الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين القاسم الشابي ومحمد الخضر حسين
البشير العريبي (1)
ظاهرة غريبة -وإن كانت بسيطة- تلاحظ في بعض إنتاج الأديبين التونسيين الكبيرين: أبي القاسم الشابي، ومحمد الخضر بن حسين.
وقبل بسط هذه الظاهرة تجدر الإشارة إلى حقائق تبدو ذات ارتباط بها، بل هي كالممهدة لها، والمؤذنة بها، وأخص ما فيها أنها -كلها- قدر مشترك بين الأديبين.
أولى تلك الحقائق: أن كلاً من الرجلين أصيل الجنوب الغربي التونسي المعروف باسم: (بلاد الجريد).
فالشابي ينتسب إلى "الشابية" من ضواحي "توزر".
وابن الحسين ينتسب إلى "نفطة"، وهي من نفس المنطقة "ولاية توزر".
وثانية الحقائق: أن كليهما يصدر عن بيت علم وصلاح وتصوف، كما أن كليهما كانت له - بعاً لذلك- اهتمامات بالعلم والفكر، والأدب شعره ونثره:
فالشابي جده: (سيدي عرفة الشابي) .. وأبوه كانت له رحلة في طلب
(1) كاتب تونسي. جريدة "الصباح" الصادرة بتاريخ 21/ 3/ 1995 م، تونس.
العلم؛ حيث تخرج من الجامع الأزهر، وقد ولي بعد عودته إلى البلاد التونسية منصب القضاء الشرعي في مناطق متعددة يعرفها كل من تابع حياة أبي القاسم وتنقلاته.
والشابي نفسه درس بجامع الزيتونة الأعظم، وتخرج منه بشهادة (التطويع)، وانتسب إلى (دروس الحقوق الفرنسية) التي كانت شعبة من التعليم العالي، مهدت لقيام (كلية الحقوق).
وابن الحسين جدّه (سيدي الحسين)(1) الذي كان معروفاً في حياته بالإصلاح، وأنشأ له مريدوه بعد وفاته (زاوية) كانت قائمة الذات قبالة (سيدي عبد الله) على مرتفع كان يقع في الجانب الشرقي لكلية الآداب بتونس اليوم، وقبره في تلك الزاوية كان يزار ..
والشيخ الخضر نفسه كان من علماء جامع الزيتونة، وممن تولوا القضاء الشرعي بإحدى مناطق البلاد التونسية "بنزرت".
كما التحق بعد ذلك بالمشرق العربي الإسلامي، واستقر -كما هو معلوم - بمصر، وأصبح من كبار علماء الأزهر الشريف، بل وولي مشيخة الجامع الأزهر في مطلع ثورة 23 جويلية 1952 المصرية.
وثالثة الحقائق يمكن استخلاصها من ثانيتها، وهي: ميل الرجلين وعائلتيهما إلى توثيق الصلة ببلاد المشرق، والتعامل مع الإخوة الشرقيين كالتعامل مع مواطنيهم التونسيين.
فقد ذكرنا أن والد أبي القاسم الشابي درس بمصر، وتخرج من الأزهر.
(1) الصحيح: والده سيدي الحسين، وجده سيدي علي بن عمر دفين "طولقة" في الجزائر.
ونعرف أن أبا القاسم نفسه كون صلات أدبية قوية بأدباء المشرق، وخاصة مصر، وفي مقدمتهم:(جماعة أبولو) التي كان يتزعمها الشاعر الشهير (أحمد زكي أبو شادي) الذي أصدر أول مجلة شعرية عربية تحمل عنوان (أبولو)، على صفحاتها ظهر شعر الشابي، وكان لها أكبر الفضل في تعريف قراء العربية به على نطاق أوسع من النطاق التونسي الصرف، مما أنشأ لسمعته رصيداً ملحوظاً،
وكثر من ذلك، فإن أحمد زكي أبا شادي كان صاحب مجموعات شعرية متعددة، ولعله أول شاعر عربي معاصر يصدر شعره في مجموعات بدل ديوان واحد. ومن تلك المجموعات: ديوان بعنوان "الينبوع" الذي كان صدر مصدراً بمقدمة كتبها أبو القاسم الشابي.
ولنتصور أبعاد هذا الموقف، وأي معنى يحمله: زعيم مدرسة شعرية متطورة، يبشر بها عن طريق مجلة ينشئها خصيصاً لذلك، يضع ثقته في شاعرنا التونسي؛ ليتولى تقديمه إلى قرائه في ديوان من أهم دواوينه.
ذكرنا -أو أشرنا- إلى أن محمد الخضر بن الحسين قد ارتحل إلى المشرق، ونذكر أنه تنقل بين مختلف أجزائه، وقام في كل منها بنشاط يستحق الذكر، في "الآستانة""تركيا"، وفي "دمشق" إذ أقام حيث أقام بعض أفراد أسرته، وخصوصاً الشيخ زين العابدين بن الحسين. ثم استقر به المقام -كما سبق- في مصر التي أصبح فيها قطباً من أقطاب العلم والأدب والاجتماع، مما لا يتسع المقام لبسطه، وتسنَّم أعلى المناصب الدينية واللغوية.
هذه بعض الحقائق التي ارتأينا بسطها قبل عرض الظاهرة الأدبية التي أومأنا -منذ البداية- إلى أنها تجمع بين أديبينا: الشابي، وابن الحسين، بصفة
توشك أن تكون متعمدة، حتى كأن كلاً منهما يترصد خطا الآخر فيها، سواء في الشعر، أو في النثر، رغم ما بينهما من الفوارق، في التوجه الأدبي، والمنزع الشخصي:
فأبو القاسم الشابي كان ممتلئاً شباباً، وميلاً نحو التجديد إلى حد الثورة، وتعاملاً مع حداثي زمانه، وتأثراً بالأدب المهجري والأجنبي.
