)، و (التربية)، و (التقدم بالكتابة)، و (النهضة للرحلة)، و (مدنية
الإسلام والعلوم العصرية)، و (كبر الهمة)، و (التعاون والتعاضد)، و (الديانة والحرية المطلقة)، و (البدعة)، و (الزمان والتربية)، و (الصيام)، و "الأحاديث الموضوعة).
وتناولت عن المباحث الأدبية: (تقسيم الكلام بحسب أغراضه)، و (الإبداع في فنون الكلام)، و (طريق الترقي في الكتابة والشعر)، و (الشعر العصري)، و (الكلام الجامع). وحياة بعض الأعلام؛ كأبي بكر بن العربي، وأبي الوليد الباجي، ومنذر بن سعيد، وتحقيق مسائل تاريخية، والرحلة الجزائرية، أما الأسئلة والأجوبة، فقد كانت متنوعة عن اليلة النصف من شعبان)، و (صوت المرأة)، و (الاقتباس من القرآن)، و (الطب النبوي)، و (الاستخارة)، وغيرها.
هذه هي مجلة "السعادة العظمى" التي تعد أول مجلة دينية ظهرت بتونس في أوائل هذا القرن. نختم باستعراض حياتها بهذه الأبيات لشيخ شعراء "صفاقس" الأستاذ محمد شاكر يراسل بها صاحب المجلة:
هناء لهذا القطر بالمأمل الأسمى
…
وبشراه إذ لاحت سعادته العظمى
مجلة علم طالما استشرفت لها
…
نفوس ذوي الآداب ممن حوى العلما
فمدوا أولي الألباب أيدي جدّكم
…
عسى أن ترى الإسعاد للقوم قد تمّا