ومحمد الخضر بن الحسين كان شيخاً رصيناً، يتسم بالمحافظة، سواء عندما كان في تونس، أو عندما ارتحل عنها، وكان قوام معارفه: الدين، والأصالة اللغوية.
أقول هذا عن الشيخ الخضر، رغم علمي بأنه كان -هو الآخر- يحمل بذور الثورة، ولا مجال هنا للحديث عن أسباب هجرته من تونس، وهي وليدة ثورة عن موقفه في تركيا، وردود الفعل التي ترتبت عليها، أو عن مساهماته في النضال ضد المستعمرين .. ولكن يكفي أن أشير إلى أنه كان معنياً بإشاعة معاني التحرر الصحيح، ولا أدل على ذلك من كتابه الذي أصله محاضرة ألقيت بتونس، ودرس فيها بعناية معنى "الحرية في الإسلام".
وأخلُص إلى (الظاهرة) التي دعتني إلى الحديث عن الرجلين، فأقتصر هنا على ذكرها، وأفسح المجال أمام الآخرين ليبحثوا فيها، إن أرادوا، وقد أعود إليها في فرصة، أو فرص أخرى.
والظاهرة بسيطة في ذاتها، كما قلت من قبل، ولكنها تنم عن نوع آخر من الاشتراك بين أديبينا، اشتراكاً قد تكون بواعثه نفسية، أو بيئية، أو غير ذلك، رغم الفوارق التي ألمعنا إليها بينهما. وتتجلى تلك الظاهرة من جهة: في إنتاجهما الشعري، وبالخصوص
في عنواني ديوانيهما، ومن جهة أخرى: في أثرين من إنتاجهما النثري.
أما في الشعر، فقد تعلق كل منهما بالحياة، ولكن على طريقته، فكان إحساس الشابي بالألم، ومعاناته للمرض، وتوْقه الذي لم يتحقق إلى لون معين من الحب، وشعوره العارم بأن الموت يلاحقه في كل مجال، والفناء يطارده بكل سبيل .. كل ذلك ولَّد فيه ردود فعل إيجابية مرة، وسلبية مرة أخرى، ولكن الإيجابية هي التي تغلبت؛ إذ جعلته يتحدى كل تلك العوامل المؤلمة، ومما عبر عنه أصدق تعبير ببيته الشهير الذي سمي به وبأمثاله:(شاعر الحياة):
كالنسر فوق القمة الشماء
…
سأعيش رغم الداء والأعداء
وانعكس تحديه على ديوانه الذي اتخذ من الحياة جزءاً من عنوانه: "أغاني الحياة".
وقد كان لصاحبه ابن الحسين نظرات إلى الحياة، قد تتفق مع نظرات الشابي، وقد تختلف عنها في جوانبها الشخصية والاجتماعية والسياسية .. ولكنها تتفق معها على كل حال في: الإحساس بالظلم والضيم، والتمرد عليهما، والْتماس حياة أفضل في الداخل، وإلا، كان التماسها في الخارج، ويتفق مع الشابي خاصة في انعكاس نظراته تلك على ديوانه، الذي اتخذ الحياة، كصاحبه جزءاً من عنوانه:"خواطر الحياة".
وأما في النثر، فقد عالج الأديبان الكبيران -كل بطريقته أيضاً- موضوعاً واحداً، أعتقد أن البون كان فيه شاسعاً بينهما .. وهو موضوع (الشعر العربي)، وما له صلة به من (الخيال) الذي هو في اعتبار العرب القدامى والوسيطين عنصر أساسي لا يسمى الشعر بدونه شعراً.
ومهما كان ما بين الباحثين في هذا الموضوع من الاختلاف عميقاً وجوهريا، فالذي يسترعي الانتباه فيه: اشتراكهما في عنواني كتابيهما إلى حد أنه يكاد يكون عنواناً واحداً.
فإذا كانت محاضرة أبي القاسم الشابي الشهيرة تحمل عنوان: "الخيال الشعري عند العرب"، فإن محمد الخضر بن الحسين له كتاب كذلك يحمل عنوان:"الخيال في الشعر العربي".
ترى أيكون هذا وسابقه كلاهما من باب الصدفة .. مجرد الصدفة؟ أم هناك تعمل وتعمد؟ فما بواعثه؟ وما مسماه وأبعاده؟
ولئلا نظلم أياً من الرجلين، نتساءل، ونحتفظ بالإجابة:
أي الأديبين أسبق إلى إعداد ديوانه، وإلى اختيار ما أزمع أن يطلقه عليه من تسمية؟
أي الرجلين أسبق عناية بالبحث في مدى توفر (الخيال) في الشعر الذي تناقلناه عن العرب أو عدم توفره؟
ثم ما الذي أثبته كل من الرجلين في بحثه؟ وما أدلته على ما وصل إليه من نتائج؟ وإلى أي حد كانا فيما عالجناه من ذلك متفقين، أو مختلفين، أو بين بين؟
الأسئلة التي يمكن أن تثار هنا كثيرة، والإجابات عليها قد تؤلف بحثاً مطولاً، رغم أن منطلقها بسيط -ظاهراً- كما سبق.
وعلى كل، فالموضوع يحتاج إلى دراسة جادة للكتابين، وإلى مقارنة واعية، وتحليل ودعم